العطر هو الحياة، والرائحة هي جوهره، بنفيه تنتفي الحياة، لكن الموت أيضا لا يعدم بعض الرائحة.. رائحة الرجل ورائحة المرأة، روائح الطفولة، رائحة الأمهات، والجدات، رائحة البيت، فالبيت هو الشخص، لا وجود للشخص خارج رائحته، إنه ابن رائحته يسكنها وتسكنه، تترحل معه في الفضاءات والأمكنة و تتلون بها، وتتشكل طبقا لهذه الرائحة. هناك أيضا رائحة من نحب، شيقة وجميلة، فاتنة ومغوية، تسافر عبر الأزمنة، مخاتلة، تطرق البال وتخترق المسام في لحظات الفجاءة. نحب فنشتاق إلى رائحة الحبيب، عوليس نفسه حتى وهو يترحل في الأسطورة اليونانية عبر البحار، لم يكن لينسى تلك المرأة الجميلة التي تركها عند حافة اليابسة، أما بينيلوب، المرأة الصبورة التي انتظرته على شواطئ أثينا، فكان عليها أن تمضي عميقا في حياكة خيوط التذكر وتشمم رائحة المراكب التي تعبر في بحر إيجة. النبي يعقوب نفسه لما غاب عنه فلذة الكبد البهي يوسف ظل طوال عمره يشم رائحة ثيابه وينتحب حتى أصيب بالعمى، ولما قص عليه الإخوة أن يوسف حي يرزق في بر مصر طالبهم بدليل، ولم يكن هذا الدليل إلا قطعة الثوب التي أعادت البصر إلى الأب الكفيف. لقد جعلته رائحة الابن يرى، وهذا يعني أن الرائحة لا تموت، إنها تسكن الشخص وتسكن المكان. للبشر تاريخ طويل مع العطور استخلصوها من النباتات و من الأحجار ومن جلود الحيوانات، وقدموها للآلهة واستعملوها في السحر وفي الطقوس الغيبية وفي الاستعمالات الطبية وفي التحنيط، لكن هذا الإنسان نفسه الذي سافر في الزمان وفي المكان تغير وتبدل، وحاسة الشم التي كانت قوية بالنسبة إليه فيما مضى داخلها الوهن، وضعفت قدرتها التمييزية. ابتكر الفراعنة على سبيل المثال آلية التحنيط وظلت سرا، وتداووا بالمراهم والدهون المصنوعة من نباتات كثيرة مثل اليانسون أو الحامض أو الزعتر، كما برع اليونانيون والرومانيون في ذلك، ونيرون الذي أحرق روما نفسه كان عاشقا للعطور وكان يجعل سقف قصره يقطر من السوائل المعطرة، كما كان يعلق في أعناق مدعويه قناني صغيرة يسهل تشممها. الشعوب الشرقية مغرمة بالبخور و العطور والبهارات، والرحلات الجغرافية الكبرى التي قام بها الإسبان والبرتغاليون كانت من أجل الوصول إلى الجزر الصغيرة الغامضة في المحيط الهندي والتي تحتوي على تلك النباتات الساحرة التي تجدد الحياة وتخدر الحواس. عن رواية «العطر» إنه كائن شيطاني، هذه الصورة التي ترسمها رواية «العطر» للكاتب باتريك زوسكيند لبطل الرواية، وهي نفس الشخصية التي يقدمها الفيلم الشيق «العطر» المستلهم للرواية جملة وتفصيلا، والذي يغوص بنا عميقا في عالم العطور وفي صناعاتها، وأيضا من خلال تحول العطر هذا الشيء الهلامي الطقسي إلى قدر يعترض البشر، ويلوي أعناق أحداث التاريخ. في تلك الرواية نكتشف هشاشة الكائن الإنساني ورغبته في التملك، وفي امتلاك الحقيقة، فإذا كانت الرائحة هي شيء نسبي، فإن طمع الإنسان من أجل امتلاكها لا يتوقف، إنه مستعد أن يضحي بكل شيء من أجل ذلك، كان يجرب كل الأخلاط الممكنة أو يصل إلى المحظور بالتحول إلى كائن نهم وحيوان متوحش، على أهبة طهو الجسد الآدمي من أجل أن يصل إلى خلاصة ذلك الشيء الخالد، تلك الرائحة الأم أو روح العطر الذي لا يقهر. يولد بطل الرواية في أقذر حي شعبي في باريس في أواخر القرن السابع عشر، ويحاول الروائي بهذا التركيز على الزمن وعلى لحظة الولادة أن يُوهم بأنه شخصية الرواية حقيقية. فإن كان الأمر كذلك فإن غرنوي هذا يبدو وكأنه من نسل الشيطان ذاته، هذا البطل الشيطاني سيجعل من الرائحة أو العطور هي بطل الرواية في أهم وراية عالمية كتبت على الإطلاق في هذا الموضوع. إطار الرواية التاريخية هو القرن الثامن عشر وموضوعها الرئيسي هو الروائح بشكل عام والعطور بشكل خاص، فقد استعان المؤلف بمراجع تاريخية علمية متخصصة بصناعة العطور في ذلك الزمن، وتراكيبها، والمواد الأولية لها ومقادير الخلطات، وزاد على الطبيعة مزارع الزهور، وبالتأكيد فقد درس جغرافية باريس ومختلف المناطق الفرنسية التي اتخذها مسرحاً لروايته. يمكن من خلال قراءة الرواية أو مشاهدة فيلم «العطر» أن نتعلم أشياء كثيرة عن عالم العطور، وأن نصبح قريبين إلى فهم طبيعتها أو إلى طرق صناعاتها، بل أن نفهم الأسرار العظيمة لهذا الشيء الفاتن والغامض والذي اسمه العطر.. إنه يخترق الحياة البشرية ويصوغها، وما من كائن إلا وذاكرته مأهولة بعدد لا يحصى من الروائح التي تحمل ذاكرة المكان وذاكرة الزمان. وُلد «غرنوي» تحت طاولة تنظيف السمك من أم بائسة تعمل في شارع قذر حيث فضلات السمك، وحيث كل هذا العالم من الروائح الكريهة اللزجة، سيولد بطل الرواية في يوم أسود من المطر، على طاولة السمك، وسيختلط الجنين بأمعاء الأسماك وبكل تلك القذارة المقرفة. الطفل المولود سفاحا في سوق السمك، وفي عالم الروائح الغريب، سيقود الأم إلى حبل المشنقة بعد أن اكتشف أمرها، حيث لم تفلح في التخلص منه وسط فضلات الأسماك والمجاري. وسينقل الطفل إلى مرضعات في دير راهبات، وسيرافقه منذ تلك الفترة رعب خارق من الرائحة والعطور. ذلك الرعب الذي سيولد له طاقة كبيرة وغير اعتيادية على تشمم الروائح ومعرفة مصادرها بدقة متناهية، تعجز عنها أشد المختبرات في ذلك الوقت وأكبر المزاجين المعروفين في باريس النبيلة. هذه القدرة الخارقة على الشم وتمييز أدق الأشياء من روائحها جعلته كمن يرى بأنفه متخطياً الجدران والأبواب المغلقة مادام لا يحتاج إلى عينيه في التعرف على الأشياء، بل لأنفه الرهيب وحاسة شمه الخارقة. سيكتشف بطل الرواية رائحة أخرى وأكثر جوهرية هي رائحة الأنثى، تلك الرائحة أو ذلك العطر الذي سيجعله يقف على حقيقة أخرى موجودة في العالم، فالعالم ليس في النهاية إلا رجل وامرأة. طريق الأنثى يقوده إلى معرفة ذاته و إلى قدرته الخارقة في اكتشاف العطور والروائح. أنفه ذو الحساسية المتميزة، ذاكرته الخارقة، والأهم من كل ذلك عبق فتاة شارع دي ماريه المدموغ في ذاكرته. سوف يتعلم بطل الرواية سر الصناعة لكنه في نفس الآن سيقع أسير الرائحة، بل أسير الذكرى، ذكرى الحب المقموع.