تحتفظ باريس، العاصمة العالمية للموضة، بأسرارها في شارع ضيق يقع في منطقة «المثلث الذهبي» اسمه «فوبور سانت هونوريه». ومن أبرز عناوين هذا الشارع محلات «هيرميس» لصناعات الجلد والثياب والعطور والمجوهرات الراقية. إنه المتجر الذي تسير إليه أنيقات العالم وأميراته وهن مغمضات الأعين. بل إن هناك من السياح والزوار من يقصد ذلك العنوان لكي يتفرج على الواجهات الساحرة لهذا المتجر والتي تشبه مشاهد سينمائية تتعاقب عليها الفصول الأربعة وتحتفي، بشكل خاص، بمدن الشرق وحدائق الأندلس. ما الذي يدفع متجرا باريسيا إلى الرحيل في طلب زهيرات الزعفران وأعواد القرفة ونثرها بين الحقائب والأوشحة التي تحمل توقيعه؟ يكمن السر في وجود سيدة تونسية تشتغل منذ عدة عقود في مكتب يقع في طابق علوي من هذا المبنى. وهي ليست امرأة عادية، بل ساحرة تمر عليها السنوات فلا تترك أثرا على وجهها الجميل، ولا تملك شيئا إزاء تألق عينيها الداكنتين الكحيلتين. هذه هي ليلى منشاري، التي يعتبرها الكثيرون أشهر تونسية في العاصمة الفرنسية. وهي الفنانة، أو السلطانة غير المتوجة التي يحتفي بإبداعها معهد العالم العربي في باريس، حاليا، من خلال معرض بعنوان «شرق هيرميس» يتتبع أسفار هذه الفنانة ذات الذوق الاستثنائي والعشق الجارف لكل ما هو جميل ونادر وبهيج. ويأتي المعرض كبادرة تكريمية عربية، ولو متأخرة، لنموذج مشرف لنسائنا، ولمبدعة حظيت بالتكريم في فرنسا ونالت أرفع الأوسمة، وكانت الضيفة التي يدعوها رؤساء مثل ميتيران وساركوزي لمرافقتهم في عداد وفودهم الرسمية وهم يزورون بلدها. عند الوصول إلى بوابة معهد العالم العربي، تقودك سجادة برتقالية فرشت عند المدخل إلى المبنى المستقل الذي يقام فيه المعرض. لماذا البرتقالي وليس الأحمر، اللون المعهود في مثل هذه المناسبات؟ لأنه اللون المميز لدار «هيرميس» والمعتمد في أكياسها وأغلفة بضاعتها. وحالما يضع المرء قدمه في الصالة الواسعة ينتابه إحساس بأنه قد دخل قاعة معتمة للسينما، تتوزع فيها غرف زجاجية مضيئة تشتمل كل واحدة منها على واجهة من أشهر ما قدمته ليلى منشاري من تصاميم لفترينات الدار. فهناك واجهة بعنوان «خيول الشرق» تتناثر فيها، من ضمن المحتويات، العدد اللازمة لصيد الصقور لدى كبار المغول. ووسط هذه الأجواء تم عرض طاقم للمائدة منقوش بمنمنمات فارسية. وفي واجهة ثانية فرشت أرضيتها بالرمال الذهبية الناعمة وانتشرت فيها رموز فينيقية، توزعت حقائب جلدية فاخرة للسفر، تعيد إلى الأذهان مغامرات كبار الرحالة الغربيين الذين ساحوا في مدن المتوسط، وكذلك تذكرنا برحلات السفاري وبأناقة السفر ولوازمه وثيابه التي لا تشبه غيرها من الثياب. من الواجهات التي استوقفت الزوار تلك التي حملت اسم «إزنيك» واشتملت على خزفيات عثمانية تم إنجازها في المشاغل الشهيرة التي تحمل هذا الاسم في تركيا، وإلى جوارها نجادات من جلد الحمل المذهب، طبعت عليها أبيات من الشعر بخط فارسي، وتلاقت كلها لتكون حاضنة مثالية لمقاعد من الجلد المضغوط التي أطلقتها «هيرميس» تحت اسم «بيبا». إن كل الأدوات تصلح لتأطير البضاعة الراقية، ولا تستثنى من ذلك المباخر وآلات العود وسروج الخيول والأبواب النحاسية المطروقة. وهناك حدائق غناء طارت من تونس واسطنبول وحطت في ساحة معهد العالم العربي، تتدلى من قمرياتها العرائش والأزهار، وينسدل على عشبها قفطان شرقي مطرز بخيوط الذهب. لقد سافرت ليلى منشاري إلى جهات الدنيا الأربع لكي تستلهم تراث الشعوب، وبالأخص الشرقية منها. ولهذا جاءت موضوعات واجهاتها وكأنها خارجة من حكايات ألف ليلة وليلة: خيول مجنحة وأفيال وسجاد وأحزمة من جلود نادرة وسروج مطرزة تليق بفرسان من المهراجات والأمراء وقباقيب من الفضة وأعواد من خشب أشجار معمرة وبهارات يكاد لذعها يلفح حواس من يتفرج عليها من وراء الزجاج. ولأن هذه السيدة الثمانينية ابنة بارة بوطنها الأُم، تونس، فقد استقدمت، من أجل هذا المعرض، «أسطوات» في الحرف اليدوية التراثية، مثل معلم نفخ الزجاج ونقاش الحجر وخبير الفسيفساء وخياط الجلود، وكان لكل منهم جناح يشتغل فيه ويعرض مهاراته أمام الزوار الفرنسيين الذين بدا بعضهم مبهورا بما يرى. والحقيقة أن أجواء هذا المعرض تكاد تكون انعكاسا للروح الجميلة لصاحبته. فمن يسعده الحظ بالدخول إلى مكتب ليلى منشاري في دار «هيرميس»، يشهق من ترف هذه الصومعة التي تليق بإنسانة ذواقة مثلها. إنه «كهف ليلى» بدل أن يكون «كهف علي بابا». أو هو «مملكة الفضة» التي تتكدس فيها قطع الأثاث القديمة النادرة المطلية بهذا المعدن الأبيض، والحلي التي جمعتها من الهند والسند، والأشجار المصنوعة من الأحجار الثمينة، وتماثيل لفيلة وخيول وطيور بألوان تخطف البصر، وكتب الفن بعدة لغات. ومن هذا المكتب، ومن بين أنامل هذه الجنية الفينيقية، خرجت تصاميم أجمل «الفاترينات» في العالم. في السنوات الأخيرة، اعتادت دار «هيرميس» أن تدعو زبائنها من أرجاء العالم، ومعهم النخبة الفنية الفرنسية، إلى حفلات تدشين واجهاتها التي تصممها منشاري. وكانت آخرها تحمل رقم الواجهة الخامسة والعشرين بعد المائة. وقد جرى رفع الستار عنها بحضور ضيوف من بلاد العالم وقفوا يتأملون ويصفقون ويتمتعون وكأنهم أمام عرض مسرحي. واعترافا بهذه الموهبة، أصدرت الدار كتابا مصورا ضخما جمعت فيه «تراث» ليلى منشاري التي تعتبر اليوم عميدة العاملين في هذه المؤسسة والصديقة الوفية التي عاصرت مؤسسيها وارتبطت معهم بعلاقة عائلية بحيث إنهم أورثوها الحديقة الخاصة التي كانوا قد أقاموها في تونس وجمعوا لها من النباتات والأزهار النادرة ما يبهج النظر ويفرح القلب. إن مسيرتها تستحق العجب والإعجاب. فقد كان والداها منفتحين على ثقافات العالم. وقد أرسلاها لتتعلم اللغة الفرنسية في مدرسة للراهبات في تونس. وهي تقول إن والدتها كانت سيدة عصرية بمفهوم زمانها. وهي أول امرأة خلعت العباءة التونسية التقليدية «السفساري» وقدمت محاضرات حول ضرورة مساهمة المرأة في الحياة الاجتماعية. ورغم تلك الأجواء التي سادت مدينة الحمامات، حيث ولدت، فإن ليلى لم تكن تتصور يوما أنها ستعبر البحر إلى الضفة الشمالية. لقد أرادت دراسة الفنون الجميلة. وكان هناك معهد في العاصمة يديره رسام فرنسي يدعى أرمان فيرجو. كان انطباعيا يعشق الألوان، خصوصا تلك الموجودة في الطبيعة التونسية الخضراء. وهي قد درست على يده لمدة ثلاث سنوات، بكل اجتهاد، وحين نالت الشهادة قالت لها والدتها إن الوقت قد حان كي تتوقف عن التعليم وتتقن أعمال البيت لكي تتزوج. لم تكن أمها تريد أن يقال إن ابنة حبيبة - اسم الأم - لا تجيد مهارات النساء في البيوت، وليست بالزوجة الصالحة. وقد استمعت إلى النصيحة وأتقنت تلميع الفضيات ومسح زجاج النوافذ وفنون الطبخ، لمجرد إرضاء والدتها. وهي قد أدركت، فيما بعد، أن تلك المهارات أفادتها كثيرا وهي ما زالت تفيدها في عملها إلى اليوم. رأت ليلى منشاري بنات عمها يتزوجن الواحدة تلو الأخرى، لكنها لم تكن تمل إلى الزواج. وهي تذكر أنها كانت تحب الرياضة، ولديها بطولات في السباحة للناشئة في تونس. وما بين أعمال المنزل واللياقة البدنية تسلحت الصبية بما اعتبرته دروسا في الحياة. وخطر على بالها أن تعمل ممرضة أو مساعدة اجتماعية. وكانت فاطمة بن شير أول من عمل في هذا الميدان في تونس. وقد أخذتها فاطمة معها، ذات يوم، إلى منطقة يسكنها الفقراء. ورأت بحيرة يحوم فوقها البعوض، ومنازل من صفيح وقاذورات تملأ المكان. وكان دور ليلى أن تضع القطرات في أعين الأطفال المصابين بالتراخوما. وعندما عادت إلى البيت قالت لولدتها إنها تريد أن تعمل مساعدة اجتماعية. واقترحت الأُم أن تساعد ليلى زوج شقيقتها الذي كان طبيبا في مستوصف شعبي. وقد تعلمت التضميد وزرق الإبر، واستغرقت في عملها ولم تكن تعلم أنها وضعت قدمها على أول الطريق الذي سيقودها إلى باريس. فقد كان لزوج الأخت ولدان من زوجة سابقة فرنسية، وطلب، ذات يوم، من ليلى أن ترافق ولديه الفرنسيين لزيارة جديهما في فرنسا، لأنه كان مشغولا ولا يملك الوقت للرحلة. تقول «كان ذلك أقصى ما أحلم به. وقد وجدت نفسي مع طفلين أشقرين، على متن باخرة تمخر البحر إلى فرنسا. ومن الساحل أخذنا القطار إلى مدينة ليموج حتى وصلنا إلى أعماق الريف. وكانت تلك أول مرة أرى فيها الغابة، وسحرتني الخضرة الساحقة وشاهدت، رأي العين، كل ما كنت أقرأ عنه وأنا صغيرة، وأمضيت في تلك المزرعة أسبوعا وتعلمت العمل مع الفلاحين». انتهت الزيارة وكان عليها أن تعود بالولدين إلى ميناء مرسيليا لركوب الباخرة العائدة إلى تونس. لكنها قررت أن تركب القطار إلى باريس.. فهل يعقل أن تصل إلى فرنسا ولا ترى عاصمة النور؟ وحال وصول ليلى والطفلين إلى باريس سألت عن عنوان معهد الفنون الجميلة. وركبت المترو ووصلت إلى شارع «بونابارت» ووقفت أمام الصرح الفني الشهير في العالم كله.. يقصده الموهوبون من الشرق والغرب ليتعلموا فيه. وفي تلك اللحظة أدركت أنها مختلفة عن بنات بلدها، وأنها تريد أن تدرس الفن، الأمر الذي لم تفعله أي بنت تونسية من قبل. وكانت باريس في تلك السنوات من أربعينيات القرن الماضي تفور بالحركات الوجودية والسوريالية وغيرها من الصرعات، وهي قد ارتضت أن تسكن في غرف الخدم، رغم أنها اعتادت عيشة القصور، لمجرد أن تتعلم على أيدي فنانين كبار، بينهم أستاذها النحات الشهير سيزار. وعندما أنهت دراستها بدأت تعمل في أعمال صغيرة، إلى أن اقترح عليها شاب من بلدها، كان خياطا مغمورا اسمه عز الدين علايا، أن تتقدم للعمل كعارضة لدى المصمم الفرنسي غي لاروش، ما دامت ذات قامة رياضية متناسقة. وهكذا صارت ليلى منشاري عارضة أزياء، كخطوة أُولى على درب الإبداع الطويل. وتقول إنهم مشطوها وزينوها وألبسوها ثيابا ناعمة فاكتشفت أُنوثتها. هي التي كانت معتادة على الملابس الرياضية والأقمشة الخشنة. لكنها لم تستمر في عرض الأزياء لأن والدتها مرضت في تونس واستدعوها على عجل. وهي تتذكر تلك اللحظات وتقول «ماتت أمي فجمدت من الألم، وعرفت أنني لن أستمر في عرض الأزياء بعد موتها. وكانت أمي تحب أشغال المصمم هيرميس والمناديل والأوشحة الجميلة التي يصنعها من الحرير». كانت دار «هيرميس» تبحث عن رسامة ومصممة. وتقدمت ليلى منشاري لتلك الوظيفة وبقيت في تلك الدار حتى يومنا هذا. وتروي أن الفن أبقاها شابة، إضافة إلى أنها ورثت جينات الشباب الدائم من أبيها. إنها دائما على أهبة مشروع جديد وكأن شعلة سرية تحرقها من الداخل وتبقيها حية. وبتلك الحماسة راحت ترسم للدار حدائق وغابات وأشجار ياسمين، وتستوحي ذاكرتها التونسية في كل رسومها. ولدى «هيرميس» تعلمت ليلى منشاري أسرار المهنة، وتعرفت على «اسطوات» صناعة الجلد والتطريز والفضة والحرير، وصارت عمودا من أعمدة الدار. إن بعض عطور «هيرميس» مستخلصة من أزهار تلك الحديقة التونسية التي أوصى مؤسس الدار بأن يدفن تحت أشجارها. وكان قد قال لها قبل وفاته «اعتني بهذه الأشجار لأنني سأُواصل النمو عبر نسغها».