في أيلول العام 1990، وعلى وقع طبول حرب الخليج الثانية، عقد المؤتمر الإسلامي العالمي أعماله في مدينة مكة لبحث موقف حيال غزو القوات العراقية للكويت، بحضور عدد من علماء الدين المسلمين البارزين. وقد أصدر المؤتمر ما عرف ب«وثيقة مكة» التي أجاز فيها دعوة قوات أجنبية للخليج. وحملت الوثيقة تواقيع مئات رجال الدين المشاركين، من بينهم الشيخ يوسف القرضاوي الذي ربط موافقته بمجيء القوات لمهمة محددة، تتمثل بإخراج الجيش العراقي والعودة من حيث أتت، وإلا... كان أول من يقاتلها. يحلو لكمال الهلباوي، الناطق السابق باسم جماعة «الإخوان المسلمين» في الغرب، التذكير بهذه الواقعة في معرض نقده لفتوى القرضاوي حول الجهاد في سوريا. والهلباوي تشارك هذا النقد مع آخرين ممن ينتمون إلى التيار الإصلاحي في مدرسة «الإخوان» ولهم باع طويل في السياسة والاجتهاد، كنائب رئيس حركة «النهضة» في تونس عبد الفتاح مورو، وتقاطع مع من دخلوا ميدان السياسة واجتهادها حديثاً وتركوا فيه أثراً لافتاً كالرئيس المستقيل للائتلاف السوري المعارض معاذ الخطيب، علماً أن الأخير زاد في نقده لفتوى «الجهاد» عن حد التحفظ والاعتراض بأن قال إنها «تزيد العمى السياسي». والقضية يمكن تفصيلها انطلاقاً مما أورده الخطيب بالضبط، حيث السياسة عالم من الحسابات التي غالباً ما تهمل الفتاوى الانفعالية أخذها في الاعتبار. بل يمكن القول إن تداخل العالمين، في العادة، يضاعف من تبسيط الواقع ومقتضياته. وفي المثال المذكور مطلع المقال خير دليل على ذلك. فلا القوات الأجنبية انسحبت من الخليج حين «انتفت ضرورة وجودها»، وفق تعبير نص «وثيقة مكة»، ولا قاتلها الموقعون على النص أو بعضهم، بحسب ما دعا إليه الشيخ القرضاوي. مع العلم أن الأخير عاد وقال بوجوب قتال القوات عينها في حرب الخليج الثالثة، وأفتى ب«عدم جواز استخدام المطارات والموانئ والأراضي العربية والإسلامية للمساعدة في ضرب العراق» مطلع العام 2003. أي أن الفتوى هذه جاءت بعد اثني عشر عاماً من تلك التي أجازت استقدام القوات الأجنبية وعلقت الأمر على شرط رحيلها الذي لم ينفذ... ولا نُفذ التهديد بإجبارها على الرحيل. غير أن ما يميز فتوى حرب الخليج عن ميثلاتها اللاحقات تعليقها على شرط، ولو كان غير قابل للتنفيذ. فقد تلتها فتاوى لا شرط يقيدها ولا يرافقها تفكيرٌ في تداعيات افتقارها إلى شروط، كجواز الاستعانة بحلف «الناتو» في كل من ليبيا وسوريا بعد عسكرة «الربيع العربي» فيهما. وقد برر الشيخ القرضاوي الأمر بالإشارة إلى شدة قمع نظامي البلدين، وافتقار المعارضين فيهما إلى أدوات ذاتية أو معونات عربية تتيح لهم مواجهة الآلة الأمنية وبطش قيادتها. وبعد أن اعتبر في حديث لصحيفة «فاينانشال تايمز» قبل عامين أن إجازته التدخل في ليبيا «ساعدت على تشجيع الموقف العربي»، بدا مستعداً لتكرار الأمر في الحالة السورية على صيغة تطمين، بأن اعتبر قبل أسابيع خوف واشنطن من «أن ينتصر المسلحون في سوريا ويذهبوا إلى إسرائيل» غير مبرر، داعياً إياها إلى الوقوف «وقفة لله وللخير والحق». وفي حديث الشيخ مع القوة العالمية العظمى عن «الله والحق والخير»، وهو الذي سبق أن دعا إلى الجهاد ضدها، قضية تستدعي التوقف. إذ يبدو أن ثنائية «الخير والشر» وفسطاطيهما متحكمة في خطابٍ يعيد القرضاوي إنتاجه برغم خيبات تجارب ماضية قامت على الركون إلى هذه الثنائية وعلى قراءة العالم المعقد من خلالها. مع الفارق أن إعادة الإنتاج هذه تأتي اليوم بعدما أصبح الشيخ واحداً من أكثر علماء الدين نجومية في العالم العربي، بل أصبح «مفتياً عالمياً»، بحسب ما يصفه عنوان أحد الكتب الغربية التي ترصد سيرته وتجربته مع قناة «الجزيرة» التي قدمت له النافذة الأوسع على الجمهور. غير أن «المفتي العالمي» بالغ في خلط السياسة بالفتوى واندفع في اتجاه توسيع شق الفسطاطين بدعمه القاطع لفريق داخلي في أزمة مصرية محلية لاحقة على «ثورة يناير». وقد قال بهذا معترضون على فتواه القاضية بوجوب دعم الرئيس مرسي بعد الانقلاب الثورة عليه. فشيخ الأزهر رأى في الفتوى «تعسفاً في الحكم» و«إمعاناً في الفتنة»، فيما اعتذر ابن الشيخ، الشاعر والناشط السياسي المصري عبد الرحمن يوسف القرضاوي، عن قبولها، مفنداً أسبابه الشرعية والدستورية، ورافضاً مقارنة عهد مرسي بعهد مبارك والدعوة إلى الصبر على الأول بعدما صبر المصريون على الثاني ثلاثين عاماً. وقد بدت هذه الفتوى مفصلية في مسار الفتاوى السياسية للشيخ القرضاوي، على اعتبار أنها انتقلت من الحيز السياسي الإقليمي أو المحلي المطل على الإقليمي، إلى الحيز المحلي الخالص. وفي هذا إشكالية مختلفة. فالفتوى السياسية في الحالة الأولى قد تعجز عن أخذ تعقيد العلاقات الدولية والصراعات الأهلية في الاعتبار لدى تقييمها واقعاً معيناً إذا ما استندت إلى أحكام عامة ونصوص ثابتة. فيما الفتوى في الحالة الثانية، أي عند التعامل مع قضايا داخلية بحتة، تحتاج من مطلقها أن يكون عالماً بآليات النظام الديموقراطي الذي يستقي محدداته من أدبيات الحداثة، وهي ما لا تختصرها صناديق الاقتراع بطبيعة الحال. وبرغم أن القرضاوي بيّن موقفه في الفتوى الخاصة بشرعية مرسي من الناحيتين الدستورية والشرعية، متعمداً الفصل بين كل من الناحيتين والحديث عنهما كلٌ على حدة، إلا إنه خلط في حالات سابقة بين «الشرعي» و«الدستوري» من دون تمييز. وقد بدا ذلك جلياً بانتقاده رفض القضاء المصري إقالة مرسي للنائب العام قبل أشهر، معللاً ذلك بالقول إن النائب العام «ليس نبياً حتى لا يُقال»، ومعيداً المسألة إلى صراع بين رجلين بدلاً من نظام قائم على توازنات وصلاحيات مركبة وفصل بين السلطات. غير أن الأثر الأبرز لدخول الفتوى السياسية حيزها المحلي بعد جملة من فتاوى تسويغ التدخل الخارجي، بدأ على ما يبدو يتجلى في مزاج متظاهري «رابعة العدوية». ففيما بدا البعض منشدّاً لدعاوى الخروج عن النموذج الديموقراطي بأسره بسبب عدم حفاظه على شرعية الرئيس، ظهر البعض الآخر مجذوباً ناحية استعطاف الخارج ودعوته للتدخل، وإن على استحياء. وهذا، وإن كان لا يزال في حدود ردود الفعل المفهومة، إلا أنه يخشى تمدده ليصبح ثقافة محلية، تستسهل دعوة قوى للتدخل من وراء البحار... «نصرة لله وللحق والخير».