في ظرف يومين تعددت تصريحات قادة حزب "العدالة والتنمية" وفي نفس الوقت تناقضت وتضاربت فيما بينها وحتى عند الشخص الواحد، حول نزاهة عملية الاستفتاء ومدى صحة الأرقام التي أعلنت عنها وزارة الداخلية حول نسب المشاركة ونسبة التأييد التي حصل عليها الدستور الجديد. فقد صرح عبد الإله بنكيران لجريدة "الصباح" المغربية، ولصحيفة "الفاينانشل تايمز" البريطانية بأن العملية شهدت "اختلالات في بعض الأرقام المدلى بها حول نسب المشاركة والتصويت في مناطق معينة"، كما صرح بذلك لجريدة "الصباح"، وبرر هذه الإختلالات إلى ما اسماه "حرص بعض رجال السلطة على إظهار أن المناطق التي يتحكمون فيها عرفت أكبر نسب مشاركة". أما تصريحه للجريدة البريطانية فأبدى فيه شكوكه من كون نسبة المشاركة في الإستفتاء حول الدستور ربما تكون قد تمت المبالغة فيها من قبل وزارة الداخلية. وقال بنكيران لمبعوثة الصحيفة البريطانية "إن نسبة الإقبال على الاستفتاء قد بولغ فيها". قبل أن يضيف بأنه يعتقد أن الإقبال على صناديق الاقتراع كان "على الأرجح نحو 50 في المائة". لكن بنكيران سرعان ما أصدر "توضيحا" خص به وكالة الأنباء الرسمية هذه المرة، ينفي فيه أن يكون قد شكك في نتائج الاستفتاء، ويشتكي من كون تصريحاته "فهمت" خطأ لأن ما قصد قوله هو أن "نسبة التصويت ب "نعم" تجاوزت 50 في المائة وأن هذا كاف ديموقراطيا للتسليم بالدستور ...". (هل استوضحتم شيئا؟ !). ليس بنكيران وحده من تحدث عن وجود "تجاوزات" في العملية، فزميله في الأمانة العامة للحزب، مصطفى الرميد صرح لقناة "الجزيرة" القطرية بأن "ثمة خروقات بالفعل تسجل وسجلت في هذا الباب، لكن ذلك لا يمكن أن يؤسس للقول بعدم شرعية الإستفتاء"، قبل أن يضيف "إذا كانت هناك خروقات أو تجاوزات فلا يترتب عن ذلك القول بعدم شرعية الاستفتاء ما دامت هذه الخروقات غير جسيمة، مع التسليم بالفعل بأن هناك تجاوزات وخروقات...". (هل استوعبتم شيئا؟ ! ). لكن زميلهم، عبد الله بها، خرج، وبدون مناسبة، ليصرح لجريدة الحزب "التجديد"، ويؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن "الحزب لا يتوفر لحد الآن على أية إحصاءات تفيد أن هناك اختلالات جسيمة ارتكبت"، ولتبرير تصريحات زميليه قال "إن الحديث عن وجود تجاوزات في الإستفتاء هو من حيث المبدأ فقط، لأنه لا يمكن تصور عملية اقتراع بدون اختلالات". وأضاف فيما يشبه الرد على تصريحات زميليه "من يدعى وجود اختلالات عليه أن يثبتها بالدليل وليس بالكلام فقط" (هل فهمتم شيئا؟ !). إن من يعيد قراءة هذه التصريحات بتأني سيخرج بانطباع واضح هو أن الحزب يقر بوجود اختلالات شابت عملية الاستفتاء لكنه لا يستطيع أن يكشف عنها، إما لكونه لا يتوفر على الأدلة التي تثبت قول قادته، أو هو أصلا لم يسعى إلى البحث عنها. أو أن مرحلة التطبيع مع السلطة التي يسعى الحزب إلى التأسيس لها تفرض عليه واجب التغاضي عنها من أجل بناء الثقة المفقودة بينه وبين أقطاب هذه السلطة. أو أن هناك ضغوطا أكبر من الحزب تجعل قادته يبتلعون ألسنتهم إما رهبة كما كان يحصل في الماضي القريب، أو رغبة نزولا عند الإغراءات التي تقدمها ذات السلطة لشراء صمت حلفائها حتى لا نقول تواطئهم. وفي كل الحالات فإن الخاسر في نهاية المطاف هو مصداقية حزب "العدالة والتنمية"، لأنه بمواقف قادته هذه "المضطربة"، يكون قد منح "شيكا على بياض" للسلطة عندما زكى عملها ورفعه عن كل الشبهات. وفي نفس الوقت صمت عن "تجاوزاتها" بل وبررها وزكاها. ولو صدرت مثل هذه المواقف المزكية والمبررة من أي حزب آخر ما كانت لتلاقي نفس الاهتمام الذي قوبلت به تصريحات قادة "العدالة والتمنية"، أولا لأن حزبهم محسوب على المعارضة، ولا يمكن مقارنة تصريحاتهم بشهادات (وهي كثيرة) الأحزاب الأخرى المشاركة في الحكومة أو الداعمة لها لأن في فم "قادتها" "الكثير من الماء" كما يقال. وثانيا، وهنا تكمن المفارقة، وهو أن حزب بنكيران هو أكثر الأحزاب عانى وما زال يعاني من "تجاوزات" السلطة و"تدخلاتها" و"خروقاتها" التي طالته وتطاله في الانتخابات وخارج مواسم الانتخابات. وكان حري بحزب عانى من كل هذا التعسف أن يكون أول من يقف ضده ويفضحه خاصة إذا كان يثق فعلا في الخطاب الرسمي الذي يعد بفتح صفحة جديدة ! لقد أعادت فترة المخاض الحالية التي يمر بها المغرب لحزب بنكيران الثقة في نفسه بعدما كان قادته يجتمعون سرا مع مسؤولي وزارة الداخلية ليملوا عليهم تعليماتهم وينفذوها سرا بدون الرجوع إلى قواعدهم. ويتذكر قادة الحزب كيف تم إجبارهم على تقليص ترشيح مناضليهم في انتخابات 2002، وكيف تم إجبارهم على تغيير رئيس فريقهم البرلماني في البرلمان السابق. وفي الفترة الأخيرة عندما حملوا إلى القصر خلسة مذكرة تتضمن اقتراحا ثانويا حول أسبقية عقد الجلسات العلنية لغرفتي البرلمان، قيل لهم أن التزموا الصمت وعودوا إلى مقاعدهم حتى يأتيكم الرد. فعادوا وصمتوا. وفي الموقع الذي احتله ويحتله حاليا، كان حزب "العدالة والتمنية"، أكثر الأحزاب تأهيلا لأن يلعب دورا كبيرا في ترجيح كفة الأصوات التي تنادي بإصلاحات ديمقراطية حقيقية، لكنه اختار الوقوف إلى جانب السلطة التي أحست في لحظة ما بأن جناحها هيض وكاد ينكسر ! وكان يمكن أن يعتبر مثل هذا الموقف "شهامة" من الحزب الذي اكتوى بنار السلطة التي استجارت به وليس كحال كمن"استجار من الرمضاء بالنار"، لأن الحزب سيوجه سهام نقده، دفاعا عن هذه السلطة، إلى الأصوات التي جعلت صوته مسموعا ومرغوبا فيه، بعد أن حطمت هيكل "الأصالة والمعاصرة" الذي كادت "قيادات" بعض الأحزاب أن تعبده، رهبة أو تزلفا، ومن بينها أعضاء من حزب بنكيران ! إن النهر قد ينضب لكنه لا يستطيع أن يغير مجراه، وعندما تعود السلطة غدا إلى ممارساتها القديمة، والمؤشرات كثيرة تقول بأنها عائدة لا محالة، سيصعب تصديق أي طعن في نزاهة هذه السلطة أو حتى التشكيك فيها، خاصة إذا جاء ممن سبق له أن زكاها واختار الاصطفاف إلى جانبها في لحظات التاريخ الحاسمة، ووقف مدافعا عن أخطائها ومبررا لها ! عندها سيأتي من يقول لرفاق بنكيران، ليس تشفيا ولا انتقاما، وإنما تأسفا "خذلتكم المذلة يوم الوغى". وفي هذا يصح هذا البيت من الشعر الذي لا أعرف قائله: يفر جبان القوم عن عرس نفسه ... ويحمى شجاع القوم من لا يناسبه