بعد الاستفتاء الشعبي على مشروع الدستور الجديد ,واقراره بنسبة مشاركة عالية ,واحرازه على موافقة شعبية واسعة ,يدخل المغرب الى مرحلة سياسية جديدة ونوعية ,هي مرحلة ترجمة مقتضياته على أرض الواقع, ورفع التحديات التي يضع الفاعلين السياسيين في مواجهتها . لقد فتح الدستور الجديد أفقا أمام مسار الانتقال اليمقراطي ,الذي ظل محجوزا منذ النهاية المؤسفة لتجربة التناوب سنة 2002. ولبلوغ هذا الافق ,أفق الملكية البرلمانية ,يصبح من الضروري ضبط وتدقيق أجندة الاستحقاقا ت, و طبيعة التحديات والمهام التي على كل طرف الاضطلاع بها, في انسجام مع بنود نص الدستور الجديد ,واستلهام مبدع لروحه . ولعل في مقدمة, وأولويات ما يفرضه الدستور الحالي بالحاحية , وكمدخل لتفعيل أحكامه ,ا قرار اصلاحات سياسية عميقة تسبق وتمهد لأول انتخابات تشريعية في ظله, وفي هذا الاطار فان التوافق على قانون انتخابي جديد يقطع مع كل ألاساليب السابقة في صنع خريطة برلمانية "مخدومة" لاتعكس حقيقة المشهد السياسي والحزبي ,ولاتحترم الارادة الشعبية ,بات مهمة وطنية عاجلة,وعليه فان مايتطلع اليه المواطنون والمواطنات ,بعد جمعة ألاستفتاء الدستوري ,هو ا جراءات صارمة وملموسة ضدكل أشكال الفساد الانتخابي التي شوهت المؤسسة البرلمانية وأفقدتها كل مصداقية . ان البرلمان وفق الدستور الجديد هو مصدر التشريع الرئيسي ,وهو من ينصب الحكومة ,ويراقبها ويسائلها ويحاسبها ويسقطها, ما يعني أننا أمام أصعب تحدي: فاما انتخابات نوعية جديدة حرة ونزيهة ,واما انتاج مشهد كاريكاتوري محبط : دستور بملامح الحداثة السياسية.. وبرلمان بأساليب ..ووجوه ..وكائنات تعود الى العهود السيئة للتزوير وشراء الضمائر وتذكر بها . ان الدولة لها في الاستحقاق الانتخابي المقبل دور حاسم على مستويين : ألاول ,يتعلق باعادة نظر جذرية في التقطيع الانتخابي ,ومراقبة سقف التمويل ,وفرض البطاقة الوطنية كورقة وحيدة للاقتراع ,ومراجعة نمط الاقتراع ونسبة العتبة ,بما يساهم في صعود أغلبية واضحة ,ويعيد هيكلة الحقل الحزبي على قاعدة التمثيلية الانتخابية الحقيقية لكل حزب أوتكتل انتخابي.أما المستوى الثاني ,فيرتبط باجراءات تعزيز الثقة للحفاظ على الحماس وروح التعبئة التي عبر عنها المغاربة في المدن والقرى ,في غمرة الاستفتاء الدستوري ,وفي هذا الصدد ,فانه بات من الضروري رفع مختلف أشكال التضييق على حرية الصحافة , و اطلاق سراح مدير جريدة المساء,وتسريع وتيرة تقديم ملفات الفساد الى القضاء,ومواصلة فتح الاعلام السمعي والبصري أمام جميع ألأ راء والفعاليات,في اطار حوار وطني حول المرحلة السياسية المقبلة ,وبشكل خاص ,حول الاصلاحات السيلسية المطلوبة ,هذا أضافة الى ضرورة مواجهة الدولة لكل أشكال البلطجة في التعبير عنالاختلاف , المسيئة لطبيعة السيرورة المتميزة التي تعيشها بلادنا . ولاشك في أن تسريع موعد الانتخابات التشريعية المقبلة,دون توفيركافة مقوماتها وشروطها االقانونية والسياسية والحزبية والجماهبرية,قد يجعل منها لحظة معاكسة للتيار العام الذي أطلقه الخطاب الملكي لتاسع مارس الماضي ,ولجمعة الاستفتاء الدستوري .انه من المفيد للمسار الذي تسير عليه بلادنا اليوم ,ايجاد صيغة "تشرعن" لفاصل زمني معقول بين الاستفتاء الدستوري, وبين ارساء أول مؤسسة تشريعية تنتخب وفق ما أقرته لها نتائج هذا الاستفتاء من موقع مركزي وصلاحيات جديدة يرتهن بها التقدم نحو أفق الملكية البرلمانية . وفي علاقة وطيدة مع ما سبق , يطرح الدستور الجديد على الاحزاب السياسية , التي بوأها مكانة مركزية ( من خلال اعتبارها مصدر السلطة التنفيذية, ودسترته للمنهجية الديمقراطية لتداولها) , مهمة تغيير "جلدها" بمعنى ,تجديد نفسها, وذلك عبر : من جهة,تجديد الخطاب السياسي ,فلن يعود للخطابات التبريرية والخشبية من مفعول للهروب من المسؤولية سواء من موقع التدبير أو من موقع المراقبة والمعارضة ,كما أن الخطاب الاتكالي والاتكائي على الملكية لن يكون له "محل من الاعراب",ان عبارات "حكومة صاحب الجلالة ..." و"طبقا لتعليمات جلالته " ,أضحت ملاذا محظورا وفق نص وروح الدستور الجديد و أفقه ,انه خطاب لادستوري ,مادام الدستور الجاري به العمل ,قد جعل من الاحزاب المسؤول الفعلي والاول على تدبير الشأن العام ....وقطع مع عهد "حكومة سيدنا "....أما من جهة ثانية ,فان تجديد الاحزاب لنخبها السياسية واطرها الحزبية ,يشكل أصعب تحدي للتأ قلم مع المرحلة المقبلة, والجديدة بأعبائها ورهاناتها ,ولكنها مهمة يمكن انجازها أذا ماتم الاحتكام الى معايير الكفاءة والنزاهة ,والتحلي بالقيم النضا لية , فمئات الاطر من مختلف الاعمار والمرجعيات والمؤهلات والخبرات النضالية ,وضعت نفسها خارج الاطر الحزبية, ا ما تعففا أو تأ ففا, بسبب ما آل اليه الحقل الحزبي من تدهور شامل . الاصلاح الحزبي ,بعد الصلاح الدستوري ,يقتضي الكثير من الارادية المتعا لية على الانانيات المريضة ,والمصالح الصغيرة والضيقة ,وذلك لأجل مباشرة عمليات الدمقرطة الداخلية ,والتجديد المطلوب "هنا والآن" ,للبنيات والهياكل والعقليات والمسلكيات ,بما يفتح الاحزاب على دينامية المجتمع ,ويؤهلها لاستقبال واستيعاب الاطر والكفاءات الجديدة التي سيزداد طلبها على الاحزاب ,لتحقيق تطلعاتها المشروعة في احتلال مواقع في التدبير التشريعي والتنفيذي للسياسات العمومية,خاصة أن الدستورأغلق الابواب أمام صفتي ا لتكنقراط واللامنتمين و"وزراء السيادة"... ان أحزابا ديمقراطية قوية وفاعلة,وممتدة في النسيج المجتمعي ,هي الرافعة الاساسية ,والضمانة القوية للانتقال الى الملكية البرلمانية التي وضعها دستور فاتح يوليوز 2011 في منتصف الطريق ,ورهن بلوغ أفقها المنظور بعملية بناء جماعية تتكامل فيها أدوار الدولة وألاحزاب والمجتمع المدني .. وليتحمل كل طرف ما له من مسؤوليات وما عليه من واجبات .. هي .. من حجم وطن بكامله..