تحقيق خالد أبورقية 30 أكتوبر, 2016 - 12:02:00 في هذا التحقيق الذي امتد على مدى عام كامل، جلسنا إلى الأهالي في الأماكن التي لُسع فيها الضحايا واستعادوا اللحظات العصيبة لرحيلهم بأصوات يخنقها الأسى، وانطلقنا في رحلة بحث من المغرب إلى تونس، ومراسلات واتصالات مع فرنسا والسعودية من أجل الوصول إلى معلومات دقيقة تنير الرأي العام وتجيب على سؤال واحد لعائلات الضحايا في المناطق النائية: لماذا تهدر حياة أحبابنا بهذا الشكل؟ في الحلقة الثانية والأخيرة رحلة البحث عن المصل التي ستدخلنا إلى دوامة التكتم، كيف سيخفض فتح وحدة إنتاج الأمصال ومن العبء على ميزانية الدولة في ظل نزيف أرواح متواصل.. جدل علمي: رحلة البحث عن المصل لم تتوقف في المغرب الأصوات المطالبة بإعادة إنتاج الأمصال المضادة لسموم العقارب والأفاعي، فقد طالبت الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة في أكثر من بيان بإعادة إنتاج الأمصال واستخدامها لإنقاذ أرواح المصابين، كما تحول الأمر إلى مطلب عفوي لدى ساكنة المناطق التي تعرف ''غزوا‘‘ حقيقيا للعقارب والأفاعي، وفي كل مرة يأتي رد وزارة الصحة أن الأمصال غير مجدية، رد دفعنا إلى البحث في حقيقة جدوى هذه الأمصال. بدأ إنتاج الأمصال المضادة لسموم العقارب بمعهد باستور المغرب سنة 1960 تحت إشراف الدكتور ''جان لويس Jean Louis‘‘ وكان المغرب يصدرها إلى فرنسا سنتي 1984 و1985، وبعدها بسنتين سيقوم المغرب بتصديرها إلى ليبيا، فيما ''كان كان المعهد سباقا في إنتاج أول لقاح مضاد لداء السعار (داء الكلب) بمعهد باستور طنجة. بحيث كان يلبي طلبات المغرب ، و يصدره إلى إسبانيا و جبل طارق‘‘ يوضح محمد كريم، بيولوجي متقاعد من نفس المعهد وعضو المكتب النقابي للجامعة الوطنية للصحة المنضوية تحت لواء الإتحاد المغربي للشغل. اعتمدت وزارة الصحة على ''فتوى‘‘ طبية للمركز المغربي لمحاربة التسمم الذي تديره البروفيسورة رشيدة السليماني بن الشيخ، التي تناصر بشدة التكفل بالبروتوكول العلاجي بدل الأمصال. البروفيسورة السليماني هي زميلة مجموعة بحث البروفيسور التونسي محمد فكري عبروق الذي تعتبر دراساته مرجعا لمناصري التخلي عن الأمصال. في المقابل أكدت دراسة مهمة للدكتور غاليم والدكتور الحفني على أهمية استعمال الأمصال. وصدرت الدراسة التي أنجزها غاليم والحفني في إطار قسم الأبحاث ضمن وحدة السموم والتسممات التابعة لمعهد باستور، ونشرت سنة 2002 ضمن النشرة 95 التي تصدر عن (société de pathologie exotique) وهي جمعية تأسست سنة 1907 للبحث الأمراض الدخيلة علمية. ولاحظت الدراسة أن تركيز السم يقل بشكل ملحوظ بالنسبة للمصابين الذين تلقوا الأمصال عكس الذين تم علاجهم بدون مصل، وأشارت إلى كمية الجرعات وتوقيتها وعدد من الملاحظات، وهي الدراسة التي يستدل بها مناصرو إنتاج الأمصال خصوصا أنها صدرت ضمن إحدى أعرق وأهم النشرات العلمية ذات الصلة. (يمكن الإطلاع على الدراسة كاملة بالضغط هنا)
مقتبس من دراسة الدكتور الحفني والدكتور غاليم رحلة بحثنا ستأخذنا إلى تونس بلد البروفيسور عبروق. غير بعيد عن حديقة ''البلفيدير‘‘ الشهيرة حيث يقع معهد باستور وسط ''تونس‘‘ العاصمة، قبل توجهنا اطلعنا على نشاط المعهد كما اطلعنا على إشادة ضمنية به في تقرير المجلس الأعلى للحسابات في مقارنة بينه وبين معهد باستور المغرب، فالأخير لم يعد ''معهدا متعاونا مع منظمة الصحة العالمية حول داء السيدا وعلى سبيل المقارنة، يعتبر معهد باستور-تونس منذ 2002 كمركز جهوي مرجعي معتمد من طرف منظمة الصحة العالمية فيما يخص مرض شلل الأطفال أو التهاب سنجابية النخاع وكذلك الحصبة (أو بوحمرون). كما يعتبر معهد باستور-تونس ايضا مركزا متعاونا مع منظمة الصحة العالمية ومع خلية الابحاث و التكوين الخاصة بداء الليشمانيات‘‘ (من تقرير المجلس الأعلى للحسابات، مارس 2009، الصفحة 460). في مكتب متواضع داخل معهد باستور- تونس استقبلنا بوجه بشوش الدكتور زكرياء بن لصفر، طبيب بيطري ومفتش بوزارة الصحة التونسية. وحول موضوع بحثنا أكد الدكتور بن لصفر أن باستور – تونس مستمر في إنتاج الأمصال المضادة لسموم العقارب منذ سنة 1956، وأوضح أن ''المصل التونسي مخصص لنوعين من العقارب الأكثر انتشارا في تونس، ويتم تزويد جميع أنحاء البلاد به وهو يعطي نتائج جيدة وحماية جيدة من مجموع أنواع العقارب المتواجدة بها‘‘. وأقر الدكتور بن لصفر بوجود مدرستين متعارضتين فيما يخص موضوع بحثنا، فبينما تدعو ''مدرسة الإنعاشيين‘‘ إلى الاستغناء عن الأمصال والاكتفاء بالتحمل العلاجي عن طريق علاج الأعراض، وهي المدرسة التي تنتصر لها وزارة الصحة في المغرب، تتشبث ''مدرسة المناعيين‘‘ باستعمال الأمصال التي يجب أن تتوفر في وقت مبكر والتي من شأنها أن تخفف من شدة الإصابة وتسمح بتجنب التطورات غير المرغوب فيها. وأشار الدكتور بن لصفر في حديثه إلينا أن ''تجارب ودراسات الإنعاشيين تعاني من خلل أخلاقي بعدم إخبار المريض بسبب خضوعه للعلاج بواسطة المصل أو عن طريق التحمل العلاجي ومميزات ومخاطر كل منهما، فيما الأسوأ هو عدم إخبار المريض أنه سيشارك في تجربة سريرية‘‘. وأضاف ''يجب تسجيل أن العلاج بالأمصال هو العلاج التقليدي المتوفر للمصابين بلسعات العقارب ومن هنا غير مسموح لنا أخلاقيا منع المصابين منه تحت مبدأ الوسائل الملزمة‘‘. رحلة بحثنا عن المصل قادتنا إلى المملكة العربية السعودية التي تعد رائدة في هذا المجال، حيث دفعت الشهرة التي حققها مركز أمصال سعودي، بكل من أميركا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا واليابان، إلى أن تطلب منه كميات من الأمصال المعادلة لسموم العقارب والثعابين، إلا أن المركز التابع لجهاز الحرس الوطني السعودي، المكلف بإنتاج الأمصال المعادلة لسموم الثعابين والعقارب في البلاد، اعتذر عن عدم تلبية طلبات تلك الدول. وأكد محمد الاحيدب المدير العام للمركز، أن أخلاقيات المهنة هي التي دفعته للاعتذار عن طلبات تلك الدول، باعتبار أن الأمصال المنتجة فيه تختص بمعادلة سموم القوارض التي تعيش في بيئة كالبيئة السعودية أو المنطقة العربية بشكل عام. حسب ما أوردته جريدة الشرق الأوسط في عددها الصادر بتاريخ 18 يوليو 2007. حاولنا البحث عن التجربة السعودية في مجال إنتاج الأمصال المضادة لسموم العقارب والأفاعي تطورا مهما منذ سنة 2006، فلم تكن الأمصال المتوفرة قبل ذلك مؤثرة وفعالة، وذلك ما أكده حوار أجرته جريدة الشرق الأوسط، بتاريخ 09 ماي 2009، مع الدكتور عبد الرحمن الأسمري نائب مدير مركز الأبحاث في مستشفى القوات المسلحة السعودية والباحث الرئيسي لمشروع دراسة العقارب في السعودية، أشار الأسمري إلى أن الأمصال لم تكن مؤثرة، وقال في رد على سؤال الجريدة ''نشرت منظمة الصحة العالمية عام 2003تقريرا حول الأمصال، وأشارت فيه إلى أن المعايير العالمية المتبعة في إنتاج الأمصال لم تعد مناسبة بسبب الاختلاف الكبير في صفات السم المستخلص من نفس نوع العقرب أو الثعبان من منطقة لأخرى، وعليه أوصت اللجنة المكلفة بان يكون هناك بروتوكول علاجي لكل منطقة على حسب الأنواع السامة سواء كانت عقارب، ثعابين أو غيرها‘‘. وبينما كانت نسبة الوفيات جراء لسعات العقارب ولدغات الأفاعي تصل إلى 25 في المائة، أكد المدير العام للمركز الوطني لإنتاج الأمصال واللقاحات في الحرس الوطني، محمد الأحيدب، انخفاض نسبة الوفيات بين المصابين بلدغات العقارب والثعابين في السعودية إلى 0%، منذ تأسيس المركز الوطني لإنتاج الأمصال واللقاحات. هذا النجاح الذي عرفه المركز السعودي دفعنا للاستفسار لديه حول الموضوع، وكانت أسئلتنا: هل هناك رأي علمي جازم يؤكد بشكل جازم فعالية الأمصال المضادة لسموم العقارب؟ ما رأيكم في الاستغناء عن المصل المضاد لسموم العقارب وتعويضه بالطب السريري عبر توفير الأوكسجين وتوفير أدوية الضغط والقلب ووضع المصاب في العناية المركزة وإن تطور الأمر إدخال المصاب إلى قسم الإنعاش؟ فكان رد المركز مقتضبا '' كصحفي يمكن الرجوع للنشرات العلمية الموثقة والمحكمة مثل توكسيكون ونشرات (WHO)، للإجابة المحايدة على جميع تساؤلاتك‘‘. وجهتنا التالية كانت منظمة الصحة العالمية التي لم تخل توصيات المجلس الأعلى للحسابات من التذكير بضرورة الالتزام بتوصياتها، توجهنا إلى مكتب المنظمة بالرباط، كان سؤالنا حول موقف المنظمة من التوقف عن استعمال الأمصال المضادة لسموم العقارب وطلبنا رأيا علميا حول نجاعتها، لكن ممثل المنظمة لم يقدم جوابا واضحا بل اكتفى بالقول أن ''ذلك مرتبط بسياسة كل دولة على حدة‘‘. قلق الأسئلة الذي كان يحركنا دفعنا إلى البحث عن أكثر من جواب شاف للمنظمة الأمنية المعنية بصحة كل سكان الأرض والتي لم تقدم لنا جوابا واضحا عن أسئلتنا الشائكة. فعدنا إلى بلاغ لها قالت فيه إنه ''تعرّض أكثر من 12 مليون شخص لعضّ الكلاب أو لدغ الثعابين أو قرص العقارب كل عام، فإنّ قدرة العالم على علاجهم لا تزال غير كافية. ويعتمد علاج تلك الحالات بشكل فعال اعتماداً كبيراً على الأمصال العلاجية‘‘. البلاغ الصادر بتاريخ 09 يناير/ كانون الثاني 2007 أعلنت من خلاله المنظمة عن وضع ''خطة خمسية ترمي إلى تعزيز إنتاج الأمصال في البلدان النامية‘‘وشددت على أنه ''لا بد من توفير أكثر من 10ملايين قنينة من الأمصال المضادة للسموم لعلاج لدغات الثعابين ولسعات العقارب في جميع أرجاء العالم، ويجب تخصيص نحو مليوني قنينة منها للقارة الأفريقية وحدها‘‘ حسب نص الوثيقة ولم تستثن المنظمة الأمصال المضادة لسموم العقارب. الجواب الواضح، إن منظمة الصحة تشجع إنتاج الأمصال المضادة لسموم الأفاعي وحتى نظيرتها لسموم العقارب، وهو ضد ما قاله وزير الصحة في المغرب، فلماذا لم يجبنا مسؤولها بالرباط لإعطائنا مسارا جديدا للتحقيق. الاستيراد مدخل للفساد وضياع الأموال منذ قرار التوقف عن إنتاج الأمصال واللقاحات أصبح المغرب يعتمد بشكل كلي على استيراد هذه المواد، وقد وقف تقرير المجلس الأعلى للحسابات على نموذج لنتائج هذا القرار حيث سجلت زيادة في جرعة واحدة للمصل المضاد لسموم الأفاعي بما يعادل الحد الأدنى للمعاشات. ولا تزال بعض جوانب صفقة استيراد لقاحي ''بنومكوك‘‘ و ''روتافيروس‘‘ تثير التساؤلات في المغرب، وتعود القصة إلى سنة 2010 حين قررت وزارة الصحة إدخال اللقاحين في البرنامج الوطني للتلقيح. ووقف التقرير السنوي لسنة 2012 للمجلس الأعلى للحسابات على اختلالات عميقة، حيث أنه أشار إلى أن منظمة الصحة العالمية تعتبر إدخال لقاح البنومكوك في البرنامج الوطني لتلقيح الأطفال أولوية فقط بالنسبة للدول التي لديها معدل وفيات الأطفال أقل من خمس سنوات يفوق 50 وفاة في كل 1000 ولادة، بينما المغرب لا يدخل ضمن هذه الخانة بمعدل وفيات لم يتجاوز 28 في الألف سنة 2010، أما لقاح الروتافيروس فتوصي المنظمة بإدخاله في البرنامج الوطني بالنسبة للدول التي لا تقل نسبة وفيات الأطفال بسبب الإسهال 10 في المئة والمغرب لا يدخل أيضا ضمن هذه الفئة بنسبة أقل بكثير. وحسب تقرير المجلس الأعلى للحسابات فقد تم تمويل المرحلة الأولى من الصفقتين سنة 2010 بمبلغ 640 مليون درهم كانت في الأصل مخصصة لبرنامج نظام المساعدة الطبية المخصص للفقراء والمعروف اختصارا ب ''راميد‘‘، فيما تم تمويل المرحلة الثانية سنة 2011 بعد تحويل مبلغ يفوق 350 مليون درهم كانت في الأصل مخصصة لشراء المنتجات الصيدلية والمستلزمات الطبية، وهو ما خلف نقصا حادا بعد تحويل الاعتمادات المخصصة لشراء تجهيزات وأدوية 141 مستشفى وصرفها على اللقاحين المذكورين. ومما سجل على الصفقة، فضلا عن ضياع مبالغ هامة كانت مخصصة لعلاج المرضى، تجاوز منظمة الصحة العالمية وعدم استشارة منظمة اليونسيف ثم عقد اتفاقية-إطار مع مختبرات تحوم حولها شبهات وفضائح كشركة كلاكسو التي صدر بحقها حكم قضائي في الصين بدفع غرامة 490 مليون دولار بسبب دفعها رشاوى لأطباء ومستشفيات للترويج لمنتجاته(اضغط هنا لمزيد من المعطيات) فضلا عن إدعاءات بالفساد في الإمارات (اضغط هنا لمزيد من المعطيات). ما الذي نحتاجه وما الذي ننفقه؟ لا يكف المطالبون بعودة المغرب إلى إنتاج أمصاله ولقاحاته الخاصة عن التذرع بتخفيف العبء عن ميزانية الدولة، فقد أكد علي لطفي رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة ''لو أن معهد باستور أعاد فتح وحدة إنتاج الأمصال واللقاحات هذا سيخفف من العبء على ميزانية الدولة، كما أنه سيتمكن من تحقيق اكتفاء ذاتي، وهذا سيقلص من نسبة الأمراض وكذلك نسبة الوفيات، فدور معهد باستور دور أساسي وكل الدول تعمل على هذا الأمر‘‘ وضرب لطفي مثلا بتونس التي اعتبرها متفوقة جدا في هذا المجال. تخفيف العبء عن الميزانية العمومية دافع جيد للبحث عن حجم الإنفاق في هذا المجال وإجراء حسابات البدائل وكلفتها، لهذا كان طلبنا لوزارة الصحة ومعهد باستور، المكلف حسب الظهير المؤسس له بتزويد السوق المحلية باللقاحات والأمصال الضرورية، تقديم معطيات عن الأمصال واللقاحات التي يحتاجها المغرب، وثمن اللقاحات وكم يكلف هذا الأمر ميزانية الدولة؟ لم نتلق ردا من وزارة الصحة ومعهد باستور كان خارج التغطية، لكننا تمكنا من الحصول على وثيقة تبين جانبا من مبيعات المعهد من الأمصال واللقاحات لسنة 2007. تشير الوثيقة التي حصلنا عليها إلى أن المعهد باع ما يقارب 200 ألف جرعة لقاح ضد الزكام، وأزيد من 36 ألف جرعة مضادة للحمى الشوكية أو التهاب السحايا، وعددا من اللقاحات التي لم يسبق للمعهد إنتاجها، لكن الأرقام التي تشير إلى اللقاحات والأمصال التي بوسعه إنتاجها ليست قليلة.
وثيقة تظهر حجم مبيعات معهد باستور من الأمصال سنة 2007 - القيمة بالدرهم يؤكد خبراء بيولوجيون اشتغلوا في وحدة إنتاج الأمصال واللقاحات التابعة للمعهد أن المغرب كان في السابق يحقق اكتفاءه الذاتي، وحسب نفس الوثيقة فإن مبيعات معهد باستور سنة 2007 من اللقاح المضاد للكزاز أو التيتانوس بلغت أزيد من 22 ألف جرعة، فيما بلغ حجم مبيعات الأمصال المضادة لنفس الداء 196 ألف جرعة فيما تعرف هذه الأخيرة انقطاعا متكررا خلال السنوات الأخيرة. وبلغت مبيعات المعهد من اللقاح المضاد لداء الكلَب أو السعار 300 ألف جرعة إضافة إلى 9 آلاف جرعة من المصل المضاد لنفس الداء. ''هذه أمصال ولقاحات بوسعنا إنتاجها هنا في المغرب على غرار الجزائروتونس، إضافة إلى الأمصال المضادة لسموم العقارب والأفاعي، إن تم إعادة فتح وتأهيل وحدة الإنتاج‘‘ يقول محمد كريم خبير بيولوجي متقاعد من معهد باستور. ويؤكد ''لقد كنا ننتجها بالفعل في السابق قبل إقبار وحدة الإنتاج‘‘. بعد حصولنا على الوثيقة السالفة الذكر أصبح همنا هو تحويل هذه الجرعات إلى أرقام والوصول إلى تقدير المبلغ الذي صرفه ويصرفه المغرب لهذا الغرض، أصبح بحثنا متركزا حول ثمن الأمصال واللقاحات الواردة في اللائحة، وحيث أن وزارة الصحة ومعهد باستور لا يتجاوبان كانت وجهتنا التالية هي الجهات الموردة لنكتشف أن هذه المعلومات محاطة بسرية تامة. دوامة التكتم: ما الذي تخفونه؟ لم يتأخر رد ''سانوفي باستور‘‘ من فرنسا، على مراسلتنا التي طلبنا من خلالها معلومات عن أثمنة المواد المضمنة في الوثيقة، فقد وصلنا بريد إلكتروني يرد على سؤالنا بسؤال ''متى موعد إصدار الجريدة؟ Pourriez-vous m'indiquer quelle est votre date de bouclage ? ‘‘ أوضحنا مواعيد النشر وكررنا طلبنا لنتلقى ردا ثانيا يخبرنا أنه تم تحويل طلبنا إلى مدير الاتصال على المستوى المحلي بالمغرب، ''نظرا لأن المعلومات المطلوبة تتم معالجتها على مستوى الجهات/ الدول‘‘. استبشرنا بالرد واعتقدنا أننا وصلنا إلى نهاية النفق، ووصل رد مدير الاتصال يطلب رقما هاتفيا للتواصل معنا ومدنا بالمعطيات اللازمة، ثم بعد تبادل عدة إيميلات بيننا توصلنا أخيرا بلائحة للأثمان، لكن كانت خيبتنا كبيرة حين وجدنا أن اللائحة لا تتضمن ولو لقاحا أو مصلا من لائحة الأمصال واللقاحات التي طلبنا ثمن توريدها. عاودنا مراسلة مدير اتصال ''سانوفي‘‘ بالمغرب، وأوضحنا مرة أخرى أن طلبنا يتعلق بأثمنة توريد المواد المبينة في اللائحة التي أرسلنا له، فكان رده هذه المرة قاطعا ومقتضبا جدا ''نحن لا نعطي سوى ثمن البيع للعموم‘‘. بعد هذا الرد المخيب للآمال راسلنا مرة أخرى المسؤولة عن الاتصال ل ''سانوفي‘‘ بفرنسا، أوضحنا أن طلبنا محدد في مراسلتنا ويتعلق بالأثمنة التي يوردون بها الأمصال واللقاحات للمغرب، كررنا التأكيد على المواد الموجودة في اللائحة، هذه المرة لم نتلق جوابا من فرنسا بل رسالة صارمة من مدير الاتصال بالمغرب ''تبعا لمراسلتكم إلى السيدة ج.ج بتاريخ 06/06/2016 نؤكد لكم أننا نعطي فقط ثمن البيع للعموم لأمصالنا ولقاحاتنا‘‘ وكان الرد أشبه بصفق الباب دون رحمة في وجهنا. تييري بودان Thierry Bodin، وهو مندوب نقابي بسانوفي ممثلا للنقابة العامة للشغل بفرنسا (CGT) اعتبر أن طلبنا من ''سانوفي‘‘ بتزويدنا بأثمان التوريد طلب مشروع، وقال أن النقابة التي ينتمي إليها ''ما فتئت تطالب بالشفافية فيما يخص أثمان لقاحات وأدوية سانوفي، لكن للأسف إدارة سانوفي ترفض تقديم أية معلومة بهذا الشأن‘‘. ويضيف نفس المصدر أنه مع هذا الرفض ''يستحيل الحصول على ثمن الكلفة وثمن البيع بالجملة الذي يسمح بحساب المردودية مهما كان اللقاح ومهما كان البلد‘‘. الرهينة أشارت منظمة الصحة العالمية في بلاغها بتاريخ 09 كانون الثاني/ يناير 2007 إلى أنّ ''إنتاج الأمصال العلاجية يشهد انخفاضاً في البلدان الصناعية بسبب ضآلة الأرباح‘‘، وهو ما دفع المنظمة إلى وضع خطة خمسية ترمي إلى إنتاج الأمصال في البلدان النامية. وإن كانت وزارة الصحة اتخذت قرار التخلي عن الأمصال المضادة لسموم العقارب وتؤكد أنها مستمرة في استخدام مثيلتها المضادة لسموم الأفاعي، فإنها ستجد نفسها في مأزق مطلع السنة القادمة. فقد أوردت جريدة لوموند الفرنسية (LE MONDE) في مقال لها (أنظر هنا) نشر بتاريخ 9 شتنبر 2015، حول الموضوع أن ''سانوفي‘‘ أوقف إنتاج المصل المضاد لسموم الأفاعي. وأورد نفس المصدر أن المخزون المتبقي سينفذ في نهاية سنة 2016. مصل FAV-Afrique الذي يعتبر مضادا ثمينا لسموم عشرة أنواع خطيرة من الأفاعي لن يجد بعد ذلك من ينتجه فيما الأمصال الشبيهة منها أمصال تنتج بالهند ليست بالجودة ولا الفعالية المطلوبة. وعادت جريدة لوموند الفرنسية إلى دق ناقوس الخطر بتاريخ 07 يوليوز 2016، بتحديث مقال بعنوان ''اختفاء مصل مضاد للسموم يقلق افريقيا‘‘ (أنظر هنا) وهو مقال نشره موقع الجريدة بتاريخ 25 يوليوز 2015، وأشارت فيه إلى أن آخر القارورات تم بيعها السنة الماضية بينما ''سانوفي SANOFI‘‘ لم تحوّل تقنية إنتاجها إلى مختبر آخر، وفي أحسن الأحوال إن تم توقيع اتفاق بهذا الشأن فإن أول الدفعات لن تكون جاهزة قبل نهاية سنة 2018 أو بداية سنة 2019، وهو ما يعني سنتين بدون هذا المصل الهام. وهذا يظهر جانبا من الارتهان لشركات الأدوية والمختبرات العالمية، ف''سانوفي‘‘ قررت وقف إنتاج مصل FAV-Afrique لأن الأرباح التي يدرها هذا المصل غير مرضية. هذا النموذج قد ينسحب على مجمل الأمصال واللقاحات الهامة مما دفع ببعض الدول إلى البحث عن الاكتفاء الذاتي عبر الإنتاج المحلي وهذا هو الهدف في مضمون بلاغ منظمة الصحة العالمية سالف الذكر. فتح وحدة إنتاج الأمصال واللقاحات بمعهد باستور سيخفف العبء على الميزانية ''كان المعهد سباقا في إنتاج أول لقاح مضاد لداء السعار (داء الكلب) بمعهد باستور طنجة. بحيث كان يلبي طلبات المغرب ، و يصدره إلى إسبانيا و جبل طارق‘‘ يوضح محمد كريم، بيولوجي متقاعد من نفس المعهد وعضو المكتب النقابي للجامعة الوطنية للصحة المنضوية تحت لواء الإتحاد المغربي للشغل. واعتبر كريم أن إغلاق وحدة إنتاج الأمصال خسارة فادحة، ويتحدث بألم عن هذا القرار الذي رفضه المكتب النقابي الذي كان عضوا فيه وناضل من أجل إلغائه. ويخوض كريم معركة إعلامية من أجل إعادة فتح وحدة إنتاج الأمصال واللقاحات. وقد بدأ إنتاج الأمصال المضادة لسموم العقارب بمعهد باستور المغرب سنة 1960 تحت إشراف الدكتور ''جان لويس Jean Louis‘‘ وكان المغرب يصدرها إلى فرنسا سنتي 1984 و1985، وبعدها بسنتين سيقوم المغرب بتصديرها إلى ليبيا. و''ساهم المعهد في انتاج جميع الأمصال و اللقاحات لمواجهة الأوبئة والأمراض الفتاكة التي عرفها المغرب : و باء الطاعون، وباء الجذري، وباء التيفويد، وباء الكوليرا، وباء السل، وباء الجمرة الخبيثة ، داء السعار، داء الكزاز، تسممات العقارب والأفاعي وغيرها‘‘ يقول محمد كريم. وأكد علي لطفي رئيس الشبكة إلى أن فتح وحدة إنتاج الأمصال واللقاحات بمعهد باستور سيكون إيجابيا ومن شأنه أن يخفف العبء على ميزانية الدولة. وقال لطفي في تصريحه أن ''المنظمة العالمية للصحة بدأت تسحب اسم المغرب من لائحة الدول التي هي بحاجة للدعم، فمجموعة من البرامج المخصصة لمحاربة عدة أمراض لم يعد يستفيد منها المغرب على غرار العديد من المساعدات المخصصة لعدة أدوية وهذا ما يفرض عليه أن يستورد هذه الأدوية بإمكانياته الخاصة‘‘، وهذا ما يفسر حسب لطفي ''ارتفاع الميزانية المخصصة لوزارة الصحة، ويجعل الميزانية المخصصة لشراء الأدوية واللقاحات مكلفة على اعتبار أنه يستوردها من الخارج‘‘. وأضاف لطفي ''لو أن معهد باستور أعاد فتح وحدة إنتاج الأمصال واللقاحات، سيخفف من العبء على ميزانية الدولة، كما أنه سيتمكن من تحقيق اكتفاء ذاتي، وهذا سيقلص من نسبة الأمراض كذلك نسبة الوفيات، فدور معهد باستور دور أساسي وكل الدول تعمل على هذا الأمر‘‘ وضرب لطفي مثلا بتونس التي اعتبرها متفوقة جدا في هذا المجال. النزيف مستمر ليس أكثر ألما من أن يتحول عرس إلى مأتم، ومن أن تلف عروس في كفن بدل أن تتهادى في فستانها. إنها قصة الشابة العروس/ القتيلة، ''صالحة‘‘ 18 سنة، أياما قليلة قبل زفافها وفي غمرة التحضير للعرس لسعتها عقرب يوم 08 شتنبر الماضي، بمنطقة ''خميس بني شكدال‘‘ إقليم ''الفقيه بن صالح‘‘ التابع لجهة بني ملالخنيفرة، هذا الخبر تلقيناه ونحن في آخر مراحل تحقيقنا هذا. حالة صالحة ليست الوحيدة، فالإقليم عرف حصيلة ثقيلة في ظرف قياسي، حيث كانت صالحة واحدة من 5 قتلى ضحايا لسعات العقارب في أقل من أسبوعين، وبين الضحايا طفل لم يتجاوز عمره ثلاث سنوات. وبينما عبر أهالي الضحايا عن غضبهم من عدم توفر الأمصال في المستشفيات، حملت المديرية الجهويىة لوزارة الصحة بجهة بني ملالخنيفرة مسؤولية الوفيات للسكان الذين ''لا زالوا يلتجئون إلى الوسائل التقليدية المعروفة في تقديم العلاجات الأولية لضحايا لسعات العقارب أو لدغات الأفاعي الشئ الذي يؤدي في غالب الأحيان إلى تأخير وصول الضحايا إلى المراكز الاستشفائية والمؤسسات الصحية في الوقت المناسب للاستفادة من العلاجات الضرورية‘‘ حسب بلاغ للمديرية. كان الأمر أشبه بتغطية من ساحة حرب، فأثناء وضع اللمسات الأخيرة على هذا التحقيق كنا نتابع تساقط الضحايا تباعا في أيام قليلة، وفي الوقت نفسه كنا نستعيد تأكيد وزارة الصحة على عدم جدوى الأمصال ونستعرض الدراسات التي تؤكد على أهمية استعمال الأمصال المضادة لسموم العقارب، إلى جانب توصيات المجلس الأعلى للحسابات وتوصيات ومبادرات منظمة الصحة العالمية، إضافة إلى اطلعنا على تشبث تونس باستخدام الأمصال والنجاح الباهر الذي حققه مركز الإنتاج في السعودية. واكتشفنا أن حجم الأموال التي ينفقها المغرب من أجل استيراد الأمصال واللقاحات وكمياتها أحد الأسرار التي لا يكشفها المسؤولون وتراوغ''سانوفي‘‘ في تقديمها، بينما أكد معنيون ومختصون أن الاستيراد مدخل للفساد مستشهدين بفضيحة اللقاحين، وأن إعادة تأهيل وفتح وحدة الإنتاج سيخفف العبء عن ميزانية الدولة ويشكل أحد الضمانات لإنقاذ أرواح المواطنين. عام كامل من البحث والاتصالات والتدقيق انتقلنا خلاله إلى تونس للإطلاع عن كثب على تجربة معهد باستور هناك، ومتابعة إنجازات المركز السعودي، كان كفيلا ليعزز القناعة أن العمل على تحقيق اكتفاء ذاتي سينقل البلد من وضع الرهينة لدى شركات الأدوية التي تضع الحق في الحياة وفي الصحة على طاولة الابتزاز وفي أحسن الأحوال تجعل من الصحة سلعة قابلة للبيع والمساومة. في نهاية شتنبر 2015 ودعنا أهالي الضحايا بمنطقة ''سيدي حجاج‘‘ بإقليمسطات، وتلقينا على مدار العام تأكيدات من المسؤولين أن خططهم وقراراتهم صائبة وتتمتع بجدارتها العلمية والطبية، وفي نهاية شتنبر 2016 كان علينا أن نقدم التعازي لخمس عائلات فجعت تباعا في وقت وجيز قبل أن نستفسر عن تفاصيل فجائعهم، تفاصيل مكررة والنتيجة واحدة : مزيد من الأرواح الضائعة والأموال المهدرة. تحقيق: مغرب بدون "أمصال".. معاناة ضحايا يموتون في صمت بسم العقارب (الجزء الأول) * أنجز هذا التحقيق في إطار برنامج ثروات الأمم الذي تديره مؤسسة طومسون رويترز