اللامفكر فيه في الإصلاحات بالمغرب في المغرب لم تولد الحركة الاجتماعية سنة 2011، منذ سنوات تتجلى هذه الحركة في أشكال مختلفة (اعتصامات حملة الشواهد المعطلين، إضرابات ومظاهرات الحركة النقابية، احتجاجات ضد غلاء المعيشة، حركة النساء من أجل الوصول الى الأرض والى حقوق محددة، احتجاجات ضد الشركات المفوض لها تدبير خدمات عمومية.. لكنها حركة لم تتوجه ضد الملكية. لا بالأمس ولا اليوم. وهذا لا يجب مع ذلك ان يزكي أطروحة الاستثناء المغربي. »فالربيع العربي« وصل بالفعل الى المغرب، وأثر الأحداث التونسية والمصرية حقيقي، ويؤثر على تعميم المطالب وتقوية شرعيتها، ومكن بالخصوص من نشر انتقادات ظلت حتى الآن محتمشة أو محصورة في وسط نخبوي ضيق. وحركة 20 فبراير حملت شعار انتقاد الفساد الممنهج والشامل. وسعت المطالب من أجل عدالة اجتماعية اكبر، والولوج الفعلي للتعليم والصحة والى العدالة. وحملت الاحباطات بخصوص الامكانيات الحقيقية للاندماج. والوصول الى الشغل والى الثروة. وسمحت باحتجاجات لم يكن ممكنا تصورها من قبل. مثل احتجاجات صحفيي وكالة المغرب العربي للانباء الرسمية، رافضين وظيفتهم الدعائية، وصحفيي الشركة الوطنية للاذاعة والتلفزة الذين طالبوا برحيل مديرها العام القوي ومبادرات صعبة التحقق مثل أحداث دائرة الصحفيين المستقلين. حركة 20 فبراير سمحت بالتعبير عن احساس شامل بالإهانة، ومعيش يومي مبني على الامتيازات، وتسهيلات لبعض المحظوظين والمضايقات وانحسار المصعد الاجتماعي وصعوبة فرض احترام حقوق الاغلبية الساحقة من المواطنين. ما يتغير ويختلف عن اوضاع استبدادية اخرى في العالم العربي هو أننا لسنا امام نظام مهترئ وعقيم. فمنذ أزيد من 10سنوات والإصلاحات متواصلة بالمغرب، ومع التناوب التوافقي لسنة 1997 اتسعت الاصلاحات- التي ظلت حتى الآن تعني المجال الاقتصادي فقط- الى المجال السياسي،وبشكل خاص الى أنماط الحكامة، فالامر لم يكن يتعلق بمسلسل الدمقرطة. بل بمسلسل "تعددية" لعلاقات السلطة والتي فتحت مجالات للحرية وفضاءات للنقاش مع توسيع إمكانيات تدبير النزاعات. هذه الدينامية عرفت ميزة مزدوجة. تسير في خط مباشر مع مفاهيم الحكامة الشاملة. من جهة، هذه الدينامية كانت ثمرة تقنوقراطية تركز على الخبرة المحايدة واللاسياسية. ومن جهة أخرى، تحققت هذه الدينامية من خلال تطور الوسط الجمعوي الذي تم فهمه وتفسيره كوسيط في ممارسة السلطة. رغم أن السير الداخلي للجمعيات يطرح مشكلا، ورغم أنه أمكن التحكم بشكل واسع في هذه الجمعيات بل وتسخيرها. ورغم أن لغة المشاركة هي أيضا تقنية للسيطرة، فإن هذا الاتجاه شهد دينامية خاصة. هذا الاتجاه سمح بتدبير الغضب وحل جزئي لمشاكل مادية مهمة بدرجة أو بأخرى (الوصول الى الماء والكهرباء، محو الامية، التكوين، تدبير البطالة) لكنه سمح أيضا بمناقشة القضايا السياسية الكبرى، وهكذا تمكنت الجمعيات والتقنوقراط من الاهتمام بمواضيع حساسة مثل الرشوة، والممتلكات العامة والحكامة المحلية والقضية الامازيغية، وتدبير الماضي. مما سمح بفتح نقاشات عمومية ونوع من حل التوترات بل وظهور مؤسسات أو ممارسات سياسية جديدة. وإزاء هذه التطورات الحديثة، تقترح حركة 20 فبراير مع ذلك حدود هذه الدينامية للاصلاحات. وإذا كانت هذه الاخيرة قد نجحت في نزع فتيل إمكانيات انفجار المطالب، فإنها لم تجب حقيقة على المشاكل المطروحة. في هذا الاتجاه فإن الربيع العربي بالمغرب، يدعو للتساؤل حول مدلول الاصلاح، حول ماذا يعني الاصلاح. وحول هذا الموضوع، فان فرضيات التفكير عديدة ولكن اثنتين منها تبدو لي أساسية اليوم. الأولى موضوعها هو العلاقة بين الإصلاح وأطراف الإصلاح (الجمعيات والتقنوقراط) أو ما يتوافق على تسميته اللاسياسي، أي النظرة السلبية جذريا للسياسي من طرف السياسيين أنفسهم، نظرة تزعم القضاء على كل ماهو معترف به كسياسي، وبالتالي فهي تريد أن تعطى كل الحرية للفاعلين الذين يعتبرون أنفسهم بعيدين عن السياسة باكتساح هذا الحقل. في المغرب يتخذ اللاسياسي شكلا خاصا : الاصلاحات ليست نابعة من الأحزاب السياسية بل نابعة أكثر من الملك ومستشاريه، وبالتالي فهم فاعلون لا سياسيون، تقنوقراطيون تساعدهم الجمعيات التي تنقذ هذه الاصلاحات في محاولات متزامنة لتجاوز الإدارة العمومية والأحزاب. هذه الاصلاحات وطريقة التفكير فيها وتنفيذها غيرت تمثلات الدولة والمجال السياسي، وبالتالي غيرت مسلسلات الشرعية، وعمليا وقع نزع الطابع السياسي عن القضايا السياسية المهمة وهو ما يعتبر تحويلا للسياسي إلى أماكن هي "لاأماكن" هي فضاءات دون سجالات، دون نزاعات، هذا التوافق على رفض السياسي يكشف عن نوع من ممارسة الهيمنة، فهو يخفي ويكشف الرغبة الكبرى للحاكمين، رغبة الحكم بدون الشعب، الحكم بدون سياسة: وهو ما يترجمه بشكل جيد مفهوم الحكامة، وظهرت أماكن جديدة مثل صفقات الخبرة والوكالات أو اللجان التي تشكل حلبات جديدة للسلطة، لكن هذه الأماكن الجديدة لا يدخلها بالضرورة فاعلون جدد. على العكس، ففي الغالب، فإن المتحكمين بشكل أفضل بفضل ثرواتهم المادية والبشرية المالية والاجتماعية، هم الذين يلتقطون بسرعة وبالطريقة الأنجح، الامكانيات التي توفرها لهم هذه التشكيلات الجديدة وفرض إعادة الانتشار. وباسم الحداثة والتجديد القادم، لا تتردد هذه النخب القديمة في رفض التوافقات السابقة، وبالملموس، في تقديم نفسها كتقنوقراطيين أو فاعلين جمعويين، إنها تشكيل تافه لا سياسي يريد أن يتحقق نقد السياسات السابقة وبناء الازمة وأمل بناء نظام جديد في الغالب الأعم لصالح من يطلقون هذا الخطاب، ليس بالضرورة لفائدة نخبة سياسية وإدارية جديدة. وبعد تناوب توافقي اعتبر سياسيا مخيبا للآمال، فإن الخطاب السياسي الجديد الذي برز في نهاية حكم الحسن الثاني والذي ازدهر في عهد محمد السادس يفضل فاعلين:: التقنوقراط والجمعيات. هذه الاخيرة البعيدة عن المصالح الذاتية والتي يحركها منطق الخدمة العامة والبحث عن الصالح العام، ستكون المؤهلة لتدبير المشاكل الاجتماعية من أجل إشراك السكان وإسماع صوتهم في اطار احترام النظام الاقتصادي والسياسي السائد، وفي إطار الانضباط لأنه مفروض فيها أن تكون محايدة ولا سياسية، وستكون الوحيدة القادرة على رفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية للبلد. وفوق المصالح والصراعات الحزبية ستكون قادرة على تطوير نظرة تدبيرية واقتصادية ملائمة، لتحديات التنافسية الدولية. وحركة تتفيه الإدارة والحكومة اللتين تعتبران معا حزبية ،مسيسة وعديمة الكفاءة يقابلها كما في العديد من الدول تضخيم لقيمة البنيات التقنوقراطية والوسائط الجمعوية المفروض أن تكون موضوعية وذات كفاءة، هذا المسلسل الشامل الذي يغذيه بشكل واسع الخطاب الليبرالي الجديد،يأخذ في المغرب مع ذلك، مدلولا خاصا مرتبطا بكون البنيات مسنودة دائما إلى القصر، بينما الوسط الجمعوي رغم أنه تاريخيا مستقل بل ومعارض للسلطة المركزية، ليس متمردا في تموقعه الحالي. واليوم نجد تقنوقراطيين في مناصب عامل كانت متروكة في السابق للجيش ثم للشرطة، أو زير (كانت في السابق متروكة للسياسيين والحلفاء) أو على رأس شركات عمومية ووكالات تنظيم... ونرى هنا اشتغال إعادة إحياء خبرة موجودة منذ القرن 19 وعززها الاستعمار: ازدواجية المؤسسات عبر روابط شخصية وتطوير نظام للانتقاء يستهدف مجموعات صغيرة أو أشخاصا ليست لهم امتدادات قبلية وغير قادرين على تعبئة الدعم خارج البلاط، فتقنوقراطيو اليوم يبدون كخدام الأمس، هؤلاء الخدام الذين يكون أقصى طموحهم هو الخدمة والذين تنبني سلطاتهم وتستمر في ظل الخليفة، وهكذا اجتاحت الجمعيات المجال السياسي حول مواضيع تعتبر حساسة وغير توافقية لكي تترك "للسياسيين" وما كانت لهيئة الانصاف والمصالحة والهيئة المركزية للوقاية من الرشوة والمعهد الملكي للثقافة الامازيغية والمجلس الاستشاري لحقوق الانسان الذي تحول إلى مجلس وطني لحقوق الانسان، ماكان لهذه الهيئات أن ترى النور لولا هذه الديناميكية الجمعوية، كما أن الأفكار حول تقرير الخمسينية ما كان لها أن تكون بهذا الغنى دون إسهام المجتمع المسمى مدنيا، كما لو أن الفاعلين السياسيين غير قادرين على تدبير الصراع ونقاش الأفكار بشكل مفتوح. ومن خلال اللعب على نبرة اللاتسييس، يبدو التقنوقراط والفاعلون الجمعويون أنهم يعيدون صياغة الثنائية التي يغذيها المخزن منذ الاستقلال، ويعبرون عن الرغبة في التمييز تجاه الادارة والحكومة وبذلك فهم يغذون تفيه السياسي الذي يتجسد في الأحزاب والبرلمان والانتخابات تبدو في النهاية سياسية بامتياز. وفي تشكيل كلاسيكي خاص بالمغرب، فإنها تساهم بوضوح في تقوية القصر في الحياة السياسية، ولكن كذلك وهو أمر جديد، في الحياة الاقتصادية والمالية. هذا التوسيع لدوائر المشاركة السياسية كان متحكما فيه بشكل كبير من طرف المخزن في إطار إعادة تأويل للشورى (استشارة) التي ليست اعترافا بسلطة، بل بكفاءة هدفها تنوير، الماسك بالسلطة. ولو جزئيا، دون أن تعيد النظر في هيمنته. وبغض النظر عن المواقف الشخصية لهؤلاء أو أولئك، فإن السياسي مازال، كما في الماضي، يواصل »تحييده»، فالسلطة المركزية تستحوذ على الاختصاصات والمخزن يشكل خزانا لتوظيف النخب، مجففا بذلك الأحزاب السياسية والبيروقراطية الإدارية من وظائفها الطبيعية، وتبقى كفاءات في خدمة السلطة المركزية وتحسين آليات الانتقاء ومقتضيات التحكم السياسي والاقتصادي، وتكنولوجيات الهيمنة والاحتواء، وبالتالي تجد شرعية السطة المركزية نفسها معززة أكثر من أي وقت مضى، فالكفاءات التقنوقراطية والجمعوية تساهم في التحديث - ولو ظاهريا - لممارسة السلطة، وبالمقابل لا تتعزز شرعية وقدرة التقنوقراطيين والفاعلين في المجتمع المسمى مدنيا، إلا بسبب إسنادها إلى القصر.هكذا نجد ما تظهره أعمال الخبرة. إعادة نظر في التمييز بين الخبرة التقنية والسياسية ، بل واستحالة تحديد المجالين. فنحن لسنا فقط في تموقعات متعددة، فالتقنوقراط هم أيضا سياسيون، والخبرة تبدو كتصور مبني للسياسي، معرفة للحكامة، هندسة سياسية و آلية في أيدي سلطة، دولتة الاقتصادي والاجتماعي، عودة إلى معايير الشرطة في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية. فهي تعبير عن سياسة أخرى تمر عبر نقد السياسي،عبر إدخال الشك والتردد، عبر تحويل الفرق بين الخبراء وغير الخبراء، عبر تطبيع وتقليص مجال ما يمكن مناقشته، عبر تقليص الخيارات وعبر إعادة تشكيل سياسية حول معارف ومعلومات متنافسة وعبر تعبئة مفاهيم حساسة مثل مفهوم المخاطر. لكنها (أي الخبرة) لا تنتهي بأي حال من الأحوال إلى »لا " لاتسييس" « خلافا لما يزعم دعاة التجديد السياسي عبر التقنوقراطية والمجتمع المدني. في مثل هذه الشروط ، فإن مناهضة السياسي كما يعبر عنها من خلال الإصلاحات في المغرب تجد نفسها في مأزق في زمن الحراك الاجتماعي. فالأجوبة المقدمة للرد على المطالب الاجتماعية تبقى ذات طبيعة تقنية مع اتجاه إلى »دسترة« جميع المشاكل. خاصة وأن الأحزاب السياسية تفضل التعامل مع الديناميكية الآتية من القصر، بدل إرساء ميزان قوه معه. وهكذا تغيب الإشارات الرمزية. وبالأخص تغيب التأويلات المختلفة للحياة في المجتمع وتدبير النزاعات والنقاشات والتوترات والتعارضات التي يمكن أن تفتح الطريق أمام تحول حقيقي لعلاقات السلطة وأنماط الحكم. وهكذا فمناهضة السياسي لا تبدو فقط مجرد رفض للسياسة، لاسيما رفض الأحزاب السياسية، بل تعبر أيضا وبالأخص عن رفض للفكر النقدي. ولذلك، فإن إحدى خاصياتها في المغرب كما في غيره، هي أيضا الحس المشترك وبساطة التفسيرات وانتقاد ضغط المصالح الشخصية »للكبار« والأقوياء والمستفيدين من الريع« دون الدخول في تحليل تعدد المسارات الجارية، وتنوع العلاقات السببية وتعدد النوايا والاستقلالية الممكنة للفاعلين.. ورمز هذا المأزق هو الجاذبية التي يمارسها مفهوم المخزن على النخب التي تلتحق دون تمييز، بإحساس دفين في أعماق الذاكرة الجماعية لمجموع السكان، والذي تميل الأجيال الحالية إلى تنسيبه، وهذه هي النقطة الثانية التي أريد مناقشتها هنا. من المثير بالنسبة للمراقب الخارجي أن يلاحظ أن مستشاري الملك، والقصر وبالتحديد المخزن، هم في مركز كل التفسيرات حول أي تصرف كان، حول أي حدث وقع أو سيقع، حول أي رأي معبر عنه.الوهن الذي تعيشه الحياة السياسية؟ سببه حزب الأصالة والمعاصرة والهمة المستشار السياسي لمحمد السادس، اختلالات التلفزة؟ سببها فيصل العرايشي وسميرة سيطايل المستشارون الإعلاميون للقصر، اختلال التوافقات بين رجال الأعمال؟ غياب الشفافية؟ دائما وأبدا السبب هو الماجدي (المستشار الاقتصادي والمالي) دون أن تتم الإشارة الى تصرفات المستفيدين من الريع والممارسات الحمائية أو على العكس آثار الانفتاح على العالم وعنف التحرير أو ثقل العلاقات الاجتماعية والتوافقات التي تشكلت تاريخيا، في عهد الحسن الثاني، السبب كان هو أكديرة ثم البصري، ونسقط من جديد، رغم »الإصلاحات« والانفتاح التحديث، في نفس الترسيمات التفسيرية لمخزن مهمين: أرواح معذبة لسلطان أبعد من آلية الهيمنة وراء الستار السحري للمخزن، اليوم في حقيقة التصورات والتفسيرات، في تحديد مجال المفكر فيه سياسيا، لايزال الملك ومحيطه يواصلان إعطاء هوية الأحداث السياسية. ومن المؤشرات الدالة في هذا الاتجاه كون الأحزاب السياسية الكبرى لم تهتم ولم تقترب من حركة »20 فبراير« إلا بعد الخطاب الملكي ليوم 9 مارس الذي أعلن فيه المراجعة الدستورية كجواب على مطالب الحركة الاجتماعية، ومن ثم إضفاء الشرعية عليها جزئيا. وبنفس الطريقة، فإن جلسات الاستماع وتقديم عروض الأحزاب السياسية أمام لجنة مراجعة الدستور اتسمت بكثير من التردد تخللتها استباقات هؤلاء أو أولئك لما يتصوره المخزن كإصلاح حقيقي. وآخر مثال تجسد في النقاشات حول التعاليق التي أعقبت الاستجواب الذي أجرته »"المجلة"« مع محمد الطوزي أحد أعضاء اللجنة. فتصريحاته حول الحياة السياسية المغربية وحول القوى المتواجدة وحول امكانيات التحول في البلاد... تم تهميشها ولم يبق سوى السؤال: لماذا يؤكد عضو في اللجنة رغم أنه معروف بنزاهته واستقلاليته على أن الطبقة السياسية غير ناضجة لقيام ملكية برلمانية؟ مع الجواب البديهي: لأن المخزن أوحى له بأن يقول بأنه بصدد رسم حدود الاصلاح وبالأخص الرفض المسبق لإمكانية الملكية البرلمانية. وما يميز اللحظة الراهنة هو هذه الطريقة في التفكير التي تمنع نفسها من التفكير بنفسها، والتي تميز كذلك عالم الأعمال والحركة الاجتماعية والمثقفين وكذلك الشارع والسياسيين والصحفيين، وفي تصور تبسيطي للسلطة المطلقة، فإن اللامفكر فيه سياسيا يبقى محددا من طرف المخزن في الوقت الذي تتم انفتاحات، وأنه لأول مرة يصدر رد فعل من القصر يفتح النقاش، وتتم دعوة الفاعلين السياسيين إلى ابداء الرأي، هؤلاء ظلوا محصورين فقط في نظرة ضيقة وثابتة للسلطة، كما لو أنه ليس ممكنا التفكير بأن الملك يفقد احتكاره على تحديد السياسي ومحتواه المفاهيمي، كما لو أنه لا يمكن تصور وجود قوى أخرى قادرة على تزويد النظام السياسي برموز سلطة، بتمثلات وبصور. فالفاعلون السياسيون، سواء كانوا ينتمون للأحزاب أم لا- لان الصحافة هنا تلعب دورا جوهريا مثل الاشخاص الذين يعتبرون أنفسهم مثقفين ويبثون تعاليقهم على الشبكات الاجتماعية للانترنيت- يبدون كما لو أنهم لا يريدون الانفصال عن التمثلات وعن الخيال السياسي الذي يشكل قلب ممارسات السيطرة. فالتصور الحسني للسلطة -الذي تمثل مثالا جيدا "لابتكار التقليد" طور فكرة حول الشرعية في المغرب، تقارن بقدرة الدولة والمخزن على اشاعة معنى المفاهيم على مجموع المجتمع. ومن خلال احياء البيعة (حفل الولاء)، لقد قلصت من أهمية القانون الوضعي. وأسقطت الاجراءات التعاقدية لممارسة السلطة من أجل الحفاظ على تقليد الخضوع. هذه القدرة على الهيمنة كانت قوية وواسعة خاصة من خلال مسلسلات ادماج المعارضة. والقراءات الحالية التي تحيل كل شيء الى الانتظارات المفترضة للقصر، والى نوايا الملك والى قوى التحكم والتسيير لدى المخزن تعيد تجديد هذه التمثلات وهذا المخيال. عمليا فالفاعلون السياسيون، سواء كانوا ينتمون الى المحيط الملكي أو الى الاحزاب المختارة (في الحكومة كما في المعارضة) يبحثون قبل كل شئ عن النفوذ والمواقع التي تسمح لهم بالتحكم في الموارد.وبالتالي القرب من السلطة المركزية، ولهذا فهم يبدون اليوم في فراغهمكأنهم فوجئوا بمبادرة الملك الذي يريد مراجعة الدستور وفتح النقاش حول المسؤولية وأنماط الحكم وإعطاء الحساب، فهم يفضلون مجاراة القصر بدل الدخول في علاقة قوة معه، وهو ما يفسر ضعف مقترحاتهم. والمواطنون لا ينظرون اليهم كممثلين لهم، بل كوسطاء لدى المصدر الاعلى للسلطة، أي الملك، وهو ما يفسر أيضا رفضهم الذي تغذيه المعاداة الممأسسة للسياسة. ونفس الشيء بالنسبة للغالبية العظمى من المثقفين والصحفيين والمدونين والمتظاهرين الذين يقولون انهم يرفضون هذه العلاقة مع المخزن، ويريدون اعادة النظر فيها نهائيا لكنهم يحملونها جميع نقط ضعف المجتمع المغربي، فهم لا يؤبدون فقط نظرة تبسيطية ومقصودة لسلطة مطلقة لا وجود فيها لأي هامش مناورة، بل انهم بذلك يمنعون أنفسهم من تغيير علاقات السلطة. وبشكل متناقض فإنهم بالتالي يساهمون في تأبيد ما يرفضونه ويدينونه وهم بهذا أيضا وبطريقتهم محكومون بمنطق مناهضة السياسة السائد، وهو ما يطرح إشكالية بالنسبة لاعادة تحديد حدود وملامح العمل العمومي وبالأخص أنماط ممارسة السلطة،. وباستثناء الاقلية المنتمية الى جماعة العدل والاحسان والنهج الديمقراطي وجزء من شبيبة الاتحاد الاشتراكي، وجزء من قيادة الحزب الاشتراكي الموحد التي تبحث عن تأطير حركة 20 فبراير، فهم يرفضون الاحزاب كيفما كانت وينفون عنها مسبقا، أية قدرة على التغيير دون ان يفكروا في أخذ مكانها ولا حتى في الهيكلة وتنظيم هيئات تمثيلية وهيئات للتفاوض والوساطة. فهم يريدون قيادةعمل سياسي بالدرجة الاولى، وهل هناك شيء سياسي أكثر من المطالبة بالمساواة والعدالة واحترام مبادئ الاستحقاق؟ ولكنهم يعبرون عن هذه المطالب من خلال شعارات متكررة ونشاطات استعراضية دون ربطها بتفكير سياسي حول الخدمات العمومية وحول الاقتصاد السياسي للفوارق أو الضريبة.، وبشكل عام حول انماط الحكامة الاقتصادية والاجتماعية وأحد مواقفهم السياسية الواضحة هو شعار "المخزن ارحل"، وهو ما يعني هنا أيضا وضعه في قلب تصورهم السياسي. هذا الرفض للدخول الواضح الى المعترك السياسي. وتنشيط النقاش في العمق، واتخاذ موقف والانخراط في خيارات واضحة، يبقى أكبر هشاشة تعاني منها الحركة الاجتماعية. صحيح أن الاحباطات والغضب تجسدهما الحركة الواسعة وغير المنسجمة التي تشكلها 20 فبراير، لكن المطالب تبقى مشتتة، بدائية وشعبوية في الغالب، لا تسمح بالمشاركة كليا في إعادة تشكيل لعلاقات السلطة. وفي غياب التزام وتحول في الاحزاب السياسية، فإن مطالب الاصلاح تبقى غير واضحة، وتحليل النقائص والآليات التي تغذي الاحساس بالظلم والاهانة وآليات إنتاج الفوارق وتعطل المصعد الاجتماعي، تبقى بدائية حتى لا نقول منعدمة. (*) مديرة بحث بالمعهد الوطني للبحث العلمي (مركز الدراسات والابحاث الدولية /علوم سياسية) ترجمة: الاتحاد الاشتراكي