لم يكن متوقعاً، ولا مطلوباً، من الصحافة المصرية أَنْ تُعطي خبر وفاة الأَميرة فوزية، شقيقة الملك فاروق، في الإسكندرية، قبل أَيام، عن 93 عاماً، أَكثر من إِيجازٍ شديد الاقتضاب. ما لا يعود، فقط، إِلى ما تشهده مصر من وقائع احتقانٍ واضطرابٍ وفيرة، بل، أَيضاً، إِلى أَن لا أَهمية خاصة للخبر، ولا جاذبيّة فيه سوى أَنَّ العجوز المتوفاة كانت، في سنواتٍ بعيدةٍ، زوجةً لآخر شاه لإيران، محمد رضا بهلوي، قبل طلاقها منه، ثم زواجها بجنرالٍ مصريٍّ بارز. وإِذ ببضعة أَشخاص شاركوا في تشييع الراحلة، في غضون انشغال مصر بعزل الرئيس محمد مرسي، فإنه كان سيصير من مشاغل مستهجنة للإعلام المصري لو أَضاء على واقعة الوفاة، فيما مصر مشغولةٌ بانعطافة تاريخية شديدة الأَهمية، ولو أَنَّ الراحلة كانت «أَجمل نساء الأرض»، وفق المندوب السامي البريطاني في العهد الملكي في مصر، السير مايلز لامبسون. وفي تفاصيل سيرتها أَن جمالها الباهر، وكانت في السابعة عشرة من عمرها، جذب الشاب الأَمير الإيراني إِليها بإعجابٍ كبير، ولم يكن ولياً للعهد بعد، لمّا وقعت عيناه عليها، في حفلٍ حاشدٍ بأُمراءَ وأَميراتٍ من العالم في سويسرا في صيف 1937. ونحن في أتون نقاش راهن، يستمر منذ سنوات، في شأن ما قد يُحسَب شقاقاً شيعياً - سنّياً في المنطقة العربية، أَو أَقله تباعداً ما يني يزيد، وأَيضاً، في شأن علاقاتٍ غير سويةٍ مع إِيران، يأتي مساهمون في هذا النقاش، أَو الجدل ربما، على زواج الراحلة بولي عهد إِيران الذي صار الشاه والإمبراطور في غضون زواجه ذاك، دليلاً على علاقةٍ ممتازةٍ كانت بين مصر وإيران، بل وعلى وعي الملك فاروق بأَهمية أَنْ تكون هذه العلاقة ممتازةً، حين يصاهر العائلة الحاكمة في طهران، ما يدلُّ على رؤيةٍ استراتيجيةٍ ناضجةٍ لديه، على ما قال محمد حسنين هيكل غير مرة، في أَحاديث وكتاباتٍ له، دأَبت على تأكيد وجوب علاقةٍ بين إِيران والعرب قويةٍ ومتينة، لا سيّما بين مصر وإِيران، البلد الذي يراه الكاتب الشهير احتياطياً مهماً للأمة العربية. ومصادفة لطيفة أَنَّ الدكتور مصطفى الفقي كتب في «الحياة» في 2 تموز (يوليو) الجاري، وهو يوم وفاة الأَميرة فوزية، مقالةً عنوانها «شيعة وسنّة... أَم فرس وعرب؟!»، جاءت على زواج ابنة الملك فؤاد، حفيد محمد علي مؤسس مصر الحديثة كأكبر دولةٍ سنّيةٍ في المنطقة، بمحمد رضا بهلوي، شاه إِيران السابق، دليلاً على أَنَّ الخلاف المذهبي بين الدولتين لم يمنع الزواج الشهير. وإِذ يحتفي هيكل، وغيره، بذلك الزواج شاهداً على حرص الملك الذي أَطاحته ثورة 23 يوليو على رابطةٍ قويةٍ مطلوبةٍ بين مصر وإِيران، فإنه لا يلتفت إِلى الطلاق المدوي بين الإمبراطور وفوزية التي حملت لقب الإمبراطورة تسع سنوات، من 1939 إلى 1948، كانت الثلاث الأَخيرة منها انفصالاً حادّاً بين الزوجين، مكثت في أَثنائها الإمبراطورة في القاهرة، بعد معاناةٍ كابدتها في قصر الشاه في طهران، وكاد مرضٌ يودي بها. وقد صار الطلاق بكيفيةٍ أُجبر عليها بهلوي، عندما تحفّظت السلطات المصرية، بأَمرٍ من فاروق ووالدته الملكة نازلي، على جثمان والدِه الذي هبطت طائرةٌ تقله في القاهرة، لدى مرورها من جوهانسبرغ إِلى طهران. وتصلح تفاصيل ذلك الزواج المثير، وكذا حكاية الطلاق الدرامي، لفيلم سينمائي، يُتقن كاتبُه الوقوع على مشاعر دفء وحنان وحب، انعطفت إلى مشاحنة وتوتر، في بلاط إمبراطوري، وفي غضون تكاذبٍ وتحايلٍ بين ملوكٍ وأُمراء وسفراء، من ذلك أَنَّ تقارير سرية كانت تصل إِلى العاهل المصري، بطلبٍ منه، عن معيشة أُخته في قصر الشاه، وفي أَثناء «مرارةٍ وشقاءٍ وبكاء»، على ما نقل كريم ثابت، السكرتير الصحافي للملك عنه. تبدو الحكاية البعيدة، والمسلية، غير قابلةٍ لقراءَتها في وجهةٍ واحدة، تذهبُ إِلى وعيٍ استراتيجي لدى آخر حكام مصر الملوك، فثمة اعتباراتٌ أُخرى، تُزودنا بها مطالعتُنا قصة الزواج والطلاق، وما بينهما من حوادث لها سمتٌ دراميٌّ ظاهر، على مبعدة أَكثر من سبعين عاماً، ربما تُغرينا بمقارنةٍ بين حالَيْ مصر وإيران في الراهن الذي نعرف وحاليهما في ذلك الزمن. كانت إِيران دولةً تكابدُ تخلفاً منظوراً، ولم تكن غنيةً ولم يكن البترول قد ظهر فيها، وكان رضا بهلوي عسكرياً ميالاً إِلى هتلر، وتعاني بلاده من قلاقلَ واضطراباتٍ في مناطق عدة، لاقترابها من روسيا الشيوعية، على ما أَشار مؤرخون. ووجد في فكرة زواج ابنه، وولي عهده، بأَميرة من سلالةٍ عريقة، وشقيقة ملك دولةٍ مهمة جداً في الشرق الأوسط، تدعيماً له وفرصةً كبيرةً يضمن بها لابنه حليفاً قوياً أَمام تقلباتٍ سياسية، على ما كتب أَشرف بهلوي، في كتابه «وجوه في المرآة». وقد رُوي أَنَّ الأُسرة الإيرانية المالكة اغتبطت كثيراً بالأميرة فوزية، وأَن الشاه بهلوي (الأب) أَحبها كثيراً، وأَحاطها بعنايته وحنانه، وكان يتفاءَل بها. ولمّا عارضت، وبقوة، الملكة نازلي، والدة فاروق وفوزية، ذلك الزواج، وبذل فاروق مجهوداً ليس هيِّناً لإقناعها به، كانت ترى، وبانفعال، غير معقولٍ أَنْ تتزوج ابنتها، وهي من أَجمل النساء وأَغنى البنات في العالم، بأَمير دولةٍ فقيرة «تحاول الخروج من العصور الوسطى»، وفق وصفٍ لإيران كان شائعاً في مصر الثلاثينات والأربعينات الغابرة. لم يُجبر فاروق أُخته على الزواج بالأَمير الإيراني، لكنَّ حساباتٍ كانت في ذهنه، زرعها لديه ثعالبُ سياسيون حواليه، أَحمد حسنين باشا وعلي ماهر مثلاً، منها إِحياء فكرة الخلافة الإسلامية، فيصير أَمير المؤمنين، وإِنَّ زواجاً مثل هذا سيضمن له أَصوات الشيعة في العالم عند مبايعته خليفةً للمسلمين. وفي البال أَنَّ شيعيّة إيران في مقابل سنيّة مصر كانت من ذرائع نازلي في رفضها الزواج الذي ظلت نافرة منه بعد حدوثه. ومن حاشية فاروق من نبّهه إِلى الأَمر، وإِلى أَنَّ ثمة مخاوف من أَنْ يثور السنّة على زواج أَجمل بنات أُسرة محمد علي من ولي عهد إِيران. وهنا، كان تدخّل شيخ الأَزهر، في حينه، مصطفى المراغي، حاسماً في تأكيده للملك أنَّ «هذا الزواج سيوحد بين السنّة والشيعة لما فيه خيرٌ لصحاح الدين، ولا غضاضة من التزاوج بين المذهبين». تفاصيلُ غزيرة مضت إليها قصة ذلك الزواج الذي انتهى طلاقاً وشقاقاً تعيسيْن، ربما ينجذب إِليها كتّاب سير الأباطرة والملوك والأمراء الشخصية، غير أَنها تعني المتأملين في التاريخ ووقائعه، من باب اعتبارها محطةً في علاقاتٍ سنيّةٍ - شيعيةٍ في العالم الإسلامي، ومحطةً في علاقاتٍ مصريةٍ إِيرانيةٍ، في أَرشيفها تردٍّ كثير وتحالفاتٌ وثيقة، غير أَنَّ الأَبرز في محطة تلك الزيجة، القصيرة والقلقة، أَنَّ مصالحَ مستترةً دارت في مدارك ملكٍ شاب حلم بزعامةٍ إِسلاميةٍ، أَراد إِسناداً شيعيَاً لها، وأَنَّ مصر أَربعينات فاروق وفوزية ونازلي، لمّا كانت إيران تشتهي أَنْ تُماثلها مكانةً وقوةً وحضوراً، غائبة الآن، فيما هذه صارت قوةً ظاهرةً وذات تأثير محوريٍّ مقلقٍ لدولٍ كبرى وصغرى.