على الرغم من مفعول ” الافتتان والتوهج ” الذي مارسته ملكيتنا التنفيذية ونخبتها الانتقالية، إبان ” العهد الجديد “، على جل الفاعلين والفرقاء السياسيين، بل وصل مفعول الجاذبية إلى الرأي العام الدولي، لكن سرعان ما ذبت تجليات التوجس و التشكيك ، بعودة مظاهر الاحتقان الاجتماعي و الكساد السياسي، للتأكيد على أن أوراش العهد الجديد، تطرح أكثر من استفهام ، إن على مستوى طبيعتها ، أو على مستوى رهاناتها المرحلية والاستراتيجية. فتجليات الثبات و الاستمرار واللاتحول( زكية داوود، عبد الرحيم قادر) تؤكد حقيقة النزوع الإصلاحي لنظامنا السياسي، الذي لا يخرج عن إطار ” الوضع المتجدد، الهادف إلى تأبيد النظام الحالي le statut quo rénové, qui tend à pérenniser le système actuel (Santucci). فالتناوب التوافقي (1998-2002)،جاء مشوها ومنحرفا عن اهدافه ورهاناته الحقيقية، وهدف في عمقه إلى ضمان نجاح عملية الاستخلاف وانتقال العرش لمحمد السادس . كما أن المفهوم الجديد للسلطة ، لم يقطع مع التسلط والاستبداد المخزني. أما الحداثة السياسية، فلم تكن سوى ” مشروعا ” مبتورا، وفي تعايش مبهم مع تقليدانية كابحة لكل أشكال التغيير. كما جاء رهان الانتقال الديموقراطي، ناقصا وغير مكتمل. وشكلت العدالة الانتقالية ، مع تنصيب هيأة الإنصاف والمصالحة 2004، صيرورة للبوح والنبش في ماضي الانتهاكات الجسيمة فيما عرف بسنوات الجمر والرصاص، واتسم عملها بالوصولية والتسوية، ولم تضمن لا كشف ولا محاكمة المسؤولين ، ولا ضمان عدم تكرار ما حدث، ولم تفض إلى إعمال أحد أهم توصياتها وأهدافها، إصلاح العدالة وتأطيره بسند قانوني ، وتبويؤها مكانة تجعلها مؤسسة حامية للشرعية، للقانونية وللمواطنة. إن ورش ” البناء الحداثي والديموقراطي ” ، وإن ساهم في لبرلة الفضاء العام وتحريره، لم يعمل على القطع مع التحكم، ولا على تدشين فعلي وحقيقي لممارسة سياسية مبنية على احترام العدالة والقانون ، وبتحقيق تغير فعلي لشكل وطبيعة ممارسة السلطة السياسية ، ونقلة حقيقية على مستوى الإصلاحات السياسية والدستورية، ذات الطبيعة والحمولة الديموقراطية، وتنتصب كمرحلة فارقة بين عهدين، وتنطلق بدءا وقبلا، بتفكيك كل أشكال الهيمنة والتسلط، وإحلال هيكلة نوعية وجديدة للسلطة (المصلوحي) وفي نفس السياق، جاء ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية( 2005) ، ولم يحد من الفقر والتمايز والتفاوتات الفئوية والطبقية والجهوية، ويؤكد تزايد منسوب التدهور والخطورة، وتعميق وتعميم تجليات الاحتقان الاجتماعي والسياسي والذي يعطي لفرضية ” الانفراج أو الانفجار ” (الساسي) كل راهنتيها وصدقيتها. إن ملكيتنا التنفيذية ، وفي سياق المنعطف الحالي، وباعتبارها حجر الزاوية لنظامنا السياسي، مطالبة ،انطلاقا من وظيفتها التحكيمية التاريخية fonction d'arbitrage بإخراج صيرورة توافق سياسي جديد، يتأسس على ثلاث مداخل استعجالية : إعادة هيكلة الإطار الدستوري، وإعادة تشكيل حدود وطبيعة السلط، وإعادة النظر في طبيعة ودور المؤسسة الملكية. وبالفعل، تعتبر إعادة هيكلة الإطار الدستوري، من أهم المداخل الأساسية لورش الإصلاح السياسي والدستوري ، والتي تترجم صدقية نزوع التغيير لدي الدولة، نزوع يجب أن يمر عبر توافق وطني حول مراجعة وإعداد وثيقة دستورية جديدة تؤطر عملية البناء الديموقراطي للمغرب الحداثي والديموقراطي. وذلك عبر انتخاب سلطة تأسيسية، تمثل كافة أطياف المجتمع المؤمن بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، سلطة تحول الوثيقة إلى نص دستوري ينظم ويسير كافة مناحي الحياة العامة، وثيقة تؤكد أن المغرب الحديث هو دولة للحق والقانون، دولة وديموقراطية وعلمانية، تحترم حقوق الانسان كما هي متعارف عليها دوليا، وتؤكد على أن نظام الحكم في المغرب، هو ملكية برلمانية، يسود فيها الملك ولا يحكم، وثيقة دستورية تكون في نفس الوقت ، مصدرا ومحددا للسلطة. وبالمثل، تعتبر عملية فصل السلط وتحديدها ثاني المداخل الجوهرية التي تؤشر على عمق الاختيار الديموقراطي للدولة، وتشكل دينامية اساسية وحيوية في صيرورة تعميق البناء الديموقراطي، إلى الحد الذي تجعل المادة 16 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن(1789)، من احترام الحقوق وضمانها، وتحديد السلط وفصلها، أساس كل وثيقة دستورية، على اعتبار أن فصل السلط، وتحديد المهام والاختصاصات في التشريع والتنفيذ والقضاء هي نتيجة مباشرة وملازمة، وشرط مباشر لحماية الحقوق وضمانها. إن عملية فصل السلط و تحديدها ومأسستها، لا تعتبر فقط، مؤشرا دالا على دولة الحق والقانون، على حداثية الدولة ودمقرطتها، بل شرطها الأولي. وتفيد عملية الفصل هذه، تمايزا différenciation لبنيات ومؤسسات الدولة، وتحقيق لتوازن السلطة العمومية، حيث يحدد القانون، إطار الدولة ومؤسساتها وأبعادها وأشكال اشتغالها . وبالتالي، تخضع الدولة للقانون Miallie, l'état de droit comme paradigme. فالدولة، كتقنية للتوجيه والقيادة والتنظيم السياسي والإداري، معرضة لنزوعات تحكمية ولا ديموقراطية . ” فحيثما انعدم القانون ، وجد التسلط ” ، ولأن تجميع السلط والاستفراد ب0ليات القوة العمومية هي سمة من سمات الاستبداد والتسلط .Menissier, l'état moderne et l'institution de la séparation ses pouvoirs إن الدولة الحداثية، تنهج سبيل فصل السلط وتحديدها، وتجتهد من أجل إعمال نظام للشرعية القانونية في المجال العام، حيث تسود عملية الفصل والتوازن بين السلط والأجهزة، بالشكل الذي تمارس فيه السلطات، التشريعية والتنفيذية والقضائية، عملية نقد وانتقاد وجدل متبادل، بغية تحديد صلاحيات كل سلطة، وابعاد وشكليات تداخلها و تكاملها، والتأثيرات الممكنة بينها. إن دولة الحق والقانون، هي تأكيد وحماية لاستقلالية القضاء وتحييد لكل أشكال التدخل والتوجيه والتأثير على إطاره و0ليات اشتغاله، بل يصبح القانون وتصبح العدالة، سلطة للشرعية، وأداة للاشتغال في نطاق القانون واحتراما لحدوده وقدسيته . إن الاحتكام للعدالة و الانتظام للقانون ، هو مؤشر على “حكمة اجتماعية وسياسية جديدة ” . يشكل هذا الاحتكام مدخلا للإصلاح الشامل، ويكون قوام الحكمة وشرط وجودها . إنه نقلة نوعية على مستوى القرار ، من الهي0ت الإدارية والسياسية، نحو الأجهزة القضائية، وهو ايضا شكل من أشكال إعادة الاعتبار للعدالة في مواجهة وضبط السياسة والسياسي، وعودة لرجل القانون إلى الواجهة، كفاعل حيوي في عملية الضبط والتنظيم القانوني، وهو ما يجعل القانون، آلية للتنظيم المجتمعي تقوم على التفاوض والحوار والمساءلة Commaille, la judiciarisation du politique إن دولة الحق والقانون، ” تفكيك للدولة لصالح المواطن ” Miallie ، حيث يلجأ هذا الأخير إلى القانون لفرض احترام حقوقه، والالتزام بواجباته، المدنية والسياسية، والدفاع عن الحريات من خلال مساطر إدارية وتنظيمية يضمنها تعميق المشروع الديموقراطي. ويصبح المواطن مواجها للدولة ، ومشاكسا لاختياراتها، ومسائلا لتوجهاتها، وليس كيانا ينتصب ضدها ويتمرد عليها، بل يصبح 0لية من 0ليات المشاركة والمسائلةSoulier, mes droits face à l ‘état و في مقام ثالث، يبقى أهم ورش، من أوراش التوافق السياسي الجديد،، هو تجديد مكانة وطبيعة المؤسسة الملكية ، كمؤسسة متجذرة في التاريخ والمخيال الجمعي المغربي . لقد أظهرت هذه المؤسسة ،منذ القرن 19 ، قدرة على الاستمرارية والتأقلم مع المتغيرات الواقعة في صلبها وفي محيطها . كما نجحت في إيجاد استراتيجية للبقاء، تقوم على النزعة المحافظة والترويض الدقيق للتغيير(الساسي)، وهو ما مكنها من إعادة رسم صورتها، وتغيير قاعدتها وتحالفاتها الاجتماعية . ولكن مع تنامي المد الاحتجاجي، المطلبي والسياسي، وأمام فشل أوراش واختيارات العهد الجديد، اصبح مطلب إحداث نقلة نوعية على مستوى هذه المؤسسة أمر استعجاليا . إن الملكية البرلمانية، هي أفضل السبل، سياسيا، لإعادة التوازن بين الملكية وباقي المؤسسات . ولتحقيق ذلك، يجب البدء عمليا، بإعادة النظر في الفصل 19 من الدستور، الذي وإن عرف بعض “الترميمات ” في الدستور الحالي، إلا أنه يجمع كل السلطات في يد الملك، ويقوي البعد الديني لسلطته، ويقدس من شخصه و سلطته. إن قوة المؤسسة الملكية ليست بحجم السلط التي تتمتع بها، ولا بحجم النفوذ والثروة التي تستحوذ عليها، وتمكنها من بسط سيطرتها على كافة مناحي الحياة والمؤسسات، ولا بامتداداتها التاريخية، ولا بتعاليها، بل برمزيتها ، وأهمية وظيفتها التحكيمية ، وشرعيتها الديموقراطية، ومشروعية اختياراتها ومؤسسات نظام سياسي ينبني على أساس توافق وطني بين مكونات الحقل السياسي الحداثي والتقدمي، من أجل مغرب حداثي وديموقراطي، مغرب الحرية و الكرامة والعدالة الاجتماعية. رفيق خالد