استمرت حالة الاحتقان الاجتماعي بالأقاليم الصحراوية منذ أحداث اكديم إزيك، والتي لم يستطع الدخان الكثيف الناجم عن استعمال القنابل المسيلة للدموع إخفائها,وبهذا أضحت طبيعة الإحتجاجات والعناصر الفاعلة فيها توحي فعلا على أن ثقافة الاحتجاج قد دخلت مرحلة جديدة تؤسس معها لإنتقال في التصورات وطرق التفاعل مع الأحداث و الثورات التي يشهدها العالم العربي. حيث أصبحت الشبكات الاجتماعية عبارة عن " لاغورا " l'agora مكنت من فتح نقاش عمومي حول المشاكل المتعلقة بالشأن الصحراوي بصفة عامة والمحلي بصفة خاصة. كما لاحظنا حدة العنف المصاحب لكل الإحتجاجات التي شهدتها مؤخرا الأقاليم الصحراوية. كل هذه المعطيات لا يمكن فصلها عن متغير العولمة والإنتقال الديمغرافي المتمثل في بروز فئة الشباب كمحرك للإحتجاج . فعلى عكس موقف الأباء يرى الشباب الصحراوي إيجابية الإحتجاج كوسيلة تعبيرية لتحسيس السلطات العمومية بمشاكلهم. وضمن هذه الموجة الاحتجاجية يمكننا التمييز بين من يتبنى بشكل كامل مرجعية " البوليساريو " ومن يلح على ضرورة رد الاعتبار للمنطقة والقبيلة. ما يزيد من أهمية وصعوبة هذه الدراسة هو أن أغلب المقالات التي تعرضت لظاهرة الإحتجاج بالمناطق الصحراوية لم تتجرأ على إقتحام قلب العلبة السوداء وظلت في غالب الأحيان تستعرض أسباب ونتائج هذه الظاهرة ولكن دون الوقوف عند الفاعلين فيها و دلالتها والشعارات التي تحملها. من هذا المنطلق يظهر أنه من الضروري طرح مجموعة من التساؤلات التي ظلت مغيبة أو مقصية على مستوى التحليل: • ما الذي يميز الثقافة الإحتجاجية بالأقاليم الصحراوية عن باقي الأقاليم المغربية؟ • هل يمكن التعامل على مستوى التحليل مع إحتجاجات الأقاليم الصحراوية بنفس الطريقة التي يتم بها الأمر في ما يخص المناطق الأخرى للمملكة؟ 1. ثقافة الاحتجاج والخصوصية الصحراوية لا احد يجادل في أن الخصوصية الثقافية والسوسيولوجية تدخل في إطار المكونات الأساسية للفعل الاحتجاجي، حيث يستقي منها مرجعيته الأساسية مثل ما تؤطر فعل وتصورات المحتجين داخل إطار تفاعلي مع الآخرين . كما تتحول الخصوصية إلى مورد من موارد التعبئة la mobilisation des ressources بفعل الاستعمالات العقلانية و الإستراتيجية.وهذا ما يطلق عليه في أدبيات سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية ب: " تعبئة الموارد " إذ يعتبر عالم الاجتماع الأمريكي McCarthy John احد أهم المنظرين لهذا المفهوم . بمعنى آخر, يتم توظيف الهوية أو الخصوصية الصحراوية كمورد من موارد التعبئة في ظروف وسياقات مختلفة. وتعد أحداث العيون سنة 1999أحسن مثال للتوظيف المطاطي لهذا المورد والذي نتج عنه إدماج بنيات قبلية كانت في السابق موضوع تهميش مزدوج بفعل الشك الذي يحوم حول مواقفها السياسية ومكانتها التاريخية داخل منطقة النزاع. إن هذا الوضع بالذات الذي اسميه كذلك بالعصبية الاحتجاجية أي التعبئة بين كل أطياف أبناء القبائل الصحراوية في زمن الاحتجاجات هو ما يفسر نوعيا الطبيعة الانقسامية للمجتمع الصحراوي حيث تتحدد فيه العلاقة مع الأخر ضمن عمليات تجاذب وتنافر تضيق وتتسع فيه حلقات التواصل حسب المعطيات الظرفية ونوعية الخطر الذي يهدد الأنا الجمعية وهنا نقصد الأنا الصحراوية. ويلعب الشباب دورا هاما في تأطير وتنظيم العملية الاحتجاجية بالمناطق الصحراوية نظرا لحجمهم الديموغرافي و الذي يشكل أكثر من نصف الساكنة حسب إحصائيات المندوبية السامية لتخطيط سنتي 2006 و 2007 . ولقد جاءت أحداث اكديم ايزيك لتبين مدى درجة التجدر الاجتماعي للعصبية الاحتجاجية , لكن هذا المعطى لا يجب أن يمنعنا من الإشارة إلى أن هذه العصبية تخفي في طياتها الكثير من التناقضات التي تعوق التواصل الاجتماعي. فهذا الأخير يتغذى من نزعة قبلية يعبر عنها سلوك الفاعلين المرتبط بتغليب الولاء للمجموعة القبلية أو الهوية القبلية. وفي هذا السياق لا يمكن فصل هذه النزعة عن التعصب، الذي يعرفه محمد عابد الجابري في كتابه العصبية والدولة ب: " شعور الفرد بأنه جزء لا يتجزأ من العصبية التي ينتمي اليها بل يسكنه استعداد دائم يدفعه إلى تجسيم هذا الانتماء للعصبية لفنائه كليا ,إن الفرد في هذه الحالة يفقد شخصيته بل فرديته ويتقمص شخصية العصبة .ولكن هذا الشعور لا يبدو واضحا , ولا يصبح شعورا فاعلا إلا إذا كان هناك خطر خارجي يهدد وجود العصبة أو ينال من كيانها المادي والمعنوي" . هذا فيما يتعلق بالنزعة القبلية أما فيما يخص العصبية الاحتجاجية فتتقاطع فيها التصورات بشكل مختلف وتتصادم الأهداف بشكل يوحي على تعدد المعاني المضفاة على العمل الاحتجاجي. فهناك فئات من المحتجين تتبنى بشكل قاطع وعبر قناعة إيديولوجية فكر البوليساريو وآخرون يتبنون هذا الفكر كمجرد رد فعل ضد التهميش الاجتماعي، في حين تتميز أطراف أخرى من المحتجين بارتباطها بفكرة رد الاعتبار للمنطقة والقبيلة .الأمر الذي يحتم على الباحث في موضوع الاحتجاجات بالمناطق الصحراوية توخي الحذر والدقة في تفسير دلالات ومرجعيات العمل الاحتجاجي حتى لا يسقط في فخ المعنى الأحادي للظاهرة الاحتجاجية. للتعمق أكثر في طريقة ارتباط المحتج بفكر البوليساريو يتطلب الأمر هنا استحضار المعطى التاريخي للقبائل ومعطى الانتقال الديموغرافي حيث نرى أن غالبية الشباب بهذه المناطق تركز في اختلافها عن الأخر على هذا الفكر وذلك للاعتقاد في وظيفته التحسيسية والتعبوية في فترة الاحتجاج، وفي نفس الوقت لإثارة انتباه الرأي العام وإرغام السلطات العمومية على الاعتراف بالفاعل الاحتجاجي كطرف أساسي في المعادلة الصحراوية زيادة على ذلك تبني فكر البوليساريو يؤشر على طبيعة القطيعة الابستمولوجية مع مواقف الآباء المتميزة بالحساسية من ما هو سياسي . .2 متغير السياسات العمومية يعتبر هذا المتغير من أهم الميكانيزمات المفسرة للظاهرة الاحتجاجية بالمناطق الصحراوية، فالعمل الاحتجاجي هو بمثابة نتاج لتراكمات عرفها تسيير الشأن المحلي ,حيث ساهمت صناعة السياسات العامة بالمناطق الصحراوية منذ السبعينات في اغتناء الغني وإفقار الفقير، فبالرجوع إلى المعطيات الميدانية نرى أن المستفيد الأكبر من الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية هم أعيان القبائل والمنتخبون الذين في غالبيتهم تحركهم رغبة خدمة مصالحهم الشخصية دون الاكتراث بالمشاكل التي تهم المنطقة أو الساكنة . يتصرف هؤلاء الأعيان والمنتخبون في الشأن المحلي وفق مفهوم نيوباتريمونيالي للسياسة العامة وكأن الأمر يتعلق بضيعاتهم الخاصة وذلك لأن غياب المحاسبة والشفافية واحتماءهم بأشخاص نافذين في السلطة المركزية شجع بروز فكر انتهازي ساهم بشكل عكسي في أحداث قطيعة مزدوجة بين الدولة والمجتمع ثم بين الأعيان والشباب. وخير دليل على ذلك هو أحداث اكديم ايزيك التي أظهرت للعيان الفجوة الحاصلة بين الأعيان و الشباب وعدم قدرة الدولة على استبعاد المقاربة الأمنية في التعاطي مع مطالب الشباب الاقتصادية والاجتماعية. هذه العلاقة الجدلية بين الفعل الاحتجاجي و السياسات العامة تجد تفسيرا لها في الآليات المخزنية المعتمدة، التي تفضل طرق عمودية للاد ماج مرتكزة على سياسة الريع. .3 الكوجيطو الصحراوي : أنا احتج أنا موجود قبل البدء في عملية تفكيك مكونات الكوجيطو الصحراوي، أود الإشارة إلى أن دراسة المجتمع الصحراوي تتطلب تسليط الضوء على القبيلة باعتبارها مؤسسة اجتماعية شاملة تؤطر الأفراد المنتمين إليها وتغذي سلوكا تهم بمجموعة من القيم يمكن ملامستها من خلال المحددات السيميولوجية للتواصل الاجتماعي بهذه المنطقة . فعلى مستوى التحليل التاريخي لا يمكن الإشارة إلى العمل الاحتجاجي بالمناطق الصحراوية دون استحضار البنيات القبلية القائمة و التجدر القبلي للعمل الاحتجاجي. و كذلك دون أن نغفل التغيرات الاجتماعية التي عرفها المجتمع الصحراوي والناتجة عن ارتفاع نسبة التمدن. بحيث أصبح معنى الهوية أو الخصوصية يتجاوز ما هو تراثي إلى ما هو احتجاجي مما افرز هوية فرعية، ويتعلق الأمر هنا بالهوية الاحتجاجية التي تربط بين الوجودية والاحتجاج كما تؤسس لما يسميهN .SMILSER في كتابه Theory of collective behaviour ب: السلوك الجماعي (comportement collectif) الذي يميز العمل الاحتجاجي في المناطق الصحراوية ويساهم في إنتاج هوية صحراوية فرعية من طرف الشباب المحتج. الشئ الذي يدفعنا إلى التأكيد إلى أهمية المفهوم العلائقي relationnel للهوية ،حيث تبلور هذه الأخيرة داخل إطارات إجتماعية تحدد وضعية الفاعلين وتوجه في نفس الوقت تمثلاتهم الذهنية . ارتباطا بهذا المفهوم نجد بأن الهوية المنصهرة ضمن إطار احتجاجي لها ارتباط تكاملي بالوضعية الاجتماعية و السيكولوجية للفاعل الاحتجاجي. فهذا الأخير يسكنه إحساس بالتهميش وبحث متواصل عن الوسائل المادية والرمزية للتعبير عنه لأنه وحسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي Alain Touraine يوجد داخل فراغ اجتماعي ناتج عن أزمة البنيات القبلية في التأطير وكذلك أزمة الدولة الاجتماعية . كل هذه المعطيات ساهمت في إضفاء طابع راديكالي على العمل الاحتجاجي وولادة مفهوم نضالي للهوية أو الخصوصية الصحراوية، أي ما يسميه علماء الاجتماع بالهوية النضالية identité militante والتي تتميز بجعل كل ما هو متعلق بالخصوصية الصحراوية يعد بمثابة قضية تحتم الدفاع عنها. وبهذا تزداد حدة التوظيف الاحتجاجي للهوية مما يجعل العلاقة مع الأخر تتحدد في إطار يتغذى من مرجعيات تتحسس من كل ما هو مغربي .فهذا المفهوم النضالي هو في غالب الأحيان نتاج لتصورات دوغمائية ومركزية ذاتية تعيق التواصل مع العالم الخارجي. في إطار هذا الموقف الدفاعي عن الذات الصحراوية تكون الحدود ضيقة بين ما هو سياسي وثقافي / اجتماعي تختلط فيها الأوراق نظرا للتوظيف العاطفي لمورد الهوية والتي كما لاحظنا تتغدى من تمثلات اجتماعية تحدد العلاقة مع الأخر .بإعتبارهذه التمثلات احد أشكال المعرفة المبلورة اجتماعيا والمساهمة في بناء ايديولوجيات اجتماعية محددة للتواصل لاضطلاعها بدور وظيفي/ هوياتي وتوجيهي يحدد كيفية تفكير مجموعة من الأفراد في موضوع معين وإنتاج أحكام قيمية توجه بدورها مسا ر التواصل الاجتماعي.