ترددت كثيرا قبل أن أقرر كتابة هذه السطور توضيحا لما قد يظهر غامضا للشيخ الفاضل المناضل راشد الغنوشي حفظه الله من كل التباسات الحق بالباطل والصواب بالخطأ، ترددت كثيرا لأنني أعرف الشيخ راشد عبر كتاباته وحواراته، ولا أنكر مدى تأثير أفكاره على تشكيلة أفكاري وتصوراتي المتواضعة، ولأنني حين قرأت له بعض حواراته الصحفية في زيارته الأخيرة إلى المغرب، حاولت أن أستدعي كلما أملك من الأدوات الأصولية وآلية التركيب بين الموازنات الشرعية وضرورة استمرار موقف الانحياز للعدل ضد الظلم وللديمقراطية ضد الاستبداد حيث ما كانا، وغايتي من كل ذلك هو أن أجد للشيخ الفاضل راشد عذرا فقهيا وشرعيا لبعض من مواقفه ذات الأهمية التي عبر عنها في هذه الحوارات. أعرف أن الشيخ راشد الغنوشي عدو شرس للاستبداد كيف ما كانت تربته الجغرافية، وأعرف أنه قضى أغلى وأزهر أيامه في الغربة كما سائر المناضلين التونسيين الشرفاء سواء في الغربة أو السجن، لا لشيء سوى لمناهضته للاستبداد في تونس إبقاء لصوت الحرية يعلو وتتعالى صيحاته، وأعرف أيضا أنه كان مناصرا للتحرر وللثورة ليس فقط في تونس بل حتى في مصر ولم تكن خطاباته تتسم بنوع من "اللباقة السياسوية المصطنعة" حين اشتعال ثورة مصر لقد كان واضحا في مواقفه المناهضة للظلم وللظالمين وللمستبدين وللجلادين، وكم كان يروقني ذلك الخطاب لأنه كان يتعالى على الجغرافيا ليلتحم مع التاريخ في الحرص على نقاء المبادئ والمواقف ضدا على تزييف الحقائق، كما أنني عرفته مجددا إسلاميا يؤكد على الدولة المدنية التي لا توظف الدين لغرض سلطوي مقيت، وعرفته ذلك الفقيه المتحرر من كل مخلفات فقه الغلبة السلطاني، لكني أكاد أصاب بدوران في رأسي كلما قرأت له عن موقفه مما يجري في المغرب، فهو يترك وراءه ذلك الخطاب الذي لا هوادة فيه ولا تسوية مع الاستبداد، وكأن الشيخ راشد أعفى نفسه من تعب التحري في معرفة الحقائق كما هي؟، ولا أحسبه يستعمل تلك اللباقة غير المرغوب فيها من لدن قائد لم يكن أبدا يحابي الظلم والاستبداد، في تصريحات جامعة مانعة عبر فيها بوضوح عن موقفه مما يجري في بلد المغرب، يقول الشيخ راشد في جوابه عن سؤال لجريدة المساء المغربية عدد 1505 ليوم الاثنين 25/07/2011 مارأيكم في الطريقة التي تعامل بها المغرب مع الثورات العربية: "لقد تأثرت المنطقة كلها بكل ما حدث من ثورات، فهناك بلدان قامت بها ثورات، وهناك بلدان بادر حكامها إلى مبادرات دستورية بعدما تحسسوا نبض شعوبهم ولبوا مطالبهم وطرحوا حلولا، كما حصل في المغرب، وهذا يبشر بالخير ونتمنى أن تصل هذه المبادرات إلى نهايتها خاصة أن المغرب يصنع ثورته بنفسه"، ولا أدري هل اطلع الشيخ راشد على فحوى المبادرة الدستورية الرسمية بالمغرب وعلى فحوى مطالب الشارع المغربي في تظاهراته التي انطلقت منذ 20 فبراير، ليخلص أنه تمت تلبية هذه المطالب رسميا من خلال المبادرة الدستورية الرسمية ؟ إليكم فضيلة الشيخ بعضا من البيان الذي يقطع مع الالتباس في الفهم: أولا: المطالب التي عبر عنها الشارع المغربي في تظاهراته التي استنشقت الهواء التحرري الآتي من تونس ومصر أكدت على أربعة عناصر أساسية وهي: 1. إقرار نظام ملكية برلمانية لا يكون فيها للملك دخل في ممارسة أية سلطة فعلية؛ 2. إقرار المحاسبة لكل من له سلطة فعلية؛ 3. تدشين إصلاحات سياسية فورية وحقيقية، تقضي بتصفية الأجواء السياسية بإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين والمظلومين عموما، وتحرير الإعلام، وإنهاء آليات التحكم السلطوي على مجال الاستثمار، وإقرار المنافسة الاقتصادية الحرة والشريفة، وإبعاد المفسدين عن مراكز القرار ومحاسبتهم، والاجتثاث الفوري لكل تلك الترسانة القانونية القمعية التي تقيد حرية التنظيم وتجرم حرية التعبير والصحافة وتنتهك مجال الحريات عموما...؛ 4. حل البرلمان والحكومة ثم الشروع في انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية سابقة لأوانها تجسد الإرادة الشعبية في تقرير الاختيارات السياسية والمجتمعية الكبرى للبلاد. ثانيا : كيف كان التجاوب الرسمي مع هذه المطالب؟ 1. دستوريا تم الإعلان رسميا عن تشكيل لجنة لمراجعة الدستور، إلا أن طبيعة اللجنة وتشكيلتها ناهيك عن طريقة التعيين اللاديمقراطية التي تم بها تشكيلها، كان ينبئ بأن الإصلاح الدستوري المنشود لن يتحقق، وحتى الاستشارات التي قامت بها اللجنة لم تكن هي الآلية الضامنة للإشراك الفعلي لقوى المجتمع في بلورة الخطوط العريضة للدستور المبتغى، فهذه الاستشارات في آخر المطاف تظل بلغة الفقهاء شورى معلمة وليست ملزمة، والقرار الأخير بموجب الدستور هو للملك باعتبار صلاحياته الواسعة في مراجعة الدستور، وإذن تحصيل حاصل ذلك كان هو مبادرة دستورية كرست نظام الملكية التنفيذية وليس البرلمانية لأن الملك بموجب هذه المراجعة الدستورية الراهنة لازال يمسك بسلطات واسعة سواء: في الجانب التشريعي والرقابي حيث من حقه طلب قراءة جديدة لكل مشروع أو مقترح قانون مع التأكيد على ضرورة عدم رفضها من طرف البرلمان؛ (الفصل 95)، ويمارس حق العفو (الفصل 58)، إلى جانب البرلمان الذي له صلاحية إصدار قانون للعفو العام لكن بعدما يكون قد تم تداوله كمشروع قانون في المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك (الفصلين 71 و 49)، ومن حقه اتخاذ المبادرة في المراجعة الدستورية، وأن يعرض مشروع الدستور على الاستفتاء الشعبي (الفصل 172)، ويترأس مجلس الوزراء الذي من ضمن القضايا والنصوص التي يتداول من أجلها، مشاريع القوانين المحددة في الفصل 71 قبل أن تحال على البرلمان للمصادقة عليها (الفصل 49)، ويخول مشروع الدستور الجديد للملك حق ممارسة اختصاص الرقابة، وذلك من خلال الإقرار بأن تشكل لجان نيابية لتقصي الحقائق بمبادرة منه (الفصل 67)، أو من خلال المجلس الأعلى للحسابات الذي يسلم تقريره السنوي للملك (الفصل 148)، كما أن مشروع الدستور الجديد يخول للملك صلاحية حل مجلسي البرلمان أو أحدهما بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية( الفصل 96) الذي يعينه الملك (الفصل 130). أو في جانب السلطة التنفيذية حيث يعين الملك بموجب هذه المبادرة الدستورية الرسمية أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، كما له الحق في إعفاء عضو أو أكثر من أعضائها من مهامهم بعد استشارة رئيسها (الفصل 47)، ويرأس المجلس الوزاري الذي فيه يتم تداول قضايا من بينها: السياسة العامة للدولة، والتعيين باقتراح من رئيس الحكومة في الوظائف المدنية لوالي بنك المغرب والسفراء والولاة والعمال والمسؤولين عن الإدارات المكلفة بالأمن الداخلي والمسؤولين عن المؤسسات والمقاولات العمومية والاستراتيجية التي تحدد لائحتها بقانون تنظيمي (الفصل 49 للمزيد من التفصيل)، وتحال على المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك العديد من القضايا التي تدارسها مجلس الحكومة قصد البث فيها نهائيا وهي كما حددها الفصل 92: قضايا السياسة العامة، مشاريع القوانين، المعاهدات والاتفاقات الدولية، ثم في الأخير يشير هذا الفصل في آخره على أن رئيس الحكومة يطلع الملك على خلاصات مداولات مجلس الحكومة. أو في المجال القضائي حيث للملك حظ كبير في مشروع الدستور المراجع في تشكيل السلطة القضائية، ذلك أنه يعتبر رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية (الفصل 56)، ويوافق بظهير على تعيين القضاة من قبل هذا المجلس الأعلى (الفصل 57)، ويعين الملك خمس شخصيات أعضاء في المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالإضافة إلى عضوية رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان و الوسيط (الفصل 115 للمزيد من التفصيل حول تشكيلة المجلس الأعلى)، ويعين الملك نصف أعضاء المحكمة الدستورية ويعين رئيسها أيضا من بين أعضائها (الفصل 130). ولكم أن تستنتجوا فضيلة الشيخ هل تحقق مطلب الملكية البرلمانية دستوريا حيث الملك لا يمارس فيها أية سلطة فعلية تترتب عنها محاسبة،-الذي هو أحد مطالب الشارع المغربي منذ اندلاع تظاهراته السلمية تناغما مع ثورات تونس ومصر وبلدان أخرى- أم لا؟ 2. وسياسيا كانت خطوة الإفراج على بعض المعتقلين السياسيين وبعض معتقلي ما يسمى بالسلفية الجهادية وبعض المعتقلين المظلومين عموما، هي الخطوة البارزة، إلا أنها هي أيضا كانت ناقصة ومنقوصة من حيث طبيعة الخطوة ومن حيث نوعيتها، فمن حيث طبيعتها تم الإعلان من داخل المجلس الوطني لحقوق الإنسان أن المعتقلين المفرج عنهم قد صدر في حقهم عفو مما تبقى من عقوبة السجن، وهي إشارة سلبية على اعتبار أن هذا النوع من العفو لا يعد تصحيحا لخطأ المحاكمات الجائرة وأحكامها الظالمة، بقدر ما كان إقرارا بهذه الأحكام مع عفو ممنوح تماشيا مع "منطق المنة" التي يسير عليها السلوك الرسمي للدولة، إن إطلاق سراح هؤلاء المعتقلين يظل ناقصا دون إرفاقه بجبر الضرر واستعادة حقوقهم كاملة ووظائفهم وحياتهم العادية كما كانت من قبل، ودون هذه المرفقات سيظل الإفراج خطوة مغشوشة أريد منها فقط التسويق الإعلامي الخارجي، وتسكين مؤقت لحرارة دينامية الشارع المغربي الذي بات ملتحما مع قضية الحرية للمعتقلين المظلومين والسياسيين جملة وتفصيلا، ومن حيث نوعية خطوة الإفراج، فهي ظلت منقوصة الفرحة على اعتبار أن هناك العديد من المعتقلين المظلومين والسياسيين-وهم كثر- لازالوا قابعين في السجون ظلما وعدوانا، ومنهم معتقلو ما يسمى بخلية بليرج دون استثناء ومعتقلو ما يسمى بالسلفية الجهادية وآخرون، إن منطق الجرعات الذي تقوم به الدولة في التعامل مع هذه القضايا هو منطق بئيس ولا يعبر على إرادة حقيقية وصلبة في مباشرة أجندة الإصلاح المؤجلة، بل يعطي إشارة سلبية إلى الشعب وقواه الحية والشريفة إلى عدم الثقة بكل خطوة رسمية كيفما كان نوعها؛ 3. واجتماعيا كانت خطوة التسريع بإيجاد مناصب لحاملي الشهادات العليا وإقرار مرسوم يسهل ذلك ويمنح الفرصة لحامل شهادة عليا من ولوج أسلاك الوظيفة العمومية دون الاحتكام للمباراة هي الخطوة الأبرز اجتماعيا(بالرغم من عدم وفاء الدولة بتطبيق هذا المرسوم عمليا حيث لازالت فئة كبيرة من هؤلاء المعطلين محرومة من هذا التوظيف المباشر...)، وقد رفقت هذه الخطوة بعض الإجراءات التي نجمت عن نتائج الحوار الاجتماعي، وهي خطوات أيضا تجزيئية تعالج القضية الاجتماعية بمنطق إدارة الكوارث وليس بمنطق الحلول الشاملة والبنيوية، ومنها سن سياسات اجتماعية تقضي بشكل بنيوي على كل الفوارق الاجتماعية وتعيد الكرامة للإنسان؛ اعذرني يا شيخ على هذه التذكرة ببعض تفاصيل مجريات الوقائع الراهنة بالمغرب، فكما في التفاصيل قد يظهر الشيطان فكذلك في التفاصيل قد يتبين الحق ويستبين طريق خصوم الديمقراطية، إنني بكل تواضع واحترام أشيد بفكركم الإسلامي المتنور وبتجربة "نهضتكم" المباركة بإذن الله، وبمواقفكم المنافحة على الديمقراطية ومناهضة الاستبداد والظلم، لكن أستسمحكم في نقطة نظام بناء على ما صرحتم به في حواراتكم بالمغرب لكي أقول لكم أن المبادرات سواء الدستورية والسياسية والاجتماعية الرسمية لم نلمس فيها تلبية لمطالب الشارع المغربي المعبر عنها منذ تظاهرات 20 فبراير وما قبلها من طرف كل القوى الحية والشريفة، فلا ملكية برلمانية مع الدستور المراجع، ولا إطلاق سراح للمعتقلين السياسيين والمظلومين بشكل شامل دون تردد، ولا علاج جدري للفوارق الاجتماعية التي من نتائجها تفاقم ظاهرة البطالة وبطالة حاملي الشواهد العليا خاصة، ولعل حضوركم تزامن مع بعض المظاهر الاحتجاجية لفئات من هؤلاء المعطلين بلغت حد تصعيد خطير، ولا إبعاد للمفسدين من مراكز القرار والتسيير ومحاسبتهم، ولا إصلاحات سياسية تحرر مجال الإعلام وترسي دعائم ومنطلقات حياة سياسية سليمة بدءا من انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية، وربما قد شهدتم وتشهدون ما عرفه الاستفتاء الدستوري الأخير والإعدادات الراهنة للانتخابات، حيث وزارة الداخلية هي المنظمة للانتخابات، وهي الساهرة على التقطيع الانتخابي، وهي الموزعة للبطائق الانتخابية، وهي المسئولة على فرز النتائج والإعلان عنها، وهي الجهة التي تتكلف بالترخيص لتأسيس الأحزاب السياسية، فهل هذه هي المقدمات الأساسية للانتخابات الحرة والنزيهة والديمقراطية؟ أليس الأجدى أن تتكلف بالانتخابات هيئة عليا مستقلة كما هو الحال في بلدكم؟ وهل هذه الإصلاحات الدستورية قد "وضعت حقا المغرب على طريق التطور الجاد" كما جاء في تصريحكم لجريدة أخبار اليوم في عددها 504 الصادر يومي السبت والأحد 23-24 يوليوز 2011؟ مع العلم أن هذه الإصلاحات الدستورية الرسمية تمت عبر لجنة معينة، وليست منتخبة أو مشكلة من طرف مختلف الفعاليات والقوى السياسية والنقابية والحقوقية والمدنية المعتبرة، وبالنتيجة أفرزت لنا دستورا يكرس الملكية التنفيذية كما سبق تفصيل ذلك، هل هذه هي مؤشرات طريق التطور الجاد التي وضع عليها المغرب؟ وأخيرا، لا يسعني إلا أن أرحب بالشيخ راشد الغنوشي ببلد المغرب الذي هو بلده في إطار الوحدة المغاربية المنشودة، ولكم كنت أتمنى أن تكون لقاءاته أكثر مع شباب الحراك الشعبي المتمثل في حركة 20 فبراير والداعمين لها من الهيئات السياسية والنقابية والحقوقية الأبية، وأن لا تكون زيارته فقط للرسمين في بلدنا وللهيئات السياسية التي تنكرت للحراك الشعبي ولنضالاته وقطفت بعض الثمار الناقصة واختصرت طريق النضال فقط في الهرولة نحو انتخابات مبنية على دستور غير شعبي وغير ديمقراطي، غير أنني متأكد لو كانت الدعوة من شباب هذا الحراك الشعبي أو من الهيئات السياسية المدعمة له إلى الشيخ راشد الغنوشي لزيارة المغرب وإلقاء كلمة في مهرجان خطابي تنظمه هذه القوى المتبنية فعليا لمطالب هذا الحراك الشبابي المغربي منذ 20 فبراير، لكانت هذه الدعوة ستجد عراقيل وعراقيل رسمية ولقيل فيها ما قيل وربما قد يكون قدرها المنع الرسمي... مع كل التحيات للشيخ الفاضل المناضل راشد الغنوشي حفظه الله وبارك الله في عمره وفي عطائه للأمة... كتبها أحمد بوعشرين الأنصاري يوم الاثنين 23 شعبان 1432ه الموافق 25 يوليوز 2011 بمكناس هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.