ان تسافر إلى بلد، او تلقي فيه محاضرات شيء، لكن ان تستقر وان تعيش فيه بشكل يومي طيلة سنوات شيء آخر. عشت في المغرب ثلاث سنوات، من اكتوبر 1998، الى اكتوبر 2001، وامتياز امكانية ملاحظة انتقال الملك من الحسن الثاني الى محمد السادس. ومقاربة التاريخ من خلال شخصيات ولقاءات ونصوص وسياقات مثيرة، تؤدي الى مراجعات للأحكام. وكل ما كنا نعتقد أننا نمتلك تصورا واضحا حوله و نستطيع التعبير عنه بوضوح، يصبح مهزوزا، ومتغيرا. ان تسافر إلى بلد، او تلقي فيه محاضرات شيء، لكن ان تستقر وان تعيش فيه بشكل يومي طيلة سنوات شيء آخر. عشت في المغرب ثلاث سنوات، من اكتوبر 1998، الى اكتوبر 2001، وامتياز امكانية ملاحظة انتقال الملك من الحسن الثاني الى محمد السادس. ومقاربة التاريخ من خلال شخصيات ولقاءات ونصوص وسياقات مثيرة، تؤدي الى مراجعات للأحكام. وكل ما كنا نعتقد أننا نمتلك تصورا واضحا حوله و نستطيع التعبير عنه بوضوح، يصبح مهزوزا، ومتغيرا. وصلت في نهاية حكم الملك الحسن الثاني، أحسست بالشلل الذي تعيشه البلاد. كان هناك انطباع بأن الجمود يطغى على كل الدوائر، بدءا بالاقتصاد. كان يبدو ان القرارات لا تتخذ. في المجال السياسي، كان أغلب المراقبين يعتقدون ان النظام الذي بناه وزير الداخلية القوي، ادريس البصري، لا يمكن تغييره, كانت النخب الثقافية تبدو ايضا محبطة وتنتظر. ومع ذلك كانت هناك اشراقات تعطي الاحساس بالتغيير، من جهة، ومجئ عبد الرحمان اليوسفي مسؤول الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على رأس حكومة يسارية، شكل أملا حقيقيا، كما شاهدنا ظهور صحافة مستقلة ينشطها صحفيون شباب خاصة مع لوجورنال والصحيفة، بدأت تتحدث عن اشياء كان مسكوتا عنها، تسير ضد الاحكام المسبقة، تكسر الطابوهات, بدأنا نجد فيها تحقيقات عن ظروف اغتيال المعارض المهدي بن بركة سنة 1965 او عن ظروف الانقلاب الذي دبره اوفقيرفي بداية سنوات 1970 ,هذه المقالات الجريئة كانت بمثابة تحديات في وجه ادريس البصري الذي كانت هذه الجرائد تطالب باستقالته. وبالتالي، وحتى قبل وفاة الحسن الثاني كانت ارهاصات إعادة النظر موجودة. منذ تلك الفترة، كان الكثير من الشباب يقولون لي بأنه يتعين تغيير, ليس فقط الصحافة, بل كذلك الاقتصاد والاحزاب السياسية. كانت شبيبة الاستقلال وبالاخص شبيبة الاتحاد الاشتراكي تساهم في هذا الغليان, ولو أن شباب جيل سنوات 1960 و 1970 هم من كانوا وحدهم يصلون الى السلطة. الاسلاموية والامازيغية اكتشفت في المغرب تيارين متجذرين في تاريخ قريب او بعيد تترجم حيويتها وقوتها، وبأن البلد يتغير. التيار الأول الذي نلاحظ قوته في المغرب هو التيار الاسلامي. تواجده ظاهر في ضواحي طنجة وفاس او الدارالبيضاء وتظهر فيها نفس القدرة على التعبئة الحضرية التي ظهرت في الجزائر او القاهرة في سنوات 1990. والاكثر إثارة هو تواجد تيار امازيغي مهم. كنت اعرف أن المغرب بلد امازيغي بالمعنى الكلاسيكي والثقافي، ولكن ما لم يكن مؤكدا هو وجود مثل هذا التيار الامازيغي السياسي. وهكذا كان المثقفون الذين يعلنون الانتماء الى الامازيغية يتقدمون اكثر فاكثر الى واجهة الساحة السياسية. كان علي أن اتأقلم سريعا مع التاريخ الذي انتجهم: تاريخ سنوات 1950 الى سنوات 1970 تاريخ معارضة امازيغية قديمة للمخزن، تعارض السلطة المركزية. تعرفت على حركة حقيقية بوجوهها البارزة ومثقفيها الناشطين منذ زمان. وبعض نشطاء الحركة الامازيغية كانوا مثيرين بقدراتهم على التحليل السياسي وكتاباتهم, خاصة حسن اوريد كصحفي وناطق رسمي باسم محمد السادس فيما بعد, او محمد شفيق كشخصية اسطورية معارضته للحسن الثاني في بدايات الحركة السياسية الامازيغية, الذي كتب بيانه الشهير, بيان من اجل الاعتراف بالثقافة الامازيغية بتاريخ 1 مارس 2000 وهو البيان الذي وقعه مليون مغربي في البوادي والمدن عبر ربوع البلاد. التقيت محمد شفيق في منزله الراقي بالرباط سنة 2001 والتاريخ السياسي والثقافي المغربي، آخذ مداه عند تقاطع عدة مشاريع كبرى: مشروع التقليد الاسلامي، مشروع الحركة الامازيغية ومشروع معارك التحرر من الاستعمار التي ظهرت في القرن 20. غداة استقلال البلاد سنة 1956 وبين ثنايا المجتمع الاستعماري المحصور، كانت تتسلل مغامرات فردية تكشف عن جزء من المجتمع المغربي. كان ذلك حال محمد شفيق الذي اصبح شخصية سياسية وثقافية بارزة. وحياته تنير وتمتزج بكل الفترات البارزة لتاريخ المغرب في القرن 20. محمد شفيق ولد سنة 1926 اربع سنوات قبل اعلان الظهير البربري الذي نظم وشرعن للعدالة في المحاكم العرفية البربرية. كان تلميذا بالثانوية الفرنسية البربرية بآزرو. شارك سنة 1944 في الاضرابات التي صاحبت صدور وثيقة المطالبة بالاستقلال، اثارته مظالم النظام الاستعماري وكان يريد في نفس الوقت الحفاظ على خصوصية الهوية الامازيغية. كان يقود معركة على واجهتين. هذا التحول في الحركة يكشف عن الطابع الخاص والفريد لمقاربته ومغامرته النضالية والفكرية كانت في مستوى حلمه تأكيد تشبثه بالمغرب وبتاريخيه الطويل والملكي، وفي نفس الوقت الجهر بكل قوة بالثقافة الامازيغية ورفض قمعها. وأصبح متعلما ورجل ثقافة كبيرة في ثلاث لغات: الامازيغية، العربية والفرنسية. بعد الاستقلال اشتغل محمد شفيق مفتشا عاما للتعيلم ومديرا للثانوية الملكية، اسس في سنوات 1980 - 1990 عدة جمعيات ثقافية امازيغية. وهكذا وجد نفسه داخل وخارج النظام المؤسساتي المغربي يتلقى على التوالي ضربات او رعاية السلطة. من خلال مناقشاتنا، لمست كل الأهمية التي يوليها للتاريخ البعيد. بالنسبة له، الالتزام يولد من صدمة الحاضر وتحول الافكار التي انتجتها الاجيال السابقة. يتجذر في التجربة المتراكمة انطلاقا من مكان الطفولة والشباب. وبناء الوعي السياسي يتغذى من التقاليد والاعراف، من فن العيش والوجود الذي تحافظ عليه كل منطقة بعناية. واذا كان يدافع بقوة عن وعي موحد وطني، فإن هذا الوعي لن يمحي ابدا الاختلافات الجوهرية، الانتماء الى العالم الاسلامي وجاذبية الثقافة الاوربية، وتأكيد اللغة الامازيغية ومن خلال الانصات لمحمد شفيق، وتتبع مساراته السياسية. أرى بشكل افضل تقاطعات واستمرارية الايديولوجية المغربية. ومن خلال هذا المسار المتفرد، تظهر لعبة العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية القائمة ومعناها من أجل البحث حول المغرب المعاصر ومن خلال هذه الشخصية، يبرز في تصوري، هذا البلد الشعبي المتعلم الذي ينحدر منه والذي ترافقه فيه اساليب العيش حتى النهاية. عقلية انعزالية إلى جانب الانطباعات المرتبطة بالظروف، اثارتني مميزات اخرى للمجتمع، وللبلد، وهكذا اكتشفت الى اي حد المغرب بلد «محاصر» منطوي, فهو مغلق من جانب حدوده مع الجزائر منذ 1994 مغلق في حدوده الشمالية مع اسبانيا بفعل اتفاقيات شينغين التي تعرقل الهجرة ,مغلق في الجنوب بفعل النزاع مع البوليساريو واخيرا في الغرب يواجه المحيط الاطلسي. هذا الوضع الانعزالي، لم أكن اتصور انه مؤثر الىهذا الحد ولو ان اسبابه او نتائجه الاساسية. العلاقات الصراعية مع الجزائر، وعبور مضيق جبل طارق بقوارب الموت - موجودة منذ مدة. والعقلية الانعزالية للمغاربة ناتجة عن هذه الانغلاقات المتعددة من الخارج , يبدو لي ان المغرب يأخذ تارخيا مكانه في نظام للتبادل الافقي مع المغرب العربي من خلال مبادلات متنوعة اقتصادية او ايديولوجية. لكن من خلال مقامي يبدو لي ذلك غير صحيح. فحكم الحسن الثاني الطويل لم يستطع سوى ان يعمق هذه الوطنية المنعزلة. وكانت الملكية تحس أنها معرضة للهجوم وانها ضحية حملات اعلامية خاصة من فرنسا, عندما كان فرانسوا ميتران في السلطة. وصورة المغرب ظلت عمليا طيلة هذه السنوات سيئة جدا، صورة بلد لا تحترم فيه حقوق الانسان، وصورة بلد ملتصق بالغرب بينما جاره الجزائري يحتفظ بسمعة دولية تقدمية وعالم ثالثية. ومع ذلك فهذه الثقافة الانعزالية لم تظهر مع الحسن الثاني، بل هي قديمة. ومثل هذه العقلية ترتبط كذلك، باحساس بالعظمة. والاعتزاز بالانتماء الى بلد له تاريخ طويل ولم يعرف الاستعمار لا العثماني ولا الفرنسي حقيقته( البلد استعمرته فرنسا في شكل حماية طيلة 40 سنة من 1912 الى 1956 ) لكن هذا الانطباع يمكن ان ينقلب ضد المغاربة. فعدم مواجهة المبادلات والتنقل والاختلاط قد يعرضهم للانغلاق في احساس بالتفوق او الاكتفاء، ذلك الاحساس بمعرفة كل شيء ورؤية كل شيء. والاحساس بالانغلاق يمس جوانب اخرى من الحياة بالمغرب. وأحد اعراض هذا الانعزال نراه مثلا في علاقة المغاربة مع العائلات الكبرى, فهذه الارسطوقراطية الحضرية يصعب الوصول اليها وهي تتصرف كما لو انها تمتلك معرفة خاصة. واوضاعها الاجتماعية الخاصة في المراكز الكبرى مثل الرباطوالدارالبيضاء وفاس تساهم ايضا في هذه الظاهرة. واكتشاف كل هذه الاشياء، بعد وصولي شكل مفاجأة بالنسبة لي ,لأن الخطاب الرائج حول المغرب، لا سيما في باريس كان يسير في الاتجاه المعاكس, كان الحديث عن بلد بآفاق واسعة، ملتقى استراتيجي لعدة حضارات منفتح كثيرا على العالم، يستقبل العديد من السياح، ويشجع المبادلات التجارية وتنقل النخب. النقيض تماما بشكل ما للجزائر التي كانت لي بها معرفة أفضل. لم يكن الامر صحيحا تماما. لم يكن ذلك آخر مفاجآتي، ما كنت اعتقد معرفته حول مكانة اليهود بالمغرب سيظهر انه مختلف عن الحقيقة, كانت في ذهني صورة عن آخر بلد في المغرب العربي، بل عن مجموع العالم العربي الذي حافظ بشكل كبير عن أقليته اليهودية. بدون شك ولأنه استمرار لزمن سابق وتعبير عن رغبة سياسية، ويمكن أن نجد فيه حالة فريدة ليهود مقربين من السلطة بل ومشاركين فيها. ولكن ذلك لا يعطي صورة حقيقية عن واقع سوسيولوجي. لأنه لم يبق سوى القليل من اليهود في المغرب 2000 وربما 3000 فرد . وخلال المناسبات الدينية الكبرى يمكن ان نلاحظ انهم ليسوا كثيرين في» البيع «. ويمكن للفرنسي ان يندهش ايضا لحجم التواجد الثقافي الفرنسي. والتعاون الثقافي مع المغرب هو الاكبر من نوعه. والنظام الدراسي الفرنسي حاضرا ايضا وبقوة 15ا لف الى 20ا لف تلميذ مغربي يتابعون دراستهم حسب هذا النظام ,والتناقض صارخ بين هذا النظام والنظام التعليمي المغربي الذي يوجد في وضعية مزرية. وهذا يقود الى التساؤل حول الفوارق في مجال التربية وحول اعادة الانتاج الرهيب للنخب المطبق عمليا في البلد. وتجدر الاشارة هنا الى أن المغرب يعرف اعلى نسبة للامية في المغرب العربي تقدر رسميا ب %45 وان نسبة تعميم التمدرس ماتزال بعيدة عن بلوغ %100 بالنسبة للأطفال في البوادي. وتشغيل الاطفال الذي يعرقل جهود تعميم التمدرس. مازال مستمرا في البيوت والفلاحة والصناعة التقليدية. مع الجزائر، المقارنة المستحيلة والضرورية منذ وصولي، توالت التحذيرات, لا تجب المقارنة بالخصوص بين المغرب والجزائر، قيل لي البلدان مختلفان تماما ولا يمكن فهم المغرب من خلال الجزائر. بالتأكيد هذه الملاحظات لها ما يبررها من عدة جوانب، الاختلافات الجوهرية بين الجارين بارزة للعيان. فتجدر الملكية الذي نلاحظه في المغرب وتشبت المغاربة العميق بهذا النظام وفي كل شرائح المجتمع تفرض التمييز منذ البداية بين البلدين. ومع ذلك انخرطت في مغامرة المقارنة بين البلدين. فالحضور الاستعماري الفرنسي الطويل في الجزائر (حوالي قرن ونصف 1962-1830) والقصير في المغرب (أقل من 50 سنة من 1912 إلى 1956) أثر في تجديد المجال ورسم الحدود الذي أراده المستعمر، حد من تنقل السكان والبضائع في هذا المجال رغم سلاسته إلى درجة أن المطالب الترابية قفزت إلى الواجهة بسرعة مباشرة بعد الحصول على الاستقلال، ولعبت دورا حاسما في تأكيد الهوية الوطنية والجفاء بين المغرب والجزائر، بينما تاريخيا لا شيء يوحي بمثل هذا التعارض. ذلك أن مختلف الأجيال السياسية التي تعاقبت في المغرب العربي طيلة القرن 20 كانت تتعارف فيما بينها وقاتلت جنبا إلى جنب ضد الاستعمار، ويكفي التذكير بتضامن الجزائر مع ثوار الريف في سنوات 1920، وانشاء نجمة شمال افريقيا التي طالبت منذ 1926 باستقلال دول شمال افريقيا الثلاثة، وإحداث لجنة تحرير المغرب العربي بالقاهرة سنة 1948 برئاسة عبد الكريم الخطابي، ومؤتمر طنجة سنة 1958 الذي جمع حزب الاستقلال المغربي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية وحزب الدستور التونسي ونشأت علاقات شخصية قوية جدا بين كل قادة هذه الأحزاب. وهي العلاقات التي تفككت ثم انقطعت تدريجيا في سنوات 1980-1970 إلى درجة أن الأجيال الجديدة على جانبي الحدود المغربية الجزائرية تجد صعوبة في التعرف على تاريخ بلدانها. وهكذا يحتفل الجزائريون كل سنة بانتفاضة الفلاحين في منطقة قسنطينة يوم 20 غشت 1955، لكن الشباب لا يربطون حقيقة بين هذه الانتفاضة وإقدام السلطات الاستعمارية الفرنسية على نفي السلطان المغربي الملك محمد الخامس... والذاكرة تنمحي لأنه لا يتم نقلها، والحركات الوطنية المشتركة في فترة الاستعمار ولدت وطنيات خاصة بكل بلد بعد الاستقلال. وفكرة الأمة التي ولدت في تلك الفترة برزت في أراضي مختلفة وحدود رسمت اعتباطيا من طرف المستعمر الفرنسي باستثناء الجزء الجنوبي. ومنذ الحصول على الاستقلال، خلفت السياسة الرامية إلى تأكيد الشرعية من خلال اللجوء المتكرر إلى رسم الحدود، وتأجيج الوطنية الإيديولوجية والخطابات النارية حول العودة إلى الأصالة الوطنية، خلفت آثارا عميقة في كل مجتمع, ولحظات «المستقبل المشرق» لسنوات 1960، كلحظة انتشاء في بناء المجال المغاربي الكبير تبخرت، وتركت المكان لنوع من الريبة والملل، ليس فقط على مستوى الدول ولكن في المجتمعات، وقضية الصحراء أثرت كثيرا في علاقات الصراع بين المغرب والجزائر. وتبدو وجهات النظر متباعدة: فالمغرب يعتبر أن الصحراء الغربيةإقليم مغربي، بينما الجزائر تدعم جبهة البوليساريو باسم حق الشعوب في تقرير المصير. ولا يبدو أي توافق ممكنا، حتى »الطريق الثالث« المتمثل في منح حكم ذاتي واسع لبرلمان صحراوي تحت السيادة المغربية. وفي زمن بناء التجمعات الإٍقليمية الكبرى في العالم، لازال الحديث في منطقة المغرب العربي يدور حول بناء دولة إضافية. ووراء النزاع الصحراوي الأساسي، تختفي رهانات أخرى، وعلاقات أخرى حديثة مرتبطة بالمجال وبالتاريخ وبناء القوميات مختلف: من جهة في الجزائر تناقضات مصدومة وتغييرات مفاجئة وقوى عنيفة تتعارض فيما بينها. ومن جهة أخرى في المغرب نوع من النمو البطيء والمتواصل لنخب وطنية مسنودة الى الملكية في مقاربتها لمكافحة الاستعمار. بالنسبة للجزائريين التاريخ (الاستعماري والتحرري) يخلق المجال الترابي، وهذا الأخير لا يوجد كإطار طبيعي محدد مسبقا. والتراب هو مجال سياسي، والتاريخ يرسم الحدود ويمحي الجغرافيا. ولكن الجغرافيا تظهر بعد ذلك وبقوة من أجل الاحتفال بسيادة التاريخ المنتصر، وشساعة التراب الموروث (أو المنتزع) يسمح بالتغطية على غموض ماضي جزائري يتميز باحتلالات أجنبية مختلفة. ومنطق المرئي (الآثار الكبرى للجغرافيا) تكون في خدمة اللامرئي (الأشغال الخفية للتاريخ). بالنسبة للمغرب رسم التراب الوطني ليس اعتباطيا، ولكنه تعبير عن تطور تاريخي للبلد، والأمة لا تتحدد فقط من خلال خطوط حدودية، بل من خلال الوظيفة الملكية، وظيفة المبدل والرابط بين أقاليم المملكة، واستمرارية الدولة الممتدة على مدى قرون ولم تكسرها الحماية الفرنسية تدفع المغاربة إلى ربط علاقة مع التاريخ لا تشبه في شيء ما نلاحظه في الجزائر، حيث يتم الرجوع دائما إلى تاريخ قصير، ثوري, تاريخ قطيعة. في المغرب هناك استمرارية من حيث التقاليد، ليس فقط تقاليد الدولة ولكن أيضا التقاليد الدينية أو اللغوية التي لا توجد على الجانب الآخر من الحدود، بينما في الجزائر, ما يثير هو تقريبا غياب تاريخ حقيقي, وبسبب كثرة تجاهل الأحداث وتهميش الآباء المؤسسين، يعرف المغرب نوعا من التخمة التاريخية. والسؤال ليس هو معرفة ما إذا كان يجب إعادة إدماج وجوه تاريخية سابقة في التاريخ الوطني، بل يجب التساؤل كيف يمكن »التخفيف« من ثقل كبير للماضي. لأن هذا الأخير، إلى حد ما، يمنع رؤية الحاضر والمستقبل ويؤدي إلى الانغلاق في ثقافة الموروث والأطلال والتقليد. وعلى النقيض مع الجزائر، التاريخ هو ما يمكن الحديث عنه بسهولة، ليس هناك أي مشكل في الحديث عن العلاقة مع الأقلية اليهودية والعلاقة مع الفرنسيين ومع الحماية وعن مشاركة المغاربة في الحرب العالمية الثانية، ويمكن الحديث عن الصفحات المشرقة، كما يمكن الحديث عن الصفحات الحالكة. والطابوهات ليست مع ذلك صارمة. وأهم هذه الطابوهات بطبيعة الحال، يهم أولا أي طعن محتمل في الواقع الملكي، ثم بعد ذلك، مشكل الصحراء، فالملكية ومغربية الصحراء تشكلان خطوطا حمراء يصعب تجاوزها. وبغض النظر عما يجري عند الجار الجزائري، هناك أمل في إبعاد أي خطر أن يشهد المغرب وضعية مماثلة. ورفض المغاربة يبدو كنوع من التعزيم لطرد الأرواح الخبيثة. وعدم الحديث عن الجزائر يعني التعامل كما لو أن قضية الاسلاميين وقضية الأمازيغيين غير مطروحة بالمغرب، كما لو أن مخاطر زعزعة الدولة لا يمكن تصورها، كما لو أنه يستحيل مثلا أن تطالب النساء بالحقوق. من جهة أخرى، إذا كانت الجزائر هي أهم شريك طبيعي للمغرب، فإنها في نفس الوقت، أهم عدو له بسبب نزاع الصحراء. وبالتالي، الاهتمام بالموضوع، يعني بالضرورة التطرق لقضية الصحراء. ولهذا السبب أيضاً يتم تفادي المقارنة مع الجزائر. ومع ذلك، فالبلدان يتحدثان نفس اللغة، والعربية الدارجة هي نفس لغة الشارع، وعموما، هناك نفس العلاقة التي ترتسم مع العالم. وفي تقاليد المطبخ في العادات, في الأعياد الدينية في الموسيقى في عادات الاسلام، في الحياة الجماعية والقبلية، في طريقة التواصل مع الناس في الشارع، في ارتياد المقاهي، في العائلة وفي كل مناحي الحياة اليومية، فإن الاختلافات تبقى بسيطة. وقضايا المجتمع مثل مكانة النساء في المجال العمومي والخاص متشابهة كذلك. شئنا أم أبينا، فإن المعيش على جانبي الحدود يقع عموماً في مجال ثقافي مشترك. فنفس الشباب أراهم في الدارالبيضاء، في الجزائر، يلبسون بنفس الطريقة، يغنون نفس الأغاني... ويريدون الرحيل لأنهم يحسون بالاختناق والعيش في مجتمعات محصورة. لهم نفس الرغبات ونفس الإحباطات. في المغرب، كانت نسبة البطالة في الوسط الحضري 21 % أما البطالة في الوسط القروي، فإنها غير دقيقة. الجامعيون والصحفيون المغاربة كلهم يقولون لي بأن المغرب تغير بشكل كبير في السنوات الأخيرة. والصورة الكلاسيكية للبلد، كما شرحها «ريمي لوفو» في كتابه الفلاح المدافع عن العرش في سنوات 1970، بدأت تتغير. وفي بداية سنوات 2000، ورغم أن المغرب يبقى بلداً زراعياً بشكل كبير، فإنه لم يعد يمثل تلك الصورة. من وجهة نظر إحصائية، فإن الحضريين أصبحوا منذ مدة أكثر من القرويين وهذا المنحى متواصل. والمغرب اتجه نحو ثقافة حضرية. وهذا البلد قضى زمناً طويلا للخروج من بدويته، وهذا واقع قائم، ولو أن تطور العقليات بطيء بالضرورة. والنقاش حول البداوة أصبح محسوما: الناس، وخاصة الشباب، بدأوا شيئاً فشيئاً يغادرون المناطق القروية, وهذه نقطة مهمة لفهم مستقبل البلاد. في المغرب، وحسب تعبير الباحث السوسيولوجي الجزائري مصطفى لشرف، تتطور ظاهرة »الأريفة« من خلال اجتياح سكان البوادي للمدن بثقافة بدوية, مما يؤدي إلى زعزعة العادات ويثير سخط وغضب النخب الحضرية العريقة. تغيير في العرش كنت في المغرب، عندما توفي الحسن الثاني، واعتلى محمد السادس العرش في يوليوز 1999. كان ذلك بالتأكيد، وبغض النظر عن الظروف، قطيعة. اتخذ محمد السادس خلال الأشهر الستة الأولى من حكمه سلسلة من القرارات الجريئة, مثل رفع اجراءات الإقامة الجبرية أو المنفى, شملت شخصيات مثل ابراهام السرفاتي أو الزعيم الاسلامي عبد السلام ياسين. وحرية التعبير التي شهدناها كانت جريئة، واحتلت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ومنتدى الحقيقة والإنصاف اللتين ناضلتا من أجل جبر حقيقي للضرر وإعادة الاعتبار لضحايا عهد الحسن الثاني، احتلتا واجهة الساحة المدنية ثم الصحافة التي بدأت تجرب نوعاً من الحرية، ولم تعد تتردد في معالجة مواضيع كانت حتى وقت قريب ممنوعة أو من المحرمات. وبدأت تنشر مقالات عن الفساد والدعارة وأزمة النخب والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية الأكثر جرأة، أو أزمة العالم القروي. «انغمست» في الصحافة مثل جميع المغاربة، وفجأة بدأت الصحف تتحدث بشكل واسع عن أشياء كان الحديث عنها محصوراً في الدوائر المغلقة. وأصبح ممكناً الحديث بشكل إيجابي أو سلبي عن الحكم السابق. وأصبح بإمكان المغرب مواجهة كل مشاكله، وكان ذلك مثيراً إلى حد أنه أدى، ولو بشكل غير مباشر، إلى عدة عرائض ومظاهرات ضخمة في شهر مارس 2000 التي سمحت للبلاد أخيراً، إلى التساؤل حول قضيتين كبيرتين: مكانة النساء في المجتمع ومطلب الأمازيغية. لكن وبسرعة، تم وضع هذين الملفين، وبالأخص ملف النساء، جانباً ولو أن النقاش انطلق بعد مارس 2000 والمظاهرات الضخمة في كل من الدارالبيضاءوالرباط، والتي جمعت مئات الآلاف من المتظاهرين مع أو ضد إصلاح وضعية المرأة، وقع توقف، بدأت الأسئلة تطرح في الدوائر السياسية والفكرية: هل هو مظهر من مظاهر مقاومة الأجهزة الأمنية القديمة داخل جهاز الدولة؟ هل هو الخوف من أنه إذا فتحنا في نفس الوقت ملف الذاكرة والتقاليد والاقتصاد، فإن ذلك قد يؤدي إلى عدم التحكم في مجمل المسلسل الديمقراطي؟ والانطباع الذي كان سائداً آنذاك هو أن المدافعين عن انتقال نحو مزيد من الديمقراطية. لكنه انتقال متحكم فيه هم الذين انتصروا. خلال هذه الفترة، من مارس 2000 إلى شتنبر 2001، سمعت انتقادات تستهدف محمد السادس، اتهم بأنه اختار الانتظارية بأنه أحبط الآمال الكبرى التي أثارها بعد بداية حكم رائعة. وعلى العكس، كان آخرون يقولون بأن الأمر يتعلق بأن يفكر الملك على المدى البعيد في بلد يفضل التاريخ والمدى الطويل، بأن يدبر الوقت بأن يسجل الاستمرارية إزاء مسلسل تغيير حتمي. طرحت على نفسي سؤال العلاقة مع هذا الزمن الطويل للملكية... صحيح أن ملكاً، يجلس على العرش لمدة طويلة ليس رئيس حكومة، وخاصة عندما يكون شاباً مثل محمد السادس. والمغرب راكم تأخيراً كبيراً في عدة ميادين، في التعليم, في الاقتصاد في الحياة الديمقراطية. وبالتالي، وحسب بعض رجال السياسة المغاربة، وخاصة في صفوف الاشتراكيين، لابد من إبداء التريث و »إعادة تأهيل« الذات والقيام بإصلاحات جوهرية مع الأخذ في الاعتبار مسلسل العولمة الحالي. وربما كانت لحظة توقف مارس 2000 تجسيدا للتساؤل حول وثيرة هذه الإصلاحات، أي حول طريقة تدبير الوقت، خاصة إزاء قضايا خارجية مثل العلاقة مع أوربا (إلى أي حد يتعين إلحاق المغرب بأوربا؟) قضية الصحراء (كانت وقتها تجري مفاوضات صعبة تحت إشراف الأممالمتحدة) قضية العلاقات مع الجزائر (إعادة فتح الحدود أم لا، إحياء المغرب العربي أم لا)، ولكن كذلك إزاء قضايا داخلية: العلاقة مع الاسلاميين، قضية المرأة، مراجعة مدونة الانتخابات أم لا في أفق الانتخابات التشريعية المقررة سنة 2002. كل هذه القضايا كانت تبدو لي حاسمة، لكنها يمكن أن تبرر في نظري »»استراحة«« حتى يتسنى أخذ وقت للتفكير. أعرف جيداً أن هذا الخطاب لا يقبل بسهولة في أوساط الشباب الذي يستعجل إصلاحات حقيقية وعميقة. ولا يمكن أيضاً أن نستبعد أن تكون التجربة الجزائرية في نهاية سنوات 1980 وبداية سنوات 1990 قد أثرت ولو بشكل غير مباشر. في الجزائر، الحركة سارت بسرعة كبيرة دون تفكير حقيقي حول عواقب المسلسل الديمقراطي بعد انهيار نظام الحزب الواحد (الترخيص، بتأسيس الأحزاب وتكاثرها، فتح المجال الإعلامي والصحافة، الترخيص بالتظاهر، وضع المرأةو مكانة الدين) كل شيء أنجز أو على الأقل نوقش في مناخ محموم، إلى درجة أنه كان من الممكن التساؤل ما إذا كانت الدولة الجزائرية تتحكم في الوضعية. والنتيجة أدت إلى تعليق المسلسل الانتخابي سنة 1992 وعودة الجيش الى الواجهة، مما يطرح التساؤل حول النتائج المحتملة لغليان ديمقراطي غير متحكم فيه. في المغرب، أقيس ثقل الثقافة الملكية وهو ما يعني كذلك ثقافة التوافق والاستمرارية. والخيال السياسي المغربي لا يشتغل على إيقاع القطيعة. يمكن أن نكون في المغرب في مرحلة إصلاحات، ولكن ليس في لحظة من نوع «»لنشطب الماضي»« مثل ما وقع في الجزائر. ورغم الاجراءات الرمزية القوية التي حصلت منذ وصول محمد السادس الى الحكم انتصرت الاستمرارية أولا على مستوى الدولة مع نفس الحكومة. ولم نبدأ إلا حديثاً في التحرك لنوع من إصلاح المخزن، هذا النظام الدولتي المغلق والغامض والمستبد الذي لم يتطور منذ عهود. السلطات والحكامة الجيدة لا يبدو لي أنه منذ وصول محمد السادس للحكم، تم فتح نقاش جوهري حول تنظيم وتوزيع السلطات في البلد، على الأقل، في هرم الدولة، في العلاقات بين الحكومة والقصر. لابد من استحضار أن جميع محاولات الإصلاحات السياسية من أبسطها الى أهمها، يمكن أن تتكسر في المغرب، ليس فقط على صخرة المقاومات داخل جهاز الدولة، بل أيضاً على حائط نوع من التقليدانية والمحافظة داخل المجتمع. والعلاقة مع السلطة لا يمكن فهمها إلا بعلاقة مع هذا المجتمع. والثقل السوسيولوجي ليس هنا تعبيراً دون معنى. ومع ذلك، هناك نقاشات، بما فيها حول قضايا صعبة من قبيل وضع الملك (الملك الحكَم، أو الملك المقرر)، ولا يذكر أنه مع دخول المغرب شيئا فشيئاً الى الحداثة السياسية، لن يبدع صيغة مميزة. ولكن هل هي قضية مستعجلة؟ في المغرب اليوم المشكل الجوهري ربما ليس هو مشكل توزيع السلط، بقدر ما هو مشكل ما يصطلح عليه بالحكامة الجيدة: كيف يمكن تطهير المالية العمومية، ومحاربة الفساد وتقويم النظام التعليمي ومحاربة الأمية وتحسين تدبير المقاولات وجذب الاستثمارات الخارجية وتغيير وضع المرأة المحكومة بمدونة الأسرة وإرساء قانون جديد للشغل؟ كل هذه القضايا الجوهرية لن يتم حسمها عبر المناقشات حول وضع الملكية ومستقبلها. والتفكير في الحكامة أهم بكثير، ولم يتحقق تقدم كبير على هذا المستوى. شاركت في عدة ندوات يفترض أنها لإعداد الإصلاحات الكبرى، لكن المجتمع مازال ينتظرها. وصعوبة الإصلاح في المغرب، لا يمكن اختزالها في الطابع المحافظ للمجتمع، هناك بالتأكيد كذلك مشكل رغبة سياسية. وعدم وجود إصلاحا كبرى ملموسة لا يرتبط فقط بتقليدانية المجتمع أو بشكل السلطة. فالملك هو الذي يعطي الانطلاقات الكبرى والحكومة تتعامل بالتشاور مع القصر، وليست هناك مشاكل على هذا المستوى، وليس هناك أي صراع كبير قد يفسر بطء الإصلاحات... ولكن من جهة أخرى، صحيح أن الحكومة، بشكل ما، يمكن أن تستند على المحافظة السائدة لكي لا تقوم بأشياء مهمة، هي حلقة مفرغة يتعين كسرها. صعوبة الخلف بين الأجيال إن واقع عدم ظهور جيل جديد من المسؤولين السياسيين (باستثناء الملك) يبدو لي عقبة أمام البلد. وجيل محمد السادس لم يتسلم بعد زمام السلطة في البلاد. والملك اليوم أصغر بكثير من مجموع الوزراء. وفي الانتخابات المرتقبة (شتنبر 2002) من الصعب تلمُّس خلف سياسي. ومع ذلك، داخل كل الأحزاب السياسية تطرح مشاكل الخلافة والشباب يريد التغيير بما فيها داخل التيار الاسلامي. ولكن لحد الآن، لا يترجم ذلك على مستوى توزيع المناصب. وعلى هذا المستوى كذلك، تتغير الأمور ببطء. وبعيداً عن السياسة، وباستثناء مجال الصحافة، يطرح اكتشاف النخب الصاعدة خاصة المثقفين الشباب الذين يريدون تحريك البلاد، يطرح إشكالية وصعوبة تحديد هؤلاء المثقفين الذين يتوقع أن يكون لكلمتهم تأثير بارز في البلاد، ربما هي نتيجة لمرحلة سنوات 1970، سنوات الرصاص. آنذاك، من كانت أعمارهم تتراوح ما بين 25 أو 30 سنة، المنتمين لعالم السياسة أو الثقافة لم يتمكنوا من التعبير: لقد تعرضوا للقمع أو اختاروا المنفى أو الصمت. وهكذا، وحتى قبل تغيير الأجيال والانتقال إلى »جيل محمد السادس«، يتعين على البلاد أن تواجه شبه اختفاء جيل من المثقفين أو السياسيين ومشكل «»الحلقات المفقودة«« في التوالي السياسي والثقافي بين الأجيال مطروح بقوة، ولو أنه من الممكن لقاء أناس متميزين. ومن ضمن المؤرخين والسوسيولوجيين الذين تمكت من لقائهم بالجامعة هناك مثلا محمد العيادي الذي أنجز تحقيقا مهما جدا حول الشباب والدين بالمغرب. والباحث السياسي محمد الطوزي والمؤرخ محمد الناجي الذي اشتغل على العبودية وكسر عدة طابوهات في هذا الموضوع، وآخرين أمثال عبدو الفيلالي الأنصاري الذي ينشط مجلة «»مقدمات«« الثقافية. اكتشفت في هذه المجلة إعمالا لعدة نظريات تفسيرية «»لفهم»« المغرب العربي بالأمس واليوم من خلال قراءات في الكتب والصور ومقاربات متفردة تقيس المسافات بين الضفتين الجنوبية والشمالية، ومعلومات حول وضعية المعرفة في العالم الإسلامي، وتقارير تظهر تأرجح الباحث بين الانبهار والإحباط... ها نحن بعيدون عن الأعراض التي تصيب العديد من «»الخبراء»« الذين يمارسوم اابعد البارد تجاه موضوع بحثهم. بذريعة عدم التأثر بالأحكام المسبقة لموضوع دراستهم. في بداية سنوات 2000، شكلت مجلة «»نجد»« الجزائرية ومجلة »مقدمات« نوعا من الترياق لظاهرة النسبة الأخلاقية الزاحفة، ذلك التشكيك الراقي الذي يقود إلى لا مبالاة تجاه معاناة الآخر وتجاه خطر الظلامية (حيث يمنع التهديد الإسلامي أي تفكير نقدي). من خلال التستر بالحياد العلمي. وعمل المجلة، من خلال ازعاج هذه الممارسة الإيديولوجية للفكر العالم، أزعج في المغرب نوعا من الترف الفكري الذي يدعو الى دراسة الاستمراريات على المدى البعيد، وفي رأيي مجلة »مقدمات» شكلت إحدى بؤر التعبئة الفكرية التي تقول بأن لا الممارسة البسيطة للعلوم الاجتماعية ولا الخبرة بإمكانها أن تبني وضع المثقف. والاحتجاج الأخلاقي أو الثقافي يمكنه أيضا أن يساهم في إبرازه. صوت هؤلاء المثقفين الذين تراوحت أعمارهم بين 50 سنة، مسموع في المغرب ولكنهم قليلون، والانخراط الضعيف للباحثين، لاسيما في مجال تاريخ المرحلة المعاصرة يفسر، لا محالة، الدور الأساسي الذي لعبته الصحافة من خلال »انفرادات« تختلف درجة مصداقيتها وغالبا ما يصعب التحقق من صحتها، في البحث عن الخبر خلال 30 سنة الأخيرة، وفي الصحافة كذلك توجد أيضا مقالات الرأي أو تحاليل مغاربة يعيشون داخل البلاد أو خارجها، والتي تثير نقاشا. والقوى الحية و قوى التقدم التي يمكن أن يعول عليها المغرب خلال السنوات القادمة في أفق 5 أو 10 أو 20 سنة، قد تأتي ربما من التيار المتنور حول الإسلام أو الأمازيغية، و يمكن أن نتصور أيضا وبشكل كلاسيكي أن يحدث تجديد للنخب داخل الأحزاب لاسيما في حزب الاستقلال أو شبيبة الاتحاد الاشتراكي لكننا نقتصر هنا فقط علي التخمينات. ضعف الحياة الثقافية عموما، ألاحظ ضعفا في الحياة الثقافية بالمغرب، ولو أن بعض الأفلام تبرز مثل فيلم »»علي زاوا,أمير الشارع» »لنبيل عيوش مع الممثل سعيد التغماوي الذي صدر بفرنسا سنة 2001، الذي يتطرق لمشكل الأطفال الذين يعيشون في شوارع المدن الكبرى أو فيلم »ماروك« (2006) لمخرجته ليلى المراكشي الذي تتطرق فيه إلى عدم اهتمام الشباب المغربي المترف وتجاوزاته (سباق السيارات، الصداقات، الموسيقى، الخمر..)، هم قليلون لأن استثمار الدولة في هذا المجال غير مهم. والجهود من أجل الانتاج السمعي البصري وسطو الإنتاج الفني عموما تبقى محتشمة، والفضاءات الثقافية قليلة جدا: ضعف شبكة قاعات السينما دون الحديث عن عدد المسارح والأروقة، وغياب مكتبة وطنية آنذك أو متحف وطني للفنون الجميلة مما جعل الجمهور ينتظر ما يأتي بين الفينة والأخرى من الخارج. لكن هذه اللامبالاة بالثقافة ليس للأسف حكرا على المغرب. في سنة 2000 كانت الجامعة المغربية تعيش بدورها وضعية صعبة، بوسائل هزيلة. ونسبة غياب المدرسين مرتفعة لأن أجور الجامعيين هزيلة، والكثير منهم مضطرون لممارسة نشاطات أخرى خارجية، وهو ما يؤثر بطبيعة الحال على انتاج الباحثين. ولكن هناك أيضا المشكل، مشكل عام في بلدان الجنوب أكثر منه مشكل مغربي خاص، وهناك ديناميكية ملموسة في مجال الفن التشكيلي مع الفنان قاسمي، بلامين ونبيلي مثلا وفي مجال الأدب مع عبد الحق سرحان وفؤاد العروي وماحي بنبين الذين يمارسون كتابة هي مرآت لروح السخرية، والمرارة والوضوح الصارم لبلد يبحث عن ذاته، وما لاحظت سنة 2001 لم يتغير كثيرا بمناسبة زياراتي الأخيرة سنة 2011، لكن هذه المرة مع حركة 20 فبراير، التي ولدت في الربيع العربي، دخل جيل شباب جديد الى الساحة, زعزع التقاليد وأجبر الملكية على إعطاء مكان أكبر للبرلمان. مغرب المستقبل عندما كنت استعد لمغادرة المغرب في نهاية سنة 2001 كنت أعتقد ان مفتاحي الاساسي يوجد في المغرب العربي. و من اجل التأثير على اوربا، لأن البلد يجب بطبيعة الحال ان يلتحم مع جنوب اوربا، لابد للبلد ان يستند الى مجموعة اقليمية قوية. وفي هذا الاتجاه، فان فتح الحدود مع الجزائر مسألة أساسية. هذه الحدود ظلت مغلقة منذ 1994 وسيكون من السهل بناء طريق سيار بين الدارالبيضاء الى الرباطوطنجة، اكثر من بناء قنطرة او نفق في مضيق جبل طارق، ولتفادي أن يجد البلد نفسه في زمن العولمة. في وضعية تهميش اقتصادي شبيهة بوضعيته في القرن 18 او القرن 19. فرهان بناء المغرب العربي يكتسي اهمية كبرى: حتى لا يسقط مباشرة تحت سيطرة اوربا وحماية سيادته الوطنية وعدم الانتماء فقط الى مجرد منطقة اقليمية اضافية. لكن هذا الاحساس لا تتقاسمه حتى الان اغلبية النخب السياسية ولا حتى شرائح واسعة من المجتمع. ايضا سيطرح مشكل الجهات داخل المغرب العربي. وظهور المجموعات الاقليمية يرسم اليوم ملامح مختلفة عن ملامح الدول الوطنية. و اقول القوميات التقليدية ومابعد الاستعمارية يؤدي الى ظهور مجموعات جهوية فرعية قوية. والقضية الامازيغية وكذلك القضية الصحراوية او القضية الريفية يمكن فهما بشكل افضل في سياق جهوي تحيل على اتجاهات كبرى وعلى التاريخ على المدى الطويل. واخيرا لابد ان تتطور العلاقة مع اوربا وخاصة مع فرنسا وان تتوقف عن ان تكون غير متكافئة و كأن ذلك قدر, اليوم يوجد مغرب شاب، لكنه متحكم في ديمغرافيته ويتوفر اكثر فاكثر على اناس مؤهلين. ولا يمكنه ان يتحمل البقاء خاضعا لاوربا تنغلق. هذا امر خطير بالنسبة للمغرب، ولكن ايضا بالنسبة لاوربا. واخيرا من وجهة نظر ثقافية بالمعنى الواسع تحدث تطورات مهمة. فيما يتعلق باللغة على الخصوص، تحرر تدريجي للغة عربية مغاربية وازدهار اللغة الامازيغية كلها عناصر حاسمة. لا يتعلق هنا الامر بتراجع الاسلام والاسلحة ولكن بطريقة جديدة لعيشها التي لن تبقى مرتبطة بشكل حصري بالعربية. مابعد 11 شتنبر كنت رفقة عائلتي بالرباط عندما وقعت هجمات 11شتنبر 2001 كنا خائفين من الصدمة المحتملة من انفجار بين الغرب والدول الاسلامية. انطلقت النقاشات, لكن بسرعة فهمت انه سيكون من الخطأ النظر الى الوضعية الناجمة عن هجمات 11 شتنبر من خلال منظور حرب الخليج الاولى سنة 1991 .اشياء كثيرة تغيرت في المغرب العربي خلال 10سنوات وتجربة المأساة الجزائرية مع ما صاحبها من دمار وعنف ووحشية ادى الى علاقة اخرى للمغرب مع الاسلام السياسي الذي يحاول هو بدوره اعادة تحديد استراتيجية تجاه السلطات القائمة. وظهور حركات سياسية او ثقافية جديدة. مثل الحركة الامازيغية. ومحاولات ظهور مواطنة جديدة من خلال المعارك التي تقودها جمعيات الدفاع عن حقوق الانسان والحركات النسائية او معارك الصحفيين من اجل صحافة مستقلة. وبالاخص الرغبة القوية في الهجرة والمنفى لدى الشباب. كل هذا غير في العمق التصرفات الايديولوجية رغم ان الاحساس بالانتماء للعالم العربي الاسلامي يبقى قويا. والعلاقة مع الغرب الذي تعيش به جالية مسلمة مهمة لا يمكن ان تبقى نفس العلاقة وهنا ايضا سيكون هناك مابعد 11 شتنبر لمعرفة اقل من جانب الغرب ورغبة الجنوب. في عدالة اجتماعية اكبر وفي ديمقراطية اوسع، وشروط من اجل وقف الانحرافات المتطرفة من اي نوع. ويبقى بالنسبة لي مطروحا السؤال الكبير المتعلق بالهجرة المغربية نحو اوربا وخاصة نحو فرنسا وبلجيكا وهولاندا واسبانيا وايطاليا. ويقدر عدد المغاربة الذين غادروا المغرب مابين 1995 و 2010 بحوالي مليون مغربي. وهي مرحلة لم يعرف فيها المغرب حربا اهلية مثل الجزائر، واستفاد من انتقال سياسي دون مشاكل، وهذه الهجرة لا تهم فقط الشرائح الفقيرة في المجتمع الباحثة عن العمل في الشمال. بل ان اناسا مؤهلين غادروا المغرب هؤلاء الطلبة والاساتذة وهؤلاء الموظفون والتقنيون المعلوماتيون يتركون ور اءهم ذكريات طفولتهم واباءهم القلقين واصدقاء الحي والدراسة الذين يريدون محاكاتهم. مع ذلك فالرحيل ليس قرارا سهلا لان المنفى يبقى محنة وهم يعرفون ذلك على الاقل عبر صور القنوات الفضائية او منتديات الحوارات الاجتماعية والتعطش للانفتاح على الخارج، يرحلون رغم كل شيء بسبب الهرب من الفقر الاجتماعي ومن الملل من اليومي البئيس، في كل المغرب العربي تنعدم الفضاءات الاجتماعية مثل دور الشباب أو قاعات العرض، وتبقى المساجد أماكن يمكن الاجتماع فيها ومناقشة وتقييم آفاق المستقبل... والمغرب العربي يواجه أهم جيل من الشباب في تاريخه. في الجزائر وفي المغرب وتونس، حوالي 60% من السكان تقل أعمارهم عن 30 سنة. لكن عجز هذه الدول عن الاستجابة لانتظارات هؤلاء الشباب قد يؤدي الى فقدان الأمل والفرار والمنفى. والهجرة في مخيلة جزء مهم من الشباب المغربي أصبح يعني الخلاص والبحث عن إلدورادو يغري. وقضية الهجرة التي تهم بشكل كبير الشباب المتمدرس والمكون تفتح علامة استفهام حول الرابط الوطني الذي أصبح يعيش أزمة, الذين كانوا يرحلون في السابق كان لهم أمل العودة من أجل مساعدة بلدهم وعائلاتهم التي ظلت في البلد. وفي انتظار هذه العودة التي أصبحت صعبة أكثر فأكثر مع توالي السنين، كان المهاجرون يرسلون أموالا مهمة كانت تستغل في تطوير اقتصادات الدول الأصلية، لم يكن الرابط الوطني منفصما، بل كان يتعزز في المهجر. لكن الوضعية تغيرت. من يهاجرون يحرقون وثائق هويتهم. وهذا الفعل هو أكثر من عمل للإفلات من المراقبة على الحدود الأوربية، بل هو رمزيا إحراق للحياة وعدم ترك أي شيء وراءه وحرق المفهوم القديم للعودة. والرحيل يتم دون أمل في العودة. عند مغادرتي المغرب في نهاية 2001 كنت أقول أن هناك استعجالا: لابد من إعطاء أسباب للأمل في هذا الشباب المستعجل، وإلا فإن الخطر كبير خلال السنوات القادمة من استمرار الهجرة، وبالنسبة للذين لا يرحلون هناك إغراء التقوقع والأصولية الدينية. ومسألة هجرة الجنوب نحو الشمال يجب أن تجبر دول المغرب العربي على التساؤل حول الأسباب العميقة للفرار بأي ثمن.