وها هي القاهرة في طريق العودة إلى موقعها الطبيعي وإلى دورها الذي لا بديل منها فيه، تتقدم شاهرة هويتها العربية صريحة متوهجة، على وقع المرحلة التي تميزت بإنجازاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحت قيادة جمال عبد الناصر، سواء على صعيد الداخل المصري أم على صعيد الوطن العربي جميعاً، بل وعلى المستوى الدولي أساساً، عبر حركة عدم الانحياز بقادتها التاريخيين، نهرو وتيتو وشو إن لاي. لم يطل الغياب أو التغييب هذه المرة: سنة واحدة من حكم «الإخوان المسلمين» بشخص الدكتور محمد مرسي، تحت راية تنظيمهم الدولي، وفي ظل رعاية أميركية معلنة ولكنها لا تصل إلى حد التبني الكامل، وبدعم مالي وفرته قطر بعد مساومات علنية، في حين ظلت «مفاوضات» البنك الدولي وصندوق النقد الدولي معلقة على الالتزام بشروط مستحيلة. ...ولكنها سنة طويلة جداً، حفلت بالمناورات المكشوفة أغراضها، والاستفتاءات المرتجلة، والقرارات الهادفة إلى احتكار السلطة واستبعاد الآخرين، كل الآخرين، عن المشاركة في حكم، كان بأمس الحاجة إلى شركاء جديين، ولهم ثقلهم الشعبي، خصوصاً ان نسبة المقترعين «للرئيس» بالكاد تجاوزت نصف الأصوات... وبعد جهد جهيد وتنازلات جدية من بعض المنافسين ذوي الحضور الشعبي. وهي سنة طويلة جداً، لأن الحكم الإخواني قد تسبب خلالها بخسارة الكثير من رصيد مصر، دولياً وعربياً وأفريقياً، تكفي حكاية أثيوبيا وموضوع السد فيها كمثال. في حين انه لم ينجح في إعادة العلاقات إلى سويتها لا مع روسيا ولا مع الصين، ولا هو تقدم بالعلاقات مع أوروبا، ولا هو استعاد موقع مصر الممتاز مع دول عدم الانحياز (الهند وأميركا اللاتينية وإيران التي استضافت المؤتمر الأخير قبل شهور). ها هي مصر، إذن، تستعيد روحها، وجماهير ميادينها تؤكد هويتها ودورها القيادي في أمتها، وتغنّي أناشيد المرحلة الناصرية التي حملت مصر إلى موقع القيادة في محيطها العربي، وإلى الموقع المؤثر في القرار الدولي. وها هي الجماهير العربية في المشرق والمغرب تستقبل مصر العائدة إلى دورها الذي لا تعوضها فيه أية دولة عربية أخرى، بفرحة غامرة، مستبشرة بانتهاء عصر الضياع عن الهوية والدور، وعن القيادة بطبيعة الحال. لقد كشفت تطورات الأحداث، بالنهاية التي جاءت سريعاً ومن خارج التوقع، أن تنظيم «الإخوان المسلمين» قد يكون اكبر الأحزاب السياسية في عديد أعضائه ومناصريه، ولكنه أصغر بكثير من أن يمثل مصر لوحده. كذلك فقد كشفت هذه التطورات انه لم يحافظ على مكسبه الممتاز، الوصول إلى الرئاسة، بعدما اختار بعض خصومه من المنافسين أن يدعموا رئيساً منه لأن مرشحه حاز اكبر نسبة من الأصوات في الدورة الانتخابية الأولى... فهو قد فاز لان المنافسين لم يتفقوا على واحد منهم، وبالتالي فإنه لم يكن في موقع «الرئيس» ممثلاً للأكثرية الشعبية. وهو قد انكشف حين أصر مكتب الإرشاد على احتكار السلطة في جماعته من المحازبين والمناصرين فقط. على هذا فإن إخفاقه جاء مدوياً وغير مسبوق: كسب الرئاسة وخسر البلاد! وهكذا فإن الإخوان قد ارتكبوا الخطيئة ذاتها التي سبق أن ارتكبتها أحزاب أخرى، خصوصاً في المشرق، حين استغنت بنفسها عن القوى الشعبية المنافسة أو المختلفة في الشعار أو في الخط السياسي. لقد سقطوا حين رفضوا صياغة حكم جبهوي يضم الكفاءات المميزة في مختلف القوى والتنظيمات ذات الوجود الشعبي في مصر، ولو في موقع «الخصم»، من أجل إنجاح الحكم باسم الثورة التي احتشدت ملايينها في الميادين، طوال السنة، غالباً بالاحتجاج ورفض التفرد ومحاولة تمرير القرارات الخاطئة بالاستفتاءات الشعبية سيئة السمعة في الوطن العربي عموماً. وسقطوا حين عجزوا عن تحويل المصادفة القدرية إلى فرصة تاريخية لإثبات أهلية تنظيمهم العريق للحكم، متجاوزاً عصبيته الحزبية. كذلك فهم قد سقطوا حين عجزوا عن الإفادة من هذه الفرصة التاريخية لمراجعة شاملة لتجربتهم ونقدها بصراحة تؤهلهم عند الشعب لطلب التسامح مع أخطائهم في الماضي مع التعهد بتصحيح المسار مستقبلا. لقد كانت الطريق إلى السلطة ملغمة بالنزعة إلى احتكارها.. وها هي السلطة في مصر قد تحولت إلى محرقة تكاد تلتهم رصيد اكبر التنظيمات الشعبية وأعرقها لأنه تبدى وكأنه يجيء من خارج العصر. ولعل بين ما غفلت عنه قيادة «الإخوان» أن الجيش في مصر غيره في بلاد عربية أخرى، مثل سوريا أو العراق أو اليمن. إنه في مصر كان وما زال وسيبقى مؤسسة وطنية راسخة، موحدة، يصعب الانشقاق فيها أو الخروج عليها. أما في المشرق العربي، فقد استطاعت الأحزاب السياسية أن تخترق الجيوش، أو أن الهزيمة هي بالفعل من وفر للأحزاب فرصة اختراق الجيوش تحت شعارات فلسطين والوحدة والعدالة الاجتماعية... وعبر الصراع بين هذه الأحزاب التقليدية التي لم يكن أي منها يملك مشروعاً للتغيير الفعلي وبناء البلاد على قاعدة اقتصادية متينة وفهم عميق لآمال المجتمع وحاجاته، لجأ بعضها إلى الاستعانة بأنصاره في قلب الجيش. والكل يتذكر فترة الخمسينيات، ثم معظم سنوات الستينيات في سوريا، وأعداد الانقلابات أو مشاريع الانقلاب للاستيلاء على السلطة، تارة باسم الوحدة، وطوراً من اجل الانفصال، تارة باسم الاشتراكية وإنصاف الفقراء، وطوراً باسم منع الظلم «وإعادة الحقوق إلى أصحابها» أي إعادة مركزة الثروات في أيدي القلة التي تحكم الحكم. ولقد كان لانخراط الجيش في السياسة وإقدامه على قلب السلطة المدنية، وفرض الحزب الواحد، آثار مدمرة على المجتمعات في المشرق العربي. على أن الجديد مع ثورة مصر هو هذا الهجوم السعودي المباغت بالتأييد المطلق، والاستعداد للدعم المفتوح. مفهوم أن يكون بين أسباب هذا الدعم تعزيز الحكم الذي جاءت به الثورة في نسختها الثانية في وجه الغواية «القطرية»، لكن المؤكد أن في طليعة الأسباب الموقف العدائي تجاه «الإخوان المسلمين». ومعروف أن الرئيس الإخواني الدكتور محمد مرسي ومعه بعض أركان الحزب قد نافقوا الحكم السعودي وتوددوا إليه في غير مناسبة، ولكنه ظل بارداً إزاءهم، وهو الذي له موقف سلبي تاريخياً من «الإخوان المسلمين» وتنظيمهم الدولي. ومعروف انه، بالمقابل، يناصر السلفيين ويدعمهم سياسياً ومادياً... ولعله يراهن على أن يلعب هؤلاء دوراً ما، ولو محدوداً، في «العهد الجديد»، وتكون لهم حصة في كعكته. لقد نافق معظم الحكام العرب «الإخوان» حين تولوا السلطة، فجاءهم البعض، وتواصل معهم بعض آخر مشجعاً، لكن الأغنياء من هؤلاء الحكام (في ما عدا قطر) لم يترجموا تأييدهم نقداً. أما الفقراء منهم فقد حاولوا تحصين أوضاعهم في وجه الافاقة الإسلامية لضرورة الاستيلاء على السلطة وإقامة شرع الله... فتبدى وكأن الكل يقبلون بالشعار الإسلامي حاكماً ولكن خارج البلاد التي يحكمونها. فالسعودية، ومثلها معظم دول الخليج التي لا تقبل «الإخوان» من أهلها، وتطرد «الإخوان» الوافدين، والذين كشفوا عن نشاطهم بعد انتصار «الإخوة في مصر»، قد أظهرت ارتياحاً بل وحماسة لتخلص مصر من حكم «الإخوان»، وهو التنظيم الممتد في مختلف الدول الإسلامية، وعبرت عن هذا الارتياح بحماسة وهي تسمع القيادة المصرية الجديدة تعلن أنها تهتم أولاً وأساساً بمصر، ويلزمها وقت طويل قبل الالتفات إلى محيطها العربي محرضة على التغيير أو ساعية لإحداثه. المهم أن مصر عائدة إلى ذاتها، وهي عربية، والى دورها، وهو عربي بامتياز، وأن فجراً جديداً ينشر الضوء في الأرض العربية مبشراً بغد عربي جديد سوف ينبثق من قلب الصعوبة. "السفير"