في تقريره السري إلى وزارة الخارجية بواشنطن كتب المستشار السياسي بالسفارة الأمريكية بالرباط معلقا على الأداء "الخشن" لحزب فؤاد عالي الهمة في الانتخابات الأخيرة ما يلي: "النتيجة من وراء كل هذا (الأداء) قد يؤدي إلى مزيد من تآكل التأييد الشعبي للعملية الديمقراطية في المغرب". ومنذ تلك الانتخابات التي أصبح فيها حزب الهمة الحزب الأول داخل البرلمان، له رجل في الحكومة وأخرى في المعارضة، دخلت الحياة السياسية التي كانت أصلا تعاني من العبث إلى مرحلة الميوعة، وبلغت مرحلة من الانحطاط لم تشهدها من قبل. وقد تابعنا كيف تم انتخاب أمين عام حزب (معارض) بين قوسين كبيرين، هو الشيخ محمد بيد الله، على رأس مجلس المستشارين وبأصوات أحزاب (الأغلبية) الحكومية، التي يجب وضعها هي الأخرى بين قوسين كبيرين. وخلال افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة تابعنا كيف كان النواب بمن فيهم الأساتذة الجامعيون وأولئك المحسوبين على الأحزاب التي ما زالت تصنف نفسها "ديمقراطية" و"تقدمية" يتهافتون على حزب صديق الملك من أجل نيل تزكيته للانضمام إلى صفوفه. وقد زادت حالة الميوعة هذه من ازدراء الناس لمن يفترض فيهم أنهم يمثلون إرادة الأمة، وقد استعملت كلمة إزدراء تعففا حتى لا أستعمل كلمة أخرى أكثر خدشا لكرامة بعض النواب المحترمين فعلا وليس قولا... وقد أدركت أول سلطة في البلاد ممثلة في الملك هذا الوضع المأساوي الذي بلغته المؤسسة البرلمانية، وجاء الخطاب الملكي أثناء افتتاح الدورة الخريفية محملا بالكثير من الرسائل إلى البرلمانيين، عندما انتقد أداء البرلمان، ودعا إلى تبني "حكامة برلمانية". وإلى "التشبّع بثقافة سياسية جديدة وممارسة نيابية ناجعة"، رهنها بكثافة حضور الأعضاء، في إشارة إلى استمرار ظاهرة الغياب، وطالب ب "جودة الأداء ومستوى الإسهام في معالجة الانشغالات الحقيقية للشعب". ومرت الأيام، وعادت "حليمة إلى عادتها القديمة"، وبدأت تظهر صور غرفتي البرلمان على الشاشة الصغيرة أثناء فترات الأسئلة الشفوية شبه فارغة، إلا من نواب يتنابزون بأغلظ الألفاظ، أو آخرون يغطون في نوم عميق... وجعل بعض البرلمانيين مساحة البث المباشر لحصة الأسئلة الشفوية إلى منبر للمزايدات السياسيوية الضيقة وتصفية الحسابات الشخصية... وبات تتبع تلك الحصة مثل فرجة "السيتكومات" الثقيلة التي تفرضها التلفزة الرسمية على مشاهديها بمناسبة وبدون مناسبة... أما رئيسا الغرفتان اللذان كان يفترض فيهما أن يعيدا ضبط تسيير مؤسستيهما فلو احتسبنا الساعات التي يقضيانها في السماء لوجدنا أنها أكثر بكثير من تلك التي تشدهما إلى اليابسة بعدما حولا مؤسستي الرآسة بالمجلسين إلى وكالة للأسفار عبر العالم... وأمام هذا الوضع المأساوي الذي بلغه وضع المؤسسة التشريعية في البلاد كان متوقعا حدوث غرائب من قبيل ما حدث في الهزيع الأخير من ليلة الثلاثاء الماضي عندما أقدم خمس مستشارين، فقط لاغير، على إسقاط ميزانية وزارة النقل. وكتبت الصحف الصادرة اليوم أن نفس الأمر كان سيتكرر مع ميزانية وزارة العدل لولا أن الوزير المسؤول عن القطاع طلب رفع الجلسة ل"الاستنجاد" (كذا) ببعض نواب الأغلبية وتمرير ميزانية وزارته. وخلال جلستي المناقشة والتصويت على مزانيتي هاتين الوزارتين لم يكن يتعدى عدد حضور البرلمانيين سبعة أشخاص، ودائما خمسة مما يسمى ب"المعارضة" واثنان محسوبان على ما يعتبر "أغلبية"، وذلك من ضمن أكثر من 500 برلماني هم أعضاء الغرفتين تدفع لهم شهريا رواتبهم وامتيازاتهم وتكاليف علاجهم وسفرهم من أموال دافعي الضرائب... كان بعض البرلمانيين يبررون غيابهم عن الجلسات العمومية أثناء التصويت على بعض القوانين بكون حضور تلك الجلسات كان رمزيا، لأن الحضور الفاعل هو الذي يكون داخل اللجان في الغرف المغلقة أثناء مناقشة مشاريع القوانين، وقد جاءت فضيحة التصويت على ميزانتي النقل والعدل لتزيد من فضح مثل هذه التبريرات الواهية... وحتى بعد أن حصل ما حصل، وكتبت الصحف عن "الحضور الفضيحة" أثناء مناقشة أهم قانون يصوت عليه البرلمان، ألا وهو قانون المالية، لم يصدر أي رد فعل عن رآسة الغرفتين، وقد نسمع غدا عبد الواحد الراضي أو الشيخ محمد بيد الله، وهما يثنيان على آداء مؤسستيهما دون أن يرف لهما جفن... لقد كانت الفكرة من تأسيس أول برلمان في التاريخ، وهو البرلمان البريطاني، هي مراقبة طريقة صرف أموال إمبراطورية بريطانيا العظمى التي كان يتصرف فيها الملك والنبلاء، وتم إنشاء مجلس العموم لإشراك الناس في طريقة تدبير أموال الإمبراطورية، ومنذ ذلك التاريخ ظلت مناقشة ميزانيات الدول داخل برلماناتها تحظى بالأهمية. لذلك عندما يغيب برلمانيونا عن مناقشة أهم قانون يصوت عليه البرلمان، فيحق لنا أن نتساءل: ما الفائدة في وجودهم أصلا داخل هذه المؤسسة؟ وما الفائدة من وجود مؤسسة برلمانية تكلف ميزانية الدولة ملايير الدارهم سنويا، و تعمل مثل غرفة كبيرة للتسجيل تردد ما تمليه عليها السلطة؟ أليس آداء وتصرفات بعض أعضائها هو ما يدعو إلى التيئيس وينفر الناس من العمل السياسي؟ ابحثوا عن الجواب في تقرير المستشار السياسي للسفارة الأمريكية بالرباط، وستعرفون السبب...