أحمد رباص أنا الآن في جماعة إغرم نوكدال التي جعلتها الجغرافيا واحدا من مداخل مدينة ورزازات. تُحدُّ جماعتنا شمالا بجماعة زرقطن بإقليم الحوز ، جنوبا بجماعة أمرزكان، ثم بجماعة تديلي غرباً وبجماعة تلوات من الناحية الشرقية . كثيرا ما أسمع السكان يذكرون في دردشاتهم أمرزكان وتلوات. يذكرون أمرزكان لأنها هي الدائرة التي تنتمي إليها جماعتهم، ويذكرون تلوات لأنهم ذوو ارتباط وثيق بها يمتد بجذوره في أعماق التاريخ، ولأنها كانت قبل عشرات السنين تحتضن قصر الباشا التهامي المزواري الكلاوي. وكيف لا تأتي الأهالي على ذكر تلوات وهي تعني بالأمازيغية مكان التجمع واللقاء؟ في الحقيقة لم يكن الباشا الكلاوي هو من بنى القصبة، بل أسسها محمد إيبيبط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بعد وفاة مؤسسها انتقلت القصبة إلى ملكية عائلة الكلاوي التي أشرفت على استكمال بنائها وإعطائها جمالية تبرز واضحة من خلال رونقة وروعة هندستها، مما جعلها مفخرة للمغرب حيث صنّفت ضمن إطار الموروث الحضاري الإنساني الذي يشهد له بالجودة العالية. من كل أرجاء هذه الجماعة القروية الممتدة على مساحة 529 كلم مربع والتي تأوي ثلاث قبائل مقسمة إلى 48 مجمع أو دوار، مكان واحد استأثر باهتمامي واستسلمتُ لسحره؛ ألا وهو مجمع إغرم الذي يوجد به مقرا القائد والقاضي المقيم. لن أنسى ما عشتُ تلك المعاملة الطيبة التي عاملني بها القائد عندما استقبلني في مكتبه باحترام كبير وسهل مأمورية حصولي على شهادة السكنى. لكن ليست طيبوبة القائد هي ما جعل إغرم يمارس سحره عليَّ، بل هناك أشياء أخرى سوف أكتفي بالإشارة إلى بعضها. بكل صراحة، لن أستطيع إخفاء إعجابي بحانة إغرم التي كنت أحتسي فيها الجعة والماء يجري قدامي. كانت هذه الحانة بالنسبة لي متنفسا ألجأ إليه للتأمل في حصاد سنواتي الأربع الخوالي التي عشتها في ضواحي أكدز، ومنصة تعرفت من فوق ركحها على أصدقاء جدد من أبناء إغرم، كما سمحتْ لي بمجالسة دركي شاب طويل القامة وأسمر البشرة يتحدر من مدينة مراكش. تبادلنا أطراف الحديث الودي بدون تحفظات أو مُنغِّصات، مبتعديْن عن كل ما نختلف فيه مركزيْن على ما نشترك فيه من عطش إلى الجعة ذات اللون الزيتي والمفعول السحري. منذ بداية سنة 1993، واكبْتُ، على قدر استطاعتي، استعداد الحزب الاشتراكي الذي على بالي وبالكم لخوض غمار الانتخابات التشريعية التي جرت في يوم الجمعة 25 يونيو من نفس السنة. لقد تجسد قدر استطاعتي تلك في الجانب الإعلامي حيث واظبت على المساهمة في الملف الشهري الذي اقترحته الجريدة منذ يناير من السنة عينها للحديث عن أحوال الأقاليم المغربية في إطار التعبئة لربح رهان الانتخابات القادمة. تناولت مساهمتي الأولى في هذا الملف الذي سُمِّيَ ب”دفتر الأقاليم” جماعة أفرا في مقال اخترتُ له من العناوين “الجماعة التي ولدت وفي فمها ملعقة من طين” إشارة إلى الخصاص الذي يشكو منه سكانها على كل المستويات. في مساهمتي الثانية لشهر فبراير، تطرّقْتُ لجماعة أفلندرا المجاورة لأكدز متبعا نفس المنهجية التي كتبتُ بها مقالي الأول عن أفرا آيت سدرات. سكان أفرا من الأمازيغ يحرصون كثيرا على ذكر اسم بلدتهم مقترنا بآيت سدرات حبا منهم في التأكيد على أن أصولهم من قلعة مكونة موطن قبيلتهم الأم التي ما زال الحنين يشدهم إليها شدا. ومن غرائب الصدف أني جئت من جماعة قروية تأسست عام 1992 إلى جماعة نشأت هي الأخرى في نفس التاريخ، وكان الارتسام الذي انطبع في ذهني حيال هذا المعطى هو أن بلادي فتية فعلا كما ردّدتْ مرارا على مسامعنا السيدة الفرنسية العجوز التي كُلِّفتْ بتأطيرنا في اللغة الفرنسية خلال السنة التي كنا نرتاد فيها مركز التكوين. المقال الثالث كتبْتُهُ، وأنا في أكويم، عن جماعة تيديلي الجبلية. لهذا المقال الذي رأى النور بين أعمدة الجريدة ضمن أحد أعداد شهر ماي والذي استغرقت كتابته أسبوعا كاملا قصة سوف أحكيها لكم بتفصيل فيما يلي من سطور. كان بودي القيام بزيارة لتيديلي لتكون شهادتي مطابقة للواقع، لكن التزامي بالواجب المهني وعدم توفري على وسيلة نقل خاصة بي أرغماني على الاكتفاء باستيحاء مضمون المقال من الاتصال مباشرة بأفراد من المجتمع الأكويمي الصغير جاءوا من تيديلي ليستقر بهم المقام في الأوطيل كتجار ومقدمي خدمات لكل الناس العابرين منهم والقارين. كنت اتوجه إليهم بأسئلة مباشرة تتعلق بظروف الحياة في تيديلي من كل النواحي. فعلا، كان ذلك بمثابة تحقيق أفضى بي إلى نتائج تدل كلها على التهميش والإقصاء اللذين تعاني منهما الجماعة، فضلا عن الحصار الذي يتسبب فيه تساقط الثلوج والذي يمنع سكانها من الاتصال والتواصل بالعالم الخارجي. هكذا تجمعتْ عندي أوراق دونت فيها ما تيسر لي من الأجوبة التي تلقيتها من المستجوبين..رتبتها في أضمومة ووضعتها بداخل محفظتي إلى جانب أعز ما لدي من وثائق إدارية ومنشورات ثقافية. في نهاية ذلك الأسبوع، سافرتُ إلى مدينة ورزازات قصد قضاء ليلة حمراء برفقة أصدقائي الذين اعتدت اللقاء بهم هنا في ضيافة أحد أبناء المدينة ممن سُدّتْ أمامهم المنافذ المؤدية إلى الكرامة في حدها الأدنى بحيث لم يعد بمستطاعه أداء السومة الشهرية المحددة في مائتي درهم والتي وافق أول الأمر على دفعها لأصحاب المنزل الذي يقيم في طابقة السقلي. عندما انسحبتْ أضواء الغسق فاسحة المجال لليل كي يخيم ظلامه على الفضاء اشتعلتْ أضواء المدينة وعادت الحركة إلى شرايينها التي خلدت نهارا إلى ما يشبه الجمود بفعل الحرارة المنبعثة من شمس ماي، اجتمع الأصدقاء وضج المكان بضجيجهم وشغبهم. في بداية هذه الجلسة الخمرية التي لا تشبه سابقاتها، ارتأيتُ أن أستغل ديمومتها الزمنية في التحرير النهائي للتحقيق الذي كتبْتُهُ عن جماعة تيديلي. لهذا الغرض، أخرجت المسودة من المحفظة وبدأتُ عملية النسخ على إيقاع هرج ومرج الأصدقاء الذين بدأ الخمر الرخيص يلعب بعقولهم في حدود..لم يرقهم انشغالي عنهم بالكتابة وأمروني بأن أجمع أوراقي وأن أردها إلى جيوب المحفظة حيث كانت. لم أمانع، لم أخف عنهم تشنجي حيث مزّقْتُ الأوراق إربا إربا وهم يشاهدون. قلت لهم: تهنيتوا دابا؟ بقيتوا على خاطركم؟ ثم جمعت القطع الصغيرة ودسستها في المحفظة على أمل ترميمها وكتابة المقال انطلاقا منها. في صباح يوم الأحد الموالي، ذهبت إلى إحدى المقاهي الواقعة في الجزء من الشارع المواجه لمتجر “ديميتري” الخاص بالمسكرات..ْاخْتَرْتُ الركن الأيمن من واجهة المقهى وجلست إلى مائدة ثم بدأت أكتب مقالي انطلاقا من المِزَقِ التي ما فرّطْتُ فيها رغم حالة الغضب التي كنت عليها لحظة تمزيقي إياها. في الحقيقة، كانت العملية مربكة بحيث استعنت عليها باحتساء القهوة السوداء وتدخين السيجارة الشقراء. في النهاية، تمكنت من جمع شتات الموضوع واستقام على شكل فقرات احتلت حيزا من عدة ورقات. ولم تمر سوى أيام قليلة، حتى أخبرني رجل من أكدز كنت قد التقيت به في سيارة أجرة قادمة من مراكش بأن الجريدة برمجت مقالي عن تيديلي في العدد القادم ليوم الجمعة. عندما سألته: كيف عرفْتَ ذلك؟ أجابني بأنه كان في زيارة لمقر الجريدة بالدار البيضاء وأن أحد الصحافيين هو من أخبره بذلك.