لم يكن من الممكن، في ظل «الأزمة الحكومية» التي يعيشها المغرب منذ شهرين، أن تمر الذكرى الثانية لإقرار الدستور المغربي في صورته الحالية من دون أن تكون مثار انتباه كبير من الصحافة المغربية ومن الفاعلين السياسيين على السواء. ذلك أن وثيقة القانون المغربي الأسمى قد جاءت في الظروف التي يعلمها الجميع (ظروف الانتفاض أو «الربيع العربي» في صيغته المغربية)، كما أنها كانت التعبير عن التوافق في إقرار صيغة جديدة للتعاقد الاجتماعي بين الملكية المغربية والقوى الحية والفاعلة في المجتمع المغربي في تنوع وغنى هويته. وبموجب هذه الصيغة الجديدة من التعاقد الاجتماعي جرى التوسع في مجال عمل السلطة التشريعية من جهة أولى، وكذا الحرص على جعل المعارضة طرفا فاعلا في العمل التشريعي (من ذلك، مثلا، النص على إسناد رئاسة لجنة التشريع في البرلمان إلى المعارضة). كما حرص الدستور المغربي الحالي، من جهة ثانية، على استحداث مجموعة من الهيئات والمجالس التي تمكن أو تساعد على الإقرار الدستوري لعمل وموجبات الحكامة الجيدة. أما من جهة ثالثة، وليست بذات الأهمية القليلة، فهناك تصور جديد، جدة تكاد تكون تامة في التشريع السياسي العربي المعاصر إجمالا، لعمل الجهات (المناطق الترابية للبلد)، تنال بموجبه الجهات مجالا عريضا من الاستقلال النسبي عن عمل السلطة المركزية في العديد من المجالات، بل إنها لا تقف إلا عندما يعتبر من مظاهر السيادة العليا التي لا يكون المس بها ممكنا مع الحفاظ للبلد على وحدته التامة وللدولة على هيبتها وتماسكها. ومن جهة رابعة وأخيرة (وليس قولنا هذا يعني تنبيها إلى كل جهات الجدة والتعبير عن الصيغة الجديدة للتعاقد الاجتماعي)، نقول إن الدستور المغربي الحالي قد خطا على درب تمكين الحكومة من أدوات للعمل جوهرها التعبير عن إقرار نظام الملكية الدستورية الديمقراطية البرلمانية والاجتماعية التي ينص عليه الفصل الأول من الدستور المغربي الذي صادق عليه الشعب المغربي قبل سنتين في السياق التاريخي العام الذي يعلمه الجميع. أما المظهر الأول للتمكين الذي نشير إليه فهو «دسترة» مؤسسة رئيس الحكومة، إذ إن للحكومة المغربية منذ سنتين رئيسا مسؤولا له مسؤوليات يوضحها الدستور. والمظهر الثاني أن الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب. وليس يخفى أن لهذا لمظهر الثاني دلالتين واضحتين: أولاهما أن الحكومة تكتسي الصبغة السياسية وجوبا، وبالتالي فهي لا تكون في جوهرها حكومة تكنوقراطية (أعضاؤها مجموعة من التكنوقراطيين أو الخبراء تنتفي فيهم الصفة السياسية، إلا أن يكون ذلك عن تراض بطبيعة الأمر). وثاني الأمرين إقرار مبدأ سياسي واضح يجري به العمل في تعيين رئيس الحكومة، مما يكسب المنصب خطورة ويطوقه بمسؤوليات ثقيلة. على أن الدستور يظل، بطبيعته، تعبيرا ساميا يبلغ درجة هائلة من التجريد والارتفاع فوق التشريعات العملية الواضحة، ذلك أنه هو «روح القوانين» التي تستدعي ترجمة عملية، أي إفراغا لها في قوانين تنظيمية. يستوجب الدستور، بحسبانه تشريعا ساميا يبلغ درجة عالية من التجريد، عملا تشريعيا من الدرجة الثانية، يجعله قابلا للتطبيق العملي ويحيله إلى قوانين تنظيمية وإجرائية واضحة. ذلك العمل هو «التنزيل»، متى نظرنا إليه من جانب، وهو «التفعيل»، متى نظرنا إليه من جانب ثان. والدستور المغربي الحالي لا يزال، في جوانب أساسية منه، في انتظار التنزيل أولا ثم التفعيل ثانيا. فأما التنزيل المنتظر فهو التشريع الفعلي لجملة النصوص المحورية التي يعد بها الدستور (منها ما يتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية لغة رسمية ثانية - كما تقضي بذلك أحكام الفصل الخامس، وكذا المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية. ومنها الإعلان القانوني عن المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة). وأما التفعيل فهو المبادرة إلى التطبيق العملي لأحكام الدستور ومقتضياته - مما يستوجب التحلي بالجرأة أحيانا والتخلص من قيود الذهنية القديمة أو الممانعة في تقبل الروح الجديدة التي تحكم الدستور الحالي. ذلك هو مغزى الدعوة التي تنادي، في خجل وتهيب بل وتردد، بوجوب التأويل الإيجابي للدستور. وهذه النقطة الأخيرة هي التي تستوقفنا اليوم ونحن نقرأ الدستور المغربي الحالي في الذكرى الثانية لإقراره من قبل الشعب المغربي. لعل المظهر الأكثر بروزا لهذا التردد أو التهيب (أو الممانعة من قبل البعض) في التأويل الإيجابي للدستور هو البطء الشديد في عمل الفعالية التشريعية. ذلك أن ما ميز السنة التشريعية الأولى، وما نرى أنه يصيب السنة التشريعية الثانية، هو قلة النصوص التشريعية. والحال أن الدستور روح تسري في القوانين التنظيمية، وفي عبارة أخرى فليس الدستور يتجلى وتتبين الروح التي توجهه إلا في وفرة القوانين التنظيمية التي تترجمه وتعمل على تنزيله من سماء التجريد إلى أرض التشريع العملي القابل للتطبيق السهل المباشر. ومن البين أن المسؤولية في هذا الصدد تتقاسمها السلطتان التنفيذية والتشريعية على السواء: فإذا كانت الأولى مطالبة بتقديم مشاريع قوانين تناقشها ثم ثبت فيها الثانية بالقبول أو التعديل أو الرفض فإن من عمل الثانية كذلك، إن لم نقل ماهيتها، إنتاج القوانين وممارسة التشريع. غير أن التردد أو التهيب (وربما الممانعة) في التأويل الإيجابي للدستور هو بالضبط سبب هذه «الأزمة» الحكومية الراهنة. ذلك أن الأمين العام لحزب الاستقلال، أحد مكونات الأغلبية الحالية، أعلن عن انسحاب الحزب من الأغلبية، ثم تدارك الأمر في اليوم نفسه بالحديث عن قرار بالانسحاب مع وقف التنفيذ. فرجل في الحكومة وأخرى في المعارضة، وتصريحات لا تكتفي بمهاجمة الحكومة التي هو جزء منها، بل إنها تنتقد أعضاء الحكومة من الحزب الذي يتحدث الأمين العام باسمه. لا بل إن الغرابة تذهب أبعد من ذلك، فنحن نجد الأمين العام للحزب (حزب الاستقلال) يطلب التحكيم الملكي بين الحزب ورئيس الحكومة، ثم إذ يتبين أن الأمر لا يستقيم من الناحية الدستورية (وقد بسطت القول في المسألة في حديث سابق) يحيل الطلب إلى شكوى مرفوعة إلى الملك، شكوى موضوعها تصرفات الرئيس الحالي للحكومة تجاه حزب الاستقلال باعتباره طيفا في الائتلاف الحكومي الذي يشكل الأغلبية. ذلك هو ما حملني في حديثي الذي أشير إليه إلى القول إن الصورة الحالية ليست صورة أزمة حكومية، وليست كذلك مظهرا لأزمة سياسية، لكنها - بالأحرى - تعبير عن «أزمة سياسة»، أزمة في الاختيار والتأويل، لعلها القصور عن الارتقاء إلى مستوى الدستور المغربي الحالي.