كأننا نشهد نهايات مبكرة للتنظيمات الإسلامية، لأنها لم تستوعب تجارب الأحزاب القومية والتقدمية والوطنية عندما توفرت أمام بعضها فرصة القفز إلى سدة السلطة، فعجزت عن أن تسوس الحكم فخلعها.. إن تجربة «الإخوان» في تونس لا تبشر بالخير، أما تجربة الإخوان في مصر فإنها تأخذ إلى اليأس. يوما بعد يوم، يثبت «الإخوان المسلمون»، في مصر وبعدها في تونس، أنهم قد استولوا على السلطة أكثر مما وصلوا إلى السدة عن جدارة واستحقاق، وإنهم ما زالوا يتصرفون بمنطق التنظيم السري الذي يخاف النور، ولا يثق بالقوى السياسية الأخرى ذات التاريخ في معارضة الطغيان، ولا يطمئن إلى الشراكة معها، ولو لفترة انتقالية. إنهم يتناسون تاريخهم الطويل في المعارضة، بل لعلهم يريدون تعويضه بالسرعة القصوى، وبالتفرد المطلق، حتى لو اقتضى الأمر التصادم الدموي مع المعارضين الآخرين الذين كانوا الأسبق إلى النزول إلى الميدان والثبات فيه والأعظم جذرية في مطالبهم التي تتجاوز إسقاط الطغيان إلى محاولة رسم إطار لنظام ما بعد الثورة بالوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي، بل إنهم يتصرفون تحت ضغط الخوف من الوقت، فيتعجلون السيطرة في اللحظة التي جاءت أخيرا، ومن خارج التوقع فضلا عن التخطيط، فوفرت لهم الفرصة للقفز إلى سدة السلطة، معلنين أنهم لن يتخلوا عنها بأي حال، حتى لو اقتضى الأمر التوغل في الدم والتصادم مع «الشارع» الذي كانوا يزعمون أنه مصدر قوتهم. باختصار، لقد انكشفت رغبتهم الدفينة في التفرد واحتكار القرار، مهما بلغت التضحيات، أي الخسائر في الأرواح والممتلكات ومؤسسات الدولة.. ولقد صار التوغل في الدم أمرا واقعا، له من يفتي فيه فيحلله، ويطلع على الناس مبررا بفظاظة، مسلحا بلحية طويلة غير مشذبة وأحاديث بلا إسناد ومقولات من زمن الجاهلية، توقع الحرم على النساء وتُخرج من الدين كل من اعترض بالتظاهر أو بالكتابة أو بالهتاف ضد «حكم المرشد». البداية كانت مصر: مقتلة شباب الثورة في «الميدان» وأمام أبواب قصر الرئاسة في القاهرة، والتصدي بالعنف والتشهير للحرائر من الشابات والنساء، ثم كانت المذبحة في بورسعيد وفرض حالة الطوارئ وإنزال الجيش في مدن القناة، بعد إصدار الأحكام في مأساة «شهداء الألتراس». أما في تونس، التي تحايل «الإخوان» ممثلين في «حزب النهضة» في السيطرة على السلطة عبر ائتلاف مع قوى سياسية أخرى، بهدف كسب الوقت للتمكن، فقد انفجر الوضع مع جريمة اغتيال المناضل التقدمي شكري بلعيد... وهكذا تحول تشييع جثمان الشهيد إلى ما يمكن اعتباره نقطة البداية لمرحلة سقوط حكم «الإخوان». ولم يكن أمرا عارضا أن يعلن رئيس الحكومة، وهو القيادي التاريخي في «حزب النهضة» والخارج من سجن دام لأربعة عشر عاما، استقالة حكومته على الهواء وبدون الرجوع إلى قيادته الإخوانية، والدعوة إلى تشكيل حكومة تكنوقراط لفترة انتقالية تتوج بانتخابات نيابية. وكان رد فعل «الزعيم» راشد الغنوشي فاضحا، إذ سفه دعوة «رفيقه» وأصر على إعادة تشكيل حكومة سياسية، للإخوان فيها موقع الصدارة... ربما لضمان النتائج في الانتخابات العتيدة. في حالة مصر: يكابر «الإخوان» الذين أوصلتهم المصادفات وخلو الساحة من تنظيمات سياسية فاعلة وذات برامج وقدرة على المبادرة، إلى سدة السلطة، فيرفضون أية صيغة للشراكة مع القوى السياسية الأخرى في المرحلة الانتقالية، ويصرون على الانفراد بالحكم ويتابعون تنفيذ خطتهم للسيطرة على مواقع القرار، أمنيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وكأن البلاد خلت من الكفاءات والقدرات وأصحاب التجارب الناجحة، ولم يعد فيها غيرهم من المؤهلين لقيادة البلاد في الظروف الصعبة التي تعيشها. وفي حين تصرفت قيادة «حزب النهضة» بقدر من الدهاء وهي تعقد الشراكة مع حزبين لهما قواعد شعبية في تونس لكسر صورة المتفرد بالسلطة، فإن «قيادة المرشد» في مصر ترفض الشراكة، بل وتفتعل الأسباب لعرقلتها ومنعها بسلسلة من المناورات المكشوفة والعروض التي لا يمكن قبولها، متخذة من ذلك ذريعة للتفرد بالقرار في دولة تهاجر الكفاءات من أبنائها، بمئات الآلاف، إلى الخارج، أي خارج، بحثا عن فرص عمل لا تتناسب مع كفاءاتهم، ولكنها تكفيهم ذل السؤال. «إخوان» مصر يرفضون الشراكة من حيث المبدأ، ويصرون على حكومة عجزت عن تأكيد حضورها الفاعل في مواجهة الأوضاع الصعبة التي تعيشها البلاد.. ويسعون بكل طاقتهم إلى السيطرة على مختلف الإدارات الأمنية والتربوية والاجتماعية، حتى إذا ما انتهت الفترة الانتقالية (وهي مفتوحة) بالانتخابات الموعودة (وهي مجهولة الموعد) يكونون قد باتوا في موقع القرار في كل وزارة أو إدارة، ولاسيما في وزارة الداخلية والتربية والأجهزة الأمنية. أما «إخوان» تونس، الذين قبلوا بالشراكة اضطرارا وبهدف كسب الوقت من أجل التمكين، فقد نزلوا إلى الشارع رفضا لاقتراح صاحب التاريخ النضالي من قيادييهم حمادي الجبالي بإقالة الحكومة الائتلافية وتشكيل حكومة تكنوقراط تمهيدا لإجراء الانتخابات النيابية، وبعد ذلك يمكن العودة إلى الحكومة السياسية... بعد فترة تنفس أو تنفيس للشارع المحتقن. يتجاهل «الإخوان»، في مصر أساسا، ومن ثم في تونس، تجارب الشعوب العربية الأخرى في المشرق، تحديدا، والدروس المستفادة منها، وأولها أن ليس من حزب واحد استطاع أن يقفز إلى السلطة، وغالبا بالاتكاء على الجيش، وأن يبقى فيها إلا بكلفة دموية هائلة، حتى لو موه تفرده بتركيب «جبهة وطنية عريضة» من أحزاب عفا عليها الزمن أو تنظيمات استولدها على عجل وحشر فيها بعض الذين لا تاريخ لهم وبعض منافقي السلطة، واختار لهم قيادتهم -»ديمقراطيا»- من رجال الأمن أو بعض كوادره «السريين»، فضلا عن الهامشيين الطامحين إلى أية شراكة مع الحاكم ولو من موقع التابع. وهذه تجربة حزب البعث في كل من سوريا والعراق تشهد -بنتائجها المأساوية- على فشل تمويه الانفراد بالسلطة من خلال تركيب «بقايا أحزاب» من الماضي في «جبهة وطنية» لا دور لها في القرار، وإن تبرعت بتوقيعه التزاما ب»أصول التحالف» من موقع الملتحق. وفي الغالب الأعم، فإن وظيفة هذه الجبهة هي أن تغطي التفرد بالقرار بخديعة مزدوجة: أن «القائد» قد عرض الأمر على «حزبه» ولكنه أصر على إظهار ديمقراطيته، شخصيا، والتزامه بموجبات «القيادة الجماعية»، وهكذا فإنه لم يعلن قراره إلا بعد أن حظي بموافقة «المؤسسات الديمقراطية»، وهي مجموع الهيئات التي ركبها «القائد» داخل الحزب الحاكم بداية، ثم في الجبهة الوطنية التي تظهر في «الصورة» ولكنها لا تظهر في القرار. إن تجربة «الأحزاب العقائدية» في المشرق مريرة، إن لم نقل مدمرة... على أنها تثبت بعض الحقائق الأساسية في مكونات مجتمعاتنا، من بينها: 1 - أن هذه المجتمعات متعددة الدين والأصول العرقية والمناخات الفكرية والانتماءات السياسية. ومع أن الأكثرية تؤمن بدين واحد، فإن في هذا الدين مذاهب عدة ومدارس اجتهاد متباينة التفسير للنص الواحد، وها هي التنظيمات ذات الشعار الديني في مصر تختلف في مواقفها إلى حد التهديد بالمواجهة في الشارع؛ 2 - أن معظم هذه المجتمعات متدينة عموما وإن ابتعدت بتدينها عن التحزب ومخاصمة الآخرين... ويخطئ «الإخوان»، وأكثر منهم السلفيون، حين يفترضون أنهم مكلفون بأسْلمة مجتمعات مسلمة بأكثريتها الساحقة، ومؤمنة بالإله الواحد جميعا، وبالتالي فإن محاولات الأسلمة هي أسرع طريق إلى الحرب الأهلية وتدمير الدولة؛ 3 - لا يمكن قسمة الشعب إلى «مناصرين» و«خونة»، وبالتالي لا يمكن اتهام المعارضين لنظام استولدته المصادفات التاريخية فتسلم قيادته الحزب أو الاتجاه الأكثر تنظيما والأعظم ثروة، بأنهم من «الأعداء»، فضلا عن اتهامهم بالخروج على الدين.. فالدين رحب يتقبل التمايز والمحاججة في النصوص وفي التفسير.. ثم إن الزمان متحرك يغير ويتغير، والعقل مفتوح على الاجتهاد ولا يمكن الحجر عليه؛ 4 - لا يمكن تأديب الشعب بالقضاء على الأحزاب والتنظيمات والهيئات والجماهير التي تخرج إلى الشارع مجاهرة باعتراضها على قرارات جائرة أو مخالفة للدستور أو القانون. وأي عار أفظع من أن يتصدى بعض الدعاة ورجال الدين، المشكوك في علمهم، لحق النساء في المشاركة في العمل العام، وأن يطالبوا -في بدايات القرن الحادي والعشرين- بالحجر على المرأة التي قد تكون أكثر علما وثقافة وخبرة منهم، وحبسها في المنزل باعتبارها شريكة الفراش.. ليس إلا؟ لكأننا نشهد نهايات مبكرة للتنظيمات الإسلامية -وبعضها عريق وصاحب خبرة- لأنها لم تستوعب تجارب الأحزاب القومية والتقدمية والوطنية عندما توفرت أمام بعضها فرصة القفز إلى سدة السلطة، فعجزت عن أن تسوس الحكم فخلعها.. ولو بعد حين. إن تجربة «الإخوان» في تونس لا تبشر بالخير، أما تجربة «الإخوان» في مصر فإنها تأخذ إلى اليأس... لكن الشعوب لا تعرف اليأس، وسلاحها الأول والأخير هو «الميدان»، والميدان ما زال مفتوحا، وأهله فيه ومن حوله بامتداد البلاد. ولن تزيد إرشادات صندوق النقد ونصائح الإدارة الأمريكية من فرص النجاح أمام تنظيمات لا تسمع صوت شعبها، ولا تراعي رقيه وحساسيته تجاه التصرف معه وكأنه قاصر وبحاجة دائمة إلى ولي أمر، فكيف إذا كان ولي الأمر مقفل العقل والقلب بغرور الجهل والتعصب وعقدة الحاكم بأمر الله؟