في خضم الحديث عن تدني مستوى القراءة في المغرب والمحاولات الرامية إلى تحبيب القراءة لدى عموم شرائح المجتمع المغربي ، يجدر بنا الحديث عن مكتبة زيدان التاريخية والتذكير بها وكيف اهتم صاحبها بجمع كتبها ومدى حرصه عليها وعدم التفريط في محتوياتها الزاخرة بالكتب النفيسة والمخطوطات القيمة في ظروف قلما يهتم المرء بالكتاب والمكتبات ومدى المستوى التعليمي الراقي لصاحبها ، لتكون عبرة ودرسا لنا نحن الأجيال الحاضرة وحافزا للعلم والتعلم والقراءة ؛ لكن سيحدث لها ما حدث رغم محاولة زيدان للحفاظ عليها .وسيبكي عليها كل محب لتراثه الثقافي والعلمي وكيف ضاعت في ظروف يستغرب فيها كل عاقل ويفهم ما كان يحذق بالمغرب من عداء بسبب هويته وكينونته الثقافية والحضارية رغم المحاولات والمجهودات المتعددة لاسترجاعها ؛ قصدنا من ذلك الاستشهاد بشواهد من الماضي لإبراز اهتمام المغاربة بالكتاب وإنشاء المكتبات خدمة للعلم والعلماء وتشجيع الطلبة والباحثين على البذل والعطاء . إنها مفخرة من التاريخ المغربي الساطع في الغرب الإسلامي ، وكيف حافظ على الحضارة الإسلامية بعد سقوط مراكز العلم بالأندلس . قيمة الكتاب لدى زيدان : مكتبة نادرا ما نسمع عنها وعن ظروف ضياعها كما سمعنا وقرأنا عن مكتبة بغداد وكيف أضاعها التثار والمغول وكيف أنشأوا بكتبها جسر على دجلة أو الفرات وعن كتب غرناطة التي سقطت في يد النصارى عند سقوط المدينة وحرقها . كل هذه المكتبات تتشابه في ظروف ضياعها ؛ لكن بقيت مكتبة زيدان : نجهل تفاصيل ضياعها وقيمتها العلمية ، ونعرف منها اهتمام سلاطين المغرب والمغاربة قاطبة بالكتاب ومدى حرصهم على طلب العلم والعرفان رغم ظروف قاسية عاشها المغرب بعد تدهور دوله الحاكمة ، وسقوط الأندلس على إثر ذلك . زيدان هذا كان من أحب المغاربة للكتاب ، فكان أول ما عمل في هذا الشأن هو الحفاظ على مكتبة أبيه المنصور الذهبي التي كانت بجوار جامع القرويين بفاس رغم الاضطرابات والقلاقل التي كانت تعرفها البلاد ، والتي اقتنى فيها المنصور كل أنواع المخطوطات والكتب من الشرق واليونان متقصيا عن كل إنتاج فكري في ربوع تراب الأمة الإسلامية ومبادلا الذهب الذي جلبه من إفريقيا بالكتب والمخطوطات ، فضلا على تلك التي كانت بالمغرب وحبسها للمطالعة والبحث العلمي ؛ وشرط على الباحثين عدم إخراجها من مكانها محافظا على محتوياتها من الضياع ولكي تبقى ثروة فكرية يتوارثها الأجيال للاستفادة منها وتشجيع العلم بها والتعلم (1). جاء زيدان بعده ليكرس هذا الواقع الثقافي الذي كان في عهد والده وورث عناية أبيه للكتاب والمكتبة وكيف لا وهو " فقيها مشاركا في العلوم له تفسير على القرآن العظيم معتمده فيه على ابن عطية و الزمخشري وله ما تيسر من اللغة والعلم ويكتب الشعر يدخله إلى مرتبة العلماء " وعنايته بالكتاب لن تتوقف عند هذا الحد بل استمر باتصالات لجلب الكتب إلى مكتبته فنرى أنتوان دوسان ماري antoine st.marie الدومينيكي الإيرلندي الأسير يتواجد في مكتبة زيدان " ليترجم له إلى القشتالية اللاتينية التي يملكها ثم يأمر زيدان أن ينقلها إلى العربية " وقضى انتوان دوسان ماري مدة " ثمان سنوات في القيام بهذه المهمة " كما كانت لزيدان اتصالات مع " المستشرقين خاصة الهولانديين منهم ، فنرى أربانيوس arpenius زعيم حركة الاستشراق في هولاندا يهدي إليه إنجيلا مكتوبا باللغة العربية سنة 1622" . ويعتبر حدث ضياع هذه المكتبة والظروف التي أحاطت بها- يقول صاحب كتاب الأوقاف الإسلامية- دليل آخر على مدى اهتمام هذا السلطان المغربي بالمجال الثقافي .و تذكرنا هذه المواد التاريخية بظاهرة الاستشراق ودور زيدان فيها وعلاقته بالمستشرقين الغربيين وهي في مهدها .(2) ظروف ضياع المكتبة *: يعتبر زيدان أحد سلاطين العهد الثاني للدولة السعدية بويع له ملكا في فاس سنة 1604 م - بعد موت المنصور وهو في طريقه منها إلى مراكش بعض القضاء على ثورة ابنه المامون ولي عهده وإيداعه السجن - فيما بايع أهل مراكش لأخيه أبي فارس . وقع الصراع بين الأخوين على: من يحكم المغرب ؟ عزز هذا الأخير موقفه من المطالبة بالحكم بإطلاق سراح أخيه المامون الذي سانده على زيدان . سرعان ما دخل المامون على خط المطالبة بالحكم وهو الذي ولي له بالعهد من طرف أبيه . اشتد الصراع والاقتتال والتطاحن ، قتل في ذلك الآلاف من المغاربة وانقسام البلاد إلى مملكتين مملكة فاس يحكمها المامون ومملكة مراكش وسوس يحكمها زيدان . وفي إحدى هزائمه فر المامون من العرائش إلى اسبانيا وفي نواياه أن يستنجد بملك اسبانيا فليبي الثالث للتغلب على أخيه واسترجاع عرش المغرب . وكان قد وصلته عروض تسليم بعض المراكز في شمال المغرب من بينها العرائش من طرف تاجر يهودي لكن كانت تلقاه ردود فعل مستنكرة ومستهجنة أبرزها ردة فعل محمد الحاج البقال المعروف تاريخيا بالغزاوي . مناسبة وجود الشيخ المامون في اسبانيا جعلته يقبل ،على تردد ، بتسليم العرائش مقابل 200 ألف دوكادوس . وبالفعل كان الاتفاق وتم إخلاء المدينة بالقوة من سكانها وتسليمها للإسبان ، ليزداد الوضع في المغرب سوء وتدهورا ، ومن صوره قيام أبو محلي بثورة على الدولة السعدية في بني العباس بتوات و تافيلالت ، وقد انضم إليه عدد من المتطوعين للجهاد من أجل تحرير العرائش . وما أن وصل إلى ضواحي مراكش ، خرج منها زيدان خائفا يترقب إلى أكادير عبر آسفي مستنجدا بيحيى الحاحي حاملا معه مكتبته التي كانت تضم 73 حملا من الكتب ، مخزنة في صناديق إلى آسفي حيث هناك اكترى سفينة للدبلوماسي الفرنسي دي كاسطلان ب3000 مثقال ذهبي (دوكا DUCA) ، الذي كان بصدد زيارة دبلوماسية عنده مهديا له فرسين ،لحمل مكتبته وصولجانه وعرشه إلى أكادير بحرا ، واكترى أخرى هولاندية لحمل عائلته وحاشيته . فإذا استطاع زيدان أن ينجو بنفسه ومكتبته من ثورة أبو محلي تاركا العرش والحكم لهذا الثائر؛ لكن مكتبته ستسقط في يد أشد أعدائه الإسبان . كيف ذلك ؟ أبحرت سفينة دي كاسطلان إلى أكادير، تحمل مكتبة زيدان وعندما وصلت هناك لم يتوصل بمبلغ الكراء المتفق عليه ؛ انتظر دي كاسطلان خلالها ستة أيام ليبحر في اتجاه ميناء مارسيليا ، وهو بساحل سلا إذ تعترضه سفن الأسطول الإسباني تحت قيادة "دي لارا DE LARA" لتجبر السفينة الفرنسية على الإبحار في اتجاه اسبانيا . يصل زيدان خبر ذهاب السفينة إلى فرنسا ، يقسم بيمينه على أن يأسر كل فرنسي في المغرب الشيء الذي ستترتب عنه أزمة دبلوماسية إقليمية ستمتد لسنين طوال .(3) لكن ما يثير الشكوك حول هذه الرواية أن أمر الكتب الإسلامية والمخطوطات عامة كان مستهدفا من طرف الكنيسة الكاثوليكية وملوكها ومبيت له ، فنجد لويس 14 مثلا له انشغالا واهتماما بالكتب العربية والفارسية واليونانية فأرسل سفيره ذي مونسو سنة 1077ه/ 1667 م " بمهمة خطيرة إلى المغرب الأقصى بأن ينقب تنقيبا دقيقا عن مخطوطات " باللغات التي ذكرناها و" يبتاعها له " وقال له : أن من تلك المخطوطات شيئا كثيرا في خزائن جامع القرويين بمدينة فاس " ويشير كذلك محمد إبراهيم الكتاني إلى هذا الاستهداف وهذا الطمع بقوله : " وكم ضاع من مؤلفاتنا في شواطئنا الشمالية والغربية التي استمرت سنين طويلة عرضة للاعتداء الصليبي وخصوصا من قبل البرتغاليين والإسبانيين (4) الدبلوماسية من أجل استعادة المكتبة : لم يبق أمام زيدان إلا تحريك نشاطه الدبلوماسي بعدما استحال إرجاع المكتبة مباشرة من المتهم بضياعها . وبمناسبة وجود السفير الإنجليزي جون هارسون بالمغرب أرسل معه زيدان رسالتين بتاريخ 14 يناير 1615 إلى كل من الولاياتالمتحدة للأراضي الواطئة (هولاندا بلجيكا لوكسومبورغ) يطلب فيها أن تتوسط فيها بين لويس الثالث عشر ملك فرنسا وفيليبي الثالث الملك الإسباني والثانية بتسليمها من يد إلى يد إلى لويس الثالث عشر . سارعت فرنسا لدى الملك الإسباني فليبي الثالث بمساعي لاسترجاع الكتب و لتفادي ما يتعرض له الفرنسيين بالمغرب ؛ لكن اسبانيا ترفض بدعوى أن السفينة تحمل ممتلكات دولة في صراع معها ولم تقبل إلا بسراح قائد السفينة دي كاسطلان الذي حوكم بالإعدام في محكمة قادش (CADIZ) . أما المكتبة فتم نقلها للشبونة هناك تم فهرسة 4000 كتاب وزيادة ونقلها إلى قصر الإسكوريال قرب مدريد* . بعدما انقطع الأمل من المساعي الدبلوماسية الفرنسية لإنهاء الأزمة ، دخل زيدان في اتصالات مع اسبانيا باسترجاع المكتبة مقابل 60000 مثقال ذهبي قوبل بعرض اسباني بإطلاق جميع الأسرى الإسبان في المغرب وهو عرض تعجيزي بالنسبة لزيدان الذي لا يحكم جل الترابي المغربي . مات زيدان سنة 1626 ولم يسترجع ما ضاع منه فاستمرت محاولة استرجاع المكتبة من بعده حيث طالب الوليد بن زيدان بكتب أبيه في الإسكوريال من جون دوبرادو juan de prado سنة 1040 ه / 1631 م وهذه المطالبة أشار إليها دوفيردان في كتابه مراكش (ص 435 ) . كما أرسل الخليفة الثالث له محمد ، الراهب بدرو دالكنطرا pedro d alcantara إلى فليبي الرابع ملك اسبانيا مقابل بناء كنيسة في مراكش ؛ لكن اللقاء بينهما لم يتم ، فنقل طلب السلطان إلى بابا الكنيسة الكاثوليكية الذي رفض بدعوى أن استرجاع المكتبة للمسلمين رعاية لدينهم والحفاظ عليه. لتصبح قضية استرجاع الكتب الإسلامية عامة قضية الدولة المغربية حيث طالبت الأسرة العلوية الحاكمة فيما بعد باسترجاعها . المولى إسماعيل في إطار إرسال سفيره محمد ابن عبد الوهاب الوزير في شأن قضية أسرى معركة تحرير العرائش وخاصة المائة أسير التي وقع حولها النقاش بعد رفض علماء المغرب إطلاقها ، سيشترط على اسبانيا مقابل تسريح هؤلاء الأسرى إرجاع الكتب الإسلامية حيث يقول في رسالته : " وجه خلاص هذه المائة بالوجه الذي علمناه لكم ، وأعطيناكم فسحة فيه ، وإلا فالمائة المذكورة أرقاء أسارى من جملة إخوانهم ، وذلك أن تعطونا في الخمسين نصرانيا من هذه المائة خمسة آلاف كتاب ، مائة كتاب عن كل نصراني من كتب الإسلام الصحيحة المختارة المثقفة ... وتعطون خمسمائة أسير من المسلمين في الخمسين الأخرى ، عشرة أسارى لكل نصراني " . (4) ومن هذا النص يتبين أيضا مدى أهمية الكتاب لدى السلطة المغربية التي ما فتئت تطالب بالثروات الزاخرة من الكتب والمخطوطات التي ضاعت من بين يدي المسلمين في الغرب الإسلامي وعدم تخصيص ذكر مكتبة زيدان من بين الكتب المطلوبة يرجعه بعض المؤرخين إلى الحريق الذي جاء على جانب من الإسكوريال سنة 1671 م مما كان طلب المولى إسماعيل الكتب الإسلامية عامة بما فيها ما بقي من مكتبة زيدان إن كان من جملة ما تعرض للحريق حسبما ادعى الإسبان في إحدى اللقاءات الدبلوماسية . كما طالب سيدي محمد بن عبد الله من خلال سفيره احمد الغزال سنة 1180 / 1766 م من كارلوس الثالث ملك اسبانيا، وكذلك عن طريق سفيره ابن عثمان المكناسي سنة 1193 / 1779 م من كارلوس الثالث أهداه خلال سفارته كتبا عربية للسلطان المغربي وقال هذا السفير عن كتب الإسكوريال " إنها محبسة لا يمكن التصرف فيها "( كتاب رحلة السفير الإكسير في افتكاك الأسير ) ويشير محمد إبراهيم الكتاني على أنه عثر على ثلاث نسخ من مخطوطات الإسكوريال الأولى بمكتبة تامكروت والثانية اشتراها للخزانة العامة بالرباط وعثر على الثالثة بمكتبة القصر الملكي بالرباط . (5) ولازالت بعض هذه الكتب موجودة بالخزانة العليا بجامع القرويين كعمدة القارئ في شرح صحيح البخاري للعيني بدر الدين المتوفى سنة 855 ه رقمه 1/ 124 وعدد أوراقه 150 وهو نسخة في عشرة أجزاء وجزء ضخم بخط مشرقي به خروم ، وكتاب التهذيب لمسائل المدونة لصاحبه خلف بن أبي القاسم البرادعي المتوفى سنة 438 ه رقمه بالخزانة 320 عدد أوراقه 96 يوجد في أربعة أجزاء مكتوب على ورق الغزال وجزء متوسط وكتب أخرى في الفقه والحديث ... لا يسعنا ذكرها .( 6) إذن ، أين نحن من هذا الاهتمام وهذه العناية من الكتاب والمكتبات في هذا العصر ؟ فهذا دليل على المستوى المتنور والعلمي لمغاربة القرن 16 وخاصة لسلطان مغربي عاش في فترة تمزق و تشردم وانقسام واقتتال وضعف لا تساعد على العطاء والإبداع ورفع المستوى العلمي والثقافي للبلاد ؛ ورغم ذلك تراه يجمع الكتب ويحفظها ويعتني بها ويعرف مضمونها ولو باستقدام مستشرقين للترجمة . شيء رائع وراقي فلنحدو حدوه نحن جيل التكنولوجيا الرقمية حتى تأخذ القراءة والكتاب حيزا من وقتنا المعاش.
(1) تاريخ الأوقاف الإسلامية بالمغرب من خلال حولات تارودانتوفاس د / مصطفى بنعلة ط / 1 سنة 2007 دار أبيرقراق للطباعة والنشر منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ص : 66 - دراسات في علم المخطوطات والبحث الببلوغرافي احمد شوقي بنبين ص :177instsh32.blogspot .com blog- (2)post25نونبر2015 25 تاريخ الأوقاف الإسلامية مرجع سابق ص : 67 و *يراجع في هذا الشأن كتاب دراسات في علم المخطوطات مرجع سابق (3) مجلة البحث العلمي مقال الكتاب المغربي وقيمته لمحمد ابراهيم الكتاني رئيس قسم المخطوطات بالخزانة العامة الرباط العدد 4 / 5 السنة 2 يناير غشت 1965 ص : 12 ودراسات في علم المخطوطات (بنبين) مرجع سابق ص : 181 * قصر الإسكوريال بناه فليبي الثاني يراجع كتاب دراسات في علم المخطوطات مرجع سابق (بنبين) ص : 98 (4) مكرر مجلة البحث العلمي مرجع سابق ( الكتاب المغربي وقيمته) ص : 11 و12 (5) المنزع اللطيف في مفاخر المولى اسماعيل لمؤرخ الدولة العلوية مولاي عبدالرحمان بن زيدان تقديم وتحقيق الدكتور عبد الهادي التازي ط / 1 سنة 1413 / 1993 مطبعة اديال الدار البيضاء ص : 192 - مجلة البحث العلمي مرجع سابق مقال بقلم عبدالله العمراني تحت عنوان سياسة المولى اسماعيل الخارجية ص : 297 (6) مجلة البحث العلمي مزجع سابق مقال محمد ابراهيم الكتاني ص : 12 (7) تاريخ الأوقاف الإسلامية مرجع سابق ص : 73 و74