أشرف الطريبق يشهد العالم ، منذ زمن، الحديث بقوة عن «الدولة العميقة»، كقوة واضحة وخفية في آن واحد، تنشط في أغلب البلدان، هدفها ضمان الأمن والأمان والحرص على عدم الانزلاق، هكذا يصفها من يدافع عنها. وفي عيون منتقديها هي: «السلطة» التي لا تؤمن بالديمقراطية علنا، وتعمل على إجهاضها في الخفاء. لكن باستقراء آراء الجمهور وتعاليقه في الفضاء العام، يتبين أنها نجحت في الإيقاع بممارسي السياسة، واستطاعت تكريس صور نمطية لدى هواة التحليل والنقاش، مفادها أن السياسة ليست إلا تدبير مصالح، وأن من يصوّت عليهم الشعب هم فاسدون بالضرورة، تجد رجالات الدولة العميقة يشجعون على المشاركة في الحياة السياسية تصويتا وترشيحا من جهة، ومن جهة أخرى، يخرجون آلاف المقالات والتحاليل عن فضائح السياسيين ومنزلقاتهم، لجعل المواطنين يقضون أوقاتهم في المقاهي، وفي الفضاء الأزرق يستمتعون بسباب أهل السياسة ولعنهم صباح مساء، في المقابل يتم التهليل بنجاحات القوى الأمنية في القبض على شبكات الإجرام والتهريب والمخدرات، في الإيقاع بالمغتصبين والمعتدين جنسيا، ويتم تقديم كل عبارات النبل والثناء بحق النخب التقنوقراطية التي لا تنتمي الى الأحزاب «عمقا»، على خدماتها الجليلة تجاه «الحاكم» و"المحكوم ". ما نحكيه ليس قصة سياسية تقتصر أحداثها على رقعة دولة متخلفة وثالثية، بل نتكلم عن تخطيط محكم ولعبة متقنة ومحبوكة تمارس في العديد من أقطار العالم من أقصى الأرض إلى أدناها. تختلف المسميات حسب البلدان والعصور، لكن أساليبها تتشابه في نهج الاحتواء والإبعاد، الترغيب والترهيب، الحماية والتخوين، يستعملون لغة الدين والحداثة والدستور والقيم والشرعية التاريخية، وما إلى ذلك من إبداعات فرض انصياع المحكوم للحاكم، وطاعة المأمور لصاحب الأمر. لكن، عندما يفشلون في ترويض المنتخبين ومن أفرزتهم صناديق الاقتراع، يخرج رجالات «الدولة العميقة» من جحورهم، ليمارسوا لغة السياسة التي كانوا يلعنونها سابقا، بحجة أولوية إنقاذ الأمة من التطرف والارهاب وميوعة ثقافة حقوق الانسان، وتشرعن آنذاك كل أساليب القمع والترهيب في منطقة رمادية يختلط فيها الصالح بالطالح وتستولي الدولة على المجتمع، عندها أيضا، ينادي المواطن المقهور بضرورة استحضار السلطوية للدفاع عن مصلحة الوطن، وبحجة توفير الأمن والأمان، ومحاربة السيبة.... آنذاك يصبح المنطق السائد هو أن شرعية أي نظام تبنى على أنقاض أي مشروع ينتقده وحركة إصلاحية تهدده، وأن النخب نوعان: نخب مزعجة مهووسة بالحداثة والحكم الرشيد، وهي نخب مأجورة مشكوك في وطنيتها، ومصابة بالسكيزوفرينيا تستلزم العلاج النفسي في زنزانة العقاب والتأديب، وفي المقابل نخب غيورة تسبح بحمد حاكمها، يشهد الكل يصلاحها وإخلاصها، تدافع عن وطنها ولو بالأسلحة المحرمة دوليا، لأن الخصم إرهابي يريد إشعال الفتنة، والفتنة أشد من القتل. تعددت الأساليب من أجل تجويع المواطن وتحسيسه بعدم توفر جو الأمان والاستقرار، اقتداء بالمثل القائل «جوع كلبك يتبعك»، لكن الغريب في هذه الممارسات المتكررة هوأنه، هل فكر أصحابها في نهاية هذا التخطيط؟ وهل ستستمر نتائجه كما يشتهون؟؟ سؤال لا يقوون على الإجابة عنه طبعا، لأنهم ينزعجون من التفكير في المستقبل الذي يقود إلى الغيبيات وقراءة حركية التاريخ الذي يكرر نفسه، مجرد التفكير في هذا مزعج يستلزم كأس ويسكي لنسيانه والعودة إلى ممارسة الأساليب ذاتها من أجل الاستمرار. اكتسب حراس المعبد قدرات رهيبة في الإبقاء على أعينهم مفتوحة لالتقاط كل الصور، وآذانهم مصغية لسماع كل الهمسات، لكن العقول تكلست بفعل الشيء ذاته لسنوات متكررة، تجعلهم في بعض الأحيان يعيشون أحلام يقظة لا يوقظهم منها إلا ربيع غادر، أو مجزرة مؤلمة، أو ثورة عاصفة لا تبقى ولا تذر، تحرق الأخضر واليابس، يتجرأ أصحابها لرفع شعارات كانت بالأمس محرمة، لا يكترثون للهيب السياط أو رصاصات البنادق أو ظلمات الزنازين. آنذاك، يبحثون عن الحكماء ومن تبقى لديهم حبة خردل من ثقة الشعب لكي يعلنوا التفاوض من جديد، فإن أفلحوا، استكانوا إلى حين لحظة ردة مناسبة، وإن فشلوا، جمعوا ما خف حمله وغلا ثمنه وانطلقوا جميعا يتيهون في الأرض الواسعة، لعلهم يجدون ظلا ظليلا يحميهم من بركان الثورة. تنجح الثورة، ويصعد الزعيم الملهم إلى الحكم وبدلا من أن يجعل القرار بيد من قاد الحراك، يصفي أتباع الأمس ويأتي بحراس المعبد القدامى من أجل أن تستأنف الدولة العميقة أعمالها للحفاظ على شرعية نظام جديد لا يختلف عن السابق..