04 يناير, 2018 - 08:14:00 ألقت قصص التعذيب والاختفاء القسري بضلالها على جلسات الاستماع العمومية المنظمة من طرف هيئة الانصاف والمصالحة خلال السنوات الماضية. وانطلق نفسٌ جديد "في المملكة منذ السّابع من يناير 2004 لتجاوز الماضي الأليم الذي تسبب فيه الملك الحسن الثاني خلال سنوات الرّصاص". اليوم وبعد مرور 17 سنة على مرور هذه التجربة التي وصفت بأنها "استثنائية" بالمنطقة المغاربية والأفريقية ومع ما يقع اليوم في المغرب، يظل التساؤل حول ما إن فشلت توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة؟ وامكانية عودة المغرب إلى "سنوات الرصاص"؟
اسْتطاع ألاف الضحايا المغاربة نقل رائحة الَموت والمعَاناةْ والاختفاء التي تكبدوها خلال سنوات حكم الحسن الثاني (1961-1999) في شهاداتهم العمومية. كان شعار ''العهد الجديد'' الذي أطلقها محمد السادس في بداية حكمه شعارا سياسيا يهدف لطي صفحة الحسن الثاني السوداء. لقد قرر المغرب نهاية 2003 أن يلمم جراح ألاف الضحايا بغية التصالح مع ''سنوات الجمر والرصاص' بعد تزايد الغضب حول فترة الحسن الثاني وملفات الإختفاء القسري، والتي مثل فيها التعذيب والسجون السرية لغة الحوار الوحيدة. بعد ذلك قرر المجلس الاستشاري لحقوق الانسان ( المجلس الوطني لحقوق الانسان حاليا) أن ينظم جلسات عمومية في إطار هيئة ''الإنصاف والمصالحة" يتسنى من خلالها للضحايا رواية جزء من معاناتهم خلال هذه الفترة'. وبالنسبة للمنظمين فإن تلك الجلسات كانت "تهدف لكشف الحقائق والمصالحة مع الماضي الأليم دون إصدار أحكام". الراحل ادريس بنزكري، الرئيس السابق ل"هيئة الإنصاف والمصالحة"، كان قد أدلى ل"هيومن رايتس ووتش"، عام 2004، قائلا بأن "الهيئة" لا تزال هيئة استشارية، وأن الدولة ليست ملزمة، في نصوصها المرجعية، بتطبيق توصياتها أو حتى النظر فيها بجدية، والمجال الوحيد الذي تكون فيه إجراءات القانون الدولي ملزمة للدولة هو (تعويض) الضحايا". يشير تقرير الهيئة إلى أضرار طالت الآلاف من الضحايا، نفس التقرير يؤكد أن ألاف الضحايا الذين تبث تعرضهم للتعذيب والاختفاء والسجن قد "تلقوا تعويضات" (هناك عشرات الضحايا رفضوا تعويضات رغم تعرضهم للاعتقال التعسفي السياسي). محمد النشناش، الرئيس السابق ل "المنظمة المغربية لحقوق الإنسان"،(وهي مؤسسة مستقلة)، أكد سنة 2007 أن "نحو 60 ألف ضحية، وهو عدد كبير يثير الاستغراب، تقدموا العمليتين اللتين باشرتهما لجنة داخلية لهيئة الإنصاف والمصالحة". ووفقا لتقرير صادر عن "الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان" FIDH نشر سنة 2015، فإن "القصد من هذه الهيئة هو إنشاء سجلا للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب، من الاستقلال إلى وفاة الحسن الثاني (1999)، واقتراح تعويضات للضحايا، وتقديم توصيات لضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات الجسيمة من خلال تنفيذ إصلاحات مؤسسية ".
جلسات الاستماع العامة: هل تمثل حقيقة جزئية؟ ادريس اليزمي، أحد أعمدة ''هيئة الانصاف والمصالحة"، والرئيس الحالي للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، وعضو هيئة إصلاح القضاء بالمغرب، حل يوم 19 نوفمبر 2017 ضيف شرف على نقاش فلسفي حول "الحكمة والحقيقة" نظم بمدينة ليل الفرنسية. كان اليزمي جالسا جنبا إلى جنب مع رئيسة المعهد الدولي للفلسفة "باربرا كاسين"، و"اليزابيث كلافيري" رئيسة المعهد الوطني للبحث العلمي الفرنسي، و"دانييل وزني". وقال اليزمي في ذات النقاش الذي نظمه ''سيتي فيلو'' أحد الفضاءات المشهورة بالنقاشات الفلسفية الدولية، إن "دور الهيئة هو إعادة تشكيل مجتمع سياسي والحصول على ضمانات بعدم تكرار هذه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان". وبالنسبة له :"هذا بالضبط هو معنى المصالحة. وإن جمع شهادات الضحايا كشفت لنا الذاكرة". وبحسب اليازمي، فإن "الهيئة أداة تغيير نحو مفهوم المواطنة". اليزمي أضاف أن أحد الشروط المفروضة هو "عدم كشف أسماء المسؤولين، بل يجب أن تنحصر الشهادات في التجاوزات المؤسساتية". مؤكدا أن "الشهود قبلوا جميعا هذا الشرط". من جنوب أفريقيا إلى المغرب: محاولات المصالحة الوطنية الفيلسوفة باربرا كاسين، رئيسة مجلس إدارة الكلية الدولية للفلسفة، وقد أثارها النقاش حول المقارنة بين تجربة "الحقيقة والمصالحة" في جنوب افريقيا وهيئة "الإنصاف والمصالحة" في المغرب، قالت، ردا على اليزمي ''إنه من المستحيل الكشف عن الحقيقة كاملة في حالة المغرب، لأن المسؤولين عن ذلك لم يتم تحديدهم". تأكيدا لذلك يمكن العودة إلى ما بعد ''الجلسات العمومية''، أي إلى سنة 2010، حين قدمت الرابطة الدولية لحقوق الانسان تقريرها النهائي وبه توصية تؤكد أن هناك خلل ما. التوصية تعرب عن القلق إزاء وضعية حقوق الإنسان وعلى ضرورة "تعزيز الديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان في المغرب". منظمة العفو الدولية، نشرت مؤخرا العديد من البيانات تطالب فيها بإطلاق سراح المعتقلين على خلفية "حراك الريف"، وأكدت أن "السلطات المغربية قامت بموجة واسعة من الاعتقالات، استهدف فيها العديد من الناشطين والصحفيين والمدونين، من بينهم الصحفي حميد المهداوي". باربرا كاسين ختمت ملتقى "الحكمة والحقيقة" وهي تقصد أن "الأسئلة والنقاش المطروح بشأن نجاح "هيئة الإنصاف والمصالحة" لا يزال قائما، ولا يزال " تقرير المصالحة والإفلات من العقاب" مسألة صعبة. المؤرخ معطي منجب المتابع حاليا بالمس بالسلامة الداخلية للدولة في قضايا متعلقة بأنشطته المدنية والأكاديمية، يفسر ل"لكم"، أنه كان هناك "جانبان إيجابيان من تجربة الإنصاف والمصالحة: مستوى أخلاقي لبعض ضحايا الحسن الثاني والاعتراف الجزئي من جانب الدولة بجرائم الماضي". مصالحة لم تترجم على أرض الواقع معطي منجب مؤلف كتاب "الملكية والصراع على السلطة" يؤكد أن "الفشل الذريع لهيئة الإنصاف والمصالحة يتمثل في عدم قدرتها على إنهاء حالة "ألا عدل" التي يواجهها معارضو النظام الحالي. إضافة إلى أنه عندما كان الضحايا السابقون يشهدون علنا أمام كاميرات التلفزيون الرسمية عن الفظائع التي ارتكبت في الماضي، تعرض المغاربة الآخرون للتعذيب في مراكز الشرطة في الدارالبيضاء وأماكن أخرى". وبالتالي فإن من بين أهداف النظام كان هو ''التوفيق بينه وبين اليسار اللائكي والتلاعب به واستعماله ضد الحركة الاسلامية، وذلك من خلال دمجه في النظام عن طريق حزب الأصالة والمعاصرة (PAM). (أسسه فؤاد علي الهمة المستشار الحالي للملك). وفقا للناشط المغربي عماد عبد اللطيف، "فقد مرّ المغرب بثلاث مراحل رئيسية، الأولى ترجمتها السنوات التي ينفي فيها الحسن الثاني وجود سجون سرية كما هو الحال في هذه المقابلات التلفزيونية. ثم مرحلة هيئة الانصاف والمصالحة التي قدمت حقيقة جزئية، حيث كانت محدودة بسبب الشروط المفروضة على الضحايا /أو أسرهم بعدم تحديد مسؤوليات الأشخاص المسؤولين عن هذه الممارسات. وأخيرا عودة "الكذب" وهي فترة متمثلة في عدم ترجمة الشعارات إلى ممارسات، اليوم نفس الممارسات من قمع وتعذيب واعتقال ومحاكمات سياسية ضد الناشطين والصحفيين". تدهور الحقوق والعودة إلى سنوات من الرصاص! أكدت الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان أن "حرية التعبير في المغرب لا تزال غير مضمونة". أما الكاتب عبد اللطيف العبي، أحد ضحايا سنوات الرصاص (سجن من 1972 إلى 1980، لجأ إلى فرنسا سنة 1985)، فقد عمم نداءً عنونه ب "شياطين الحكم تستيقظ من جديد في المغرب" وقع عليه أكثر من 300 شخصية عمومية من شعراء وأكاديميين وصحفيين وكتاب وحقوقيين. تقول إحدى فقرات هذا النداء: ''القمع الذي سُلِّطَ على مُحتجّي الريف ومناضلي جمعيات حقوق الإنسان والصحافيين الذين حاولوا إبلاغ الرأي العام بحقيقة الوقائع، لجأ إلى نفس الأساليب التي أبانت عن فداحتها في الماضي: الاستخدام التلقائي للعنف ضد المتظاهرين، الاعتقالات التعسفية، الاختطافات، استعمال التعذيب (الثابت والمؤكد في عدد من الحالات)، التهديد بالاغتصاب، الحكم بعقوبات شديدة سجنا وحتى بالنسبة إلى القاصرين، انتهاك حقوق الدفاع، سجن المتهمين والمحكومين في معتقلات بعيدة جدا عن مكان إقامتهم، إلخ. ولْنُشِر مع ذلك إلى لمسة الابتكار في هذا العصر الرقمي: إِذْ نُظَّمتْ الدعاية في وسائل الإعلام الرسمية وعدد متزايد من القنوات غير الرسمية، صحفا تقليدية كانت أو على شبكة الأنترنيت، قصد التقليل من شدة القمع وتبريره، شاهرة بمكر أطياف المواجهة العرقية والنزعة الانفصالية، محاولة تلطيخ سمعة بعض الشخصيات القيادية للحركة أو بعض الصحافيين". في ذات السياق أطلقت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان (هيئة مستقلة) دعوة إلى "التضامن الدولي" مع قضية الريف. ووقع النداء ثمانية عشر عضوا في البرلمان الأوروبي وثمانية عشر سياسيا وطنيا وشخصيات عديدة من بينهم نعوم تشومسكي والمخرج البريطاني كين لوتش والكاتب والناشط الهندي أرونداتي روي. الأكاديمي جمال الخطابي الذي تعرض والده للتعذيب في عهد الحسن الثاني، تساءل ل"لكم"، عن شروط نجاح "الإنصاف والمصالحة". بالنسبة له، فإن التباين بين تجربة جنوب أفريقيا والمغرب هو مثال حقيقي يوضح ذلك. "لقد مكنت نهاية النظام العنصري الجنوب افريقى من إحراز تقدم حقيقي في هذه القضايا؛ المغرب والحفاظ على ''نظام المخزن'' فإن الإجراءات التي نفذت في بداية عهد محمد السادس محكوم عليها بالفشل، وهو ما يتضح من البداية مع الإبقاء على ظاهرة الإفلات من العقاب وما يحدث اليوم في الريف". إلى أين يمضي المغرب؟ للإجابة عن هذا السؤال، وجهت عدة منظمات لحقوق الإنسان إنذارا من خلال بلاغات وتنظيم تظاهرات جماعية تدعو إلى إنصاف الريف، "لا يمر يوم دون أن تصلنا أخبار مقلقة حول الوضع الحالي لحقوق الإنسان في المغرب. المؤشرات خطيرة وحمراء وتسلط الضوء على انحدار خطير من حيث احترام الحقوق والحريات الأساسية " عبارة جاءت في بيان وقعته 42 منظمة دولية غير حكومية. ووفقا لشهادة إحدى عضوات هيئة دفاع المعتقلين في الندوة التي نظمت في البرلمان الأوروبي في سبتمبر 2017، فقد تم اعتقال 1005 شخصا أغلبهم من الناشطين الشباب. منهم 41 طفلا قاصرا. حكم على أحد القاصرين بالسجن لمدة 20 سنة، قبل أن تخفف مدة العقوبة إلى خمس سنوات عند الاستئناف. لم تطلق الدولة سوى سراح النصف، ومازال يحاكم أكثر من 400 ناشط والعشرات من الصحفيين في القضايا الجنائية. وبالإضافة إلى ذلك، طرد صحفيون أجانب ومنعت قوافل حقوقية دولية من ولوج الحسيمة شمال المغرب.