المصادقة على 216 نصا قانونيا خلال سنة 2024    الغموض يحوم حول مصير اشتراكات وتعويضات 3 ملايين منخرط سيتم ترحيلهم عنوة لنظام AMO الحكومة صادقت على نسخة معدلة تضحي بمنخرطي كنوبس مقابل إنقاذ التعاضديات من الانقراض    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    لقاء يجمع وهبي بجمعية هيئات المحامين    هولندا.. إيقاف 62 شخصا للاشتباه في ارتباطهم بشغب أحداث أمستردام    نهاية أزمة طلبة الطب والصيدلة: اتفاق شامل يلبي مطالب الطلبة ويعيدهم إلى الدراسة    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    امستردام .. مواجهات عنيفة بين إسرائيليين ومؤيدين لفلسطين (فيديو)    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        نقطة واحدة تشعل الصراع بين اتحاد يعقوب المنصور وشباب بن جرير    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"حسن أوريد: مرآة الذات المتشظية"*
نشر في لكم يوم 25 - 04 - 2011

لا يفتر الأستاذ أوريد، ومن إصدار إلى آخر في أن يجعل كتاباته جسرا ممدودا لإعادة توضيب العلاقة المشوبة بين الشرق والغرب، سواء من خلال عمله الميداني المطلع بمركز طارق بن زياد أو من خلال كتاباته في هذا المجال، إذ يحاول هذا الكاتب دائما جهده الدؤوب تقديم الشرق إلى الغرب وفي القلب منه الإسلام بصورة مغايرة أقرب إلى حقيقته منه إلى استيهامات المستشرقين في أفق تجاوز منظوري السيطرة والعداوة الذين حكما هذه العلاقة منذ تاريخ طويل، مع إرساء دعائم المشاركة والنقاش والإنصات المتبادل.
...................................................
"فهذا ما علم الله نبيه من رد الشيء
إلى شكله ونظيره وهو أصل لنا
في سائر ما نحكم به من الشبيه و النظير".
الأشعري: رسالة استحسان الخوض في علم الكلام
....................................
ويأتي كتاب "مرآة الغرب المنكسرة" الصادر سنة 2010، نموذجا لهذا العمل الطموح، ونظرا لأهمية هذا الموضوع في المرحلة التاريخية من تاريخينا المعاصر الذي نحاول من خلاله الولوج إلى روح العصر صار لزاما علينا مناقشة الأسس التي يقوم عليها خطاب التوافق هذا، محدداته، مضمراته ومعلناته.
يستهل الكاتب مقدمة إصداره بالإحالة إلى واقعة معاشة معاينة لا تقبل الجدال, وهي أن الغرب يعيش أزمة اقتصادية منذ سنة 2008. هذه الأزمة سيحاول الكاتب أن يناقش جذورها "باعتبارها تجليا لازمة أعمق تعتور العالم الغربي، ومن ثمة يطرح السؤال عن بنياته المفاهيمية" (كل الاستشهادات التي نضعها بين مزدوجتين مأخوذة من الكتاب) الأزمة الاقتصادية هي إذن منذ المقدمة أزمة مفاهيم مؤسسة (بكسر السين الأولى و فتح الثانية)، ونقول المفاهيم المؤسسة لأن الجملة الاستفهامية التي تلي هذا الاستشهاد تقول: "هل لازال الغرب يأتمر بفلسفة الأنوار التي جعلت غايتها تحرير الإنسان من كل أشكال القهر والاستغلال؟" مما يبين بجلاء أن الكاتب سيركز نقده على الفلسفة الحاضنة لبنية المفاهيم المؤسسة التي هي فلسفة الأنوار، وبالتالي سيكون الكتاب انسجاما مع هذا الإعلان، ذا منحى تفكيكي يتوسل الكشف عن أسس الأزمة الراهنة من خلال تداعيات المفاهيم الراشحة عن بنية فلسفة الأنوار. واستتباعا تصبح الأزمة الاقتصادية في الوقت الحالي عنوانا لأزمة فكرية شاملة وصلها الغرب. لذا "الم يخن الغرب نفسه؟" وهي الصيغة التي تعيدنا إلى جوهر رؤية الكاتب التي مفادها أن الأزمة الاقتصادية الراهنة هي بسبب زيغان الغرب عن مبادئ فلسفته التي هي فلسفة الأنوار وخيانته لها، إذن فالدعوة المعلنة في ثنايا هذا الخطاب السلفي ستكون في العودة إلى أصول الأنوار، التي يعتبر الاقتصاد احد تمظهراتها، وسيتكفل الكاتب بإبراز باقي جوانب الأزمة وباقي مجالات انعكاسها. وسينصب النقد بناء عليه على فلسفة الأنوار التي إما بطريقة جينيالوجية حملت في أحشاءها أسباب التردي القيمي والمفاهيمي، أو انه في سياق التاريخ تمت خيانة الأنوار وتم التخلي بالتالي عن مبادئها لصالح فلسفة أخرى وقيم أخرى مناقضة.
مشروع الكتاب إذن مبني على ما أصبح وعيا من واقع أزمة الغرب. وبما أن "الغرب ليس مفهوما جغرافيا بل حضاريا. شرائح واسعة من دول العالم الثالث تعيش حياتها وفق إيقاع الغرب ونظام عيشه... شرائح درست في مدارس الغرب، وتتأثر طرقه، وتجري حياتها على نظمه..." تصبح إذن معالجة هذا الغرب في شتى مجالاته "ليست مسالة صورية ،ولا حذلقة ذهنية لحشر الأنف في قضايا الآخرين.. فالآخر أقرب إلينا من حبل الوريد. هو جزء من "نحن" "فشرعية المعالجة للغرب تستمد موضوعيتها لدى الكاتب إلى وجود هذه الفئة التي "تجري حياتها على نظمه – أي الغرب - وتفرض تصوراتها على مجتمعاتها وهي صاحبة القرار" إذن وحسب ما يفهم من السياق فالكاتب يجيب على مشاغل وأسئلة هذه الفئة الحاكمة المرتبطة بالغرب ليبدد بعضا من مخاوفها وقلقها، بسبب ما ينيخه هذا الظل الكثيف للازمة على توجهاتها الفكرية ومصالحها المادية وذلك "ببذله لمادة قلما تتاح لقارئ العربية" كما يقول. ونحن نوصي القارئ أن يدخل هذا القول في باب الدعاية لان جميع المادة بالكتاب مبتذلة ومكرورة.
كل قراءة نقدية لدى الكاتب للغرب هي في الأصل قراءة في فلسفة الأنوار، وكل عودة إلى الأنوار هو في العمق عودة إلى أصولها الحضارية، مادام الغرب واقعا حضاريا حسب الكاتب، فهو إذن وحدة مبنينة، لها أصل واحد، أس مانع، وقعر جامع، قد تختلف الفروع والتفاصيل لكن الجوهر واحد، وجوهر الحضارة الغربية هو المسيحية. سيدلل الكاتب على قوله هذا بما أوتي من كلام ليخلص إلى أن حضارة الغرب نجحت لحدود الآن، وقبل أن تستفحل الأزمة الراهنة، لأنها بقيت مسيحية. فرغم ما يتبادر إلى الذهن من كون فلسفة الأنوار تبدت وكأنها ثورة على الدين، فإنها في رأي الكاتب تبنت كثيرا من قيمه ومنهجيته "فللإنسان كرامة مطلقة كما تقول الأديان التوحيدية وللمواطن حقوق والناس يولدون أحرارا كما كتب روسو في عقده الاجتماعي وكما سطره إعلان حقوق الإنسان والمواطن" ولكي يدلل على ما يقول أكثر، ينهي الجملة التي تلي هذا القول بنفس اللازمة التي هي "الإنسان و المواطن" كأننا أمام خلاصة متشابهة وواقع الأمر نحن أمام حشو لغوي متشابه فيقول: "وكما أن التراث اليهودي – المسيحي على الأقل في بعده المسيحي ذو نزوع كوني فكذلك الشأن بالنسبة لحقوق الإنسان والمواطن". ويؤكد في موضع آخر أنه "لا يمكن أن ألا نرى وشائج بين الوصايا العشر وبين إعلان حقوق الإنسان والمواطن" كل ما أنتج الغرب من قيم، كل القيم لم تكن إلا صدى للأصل باعتباره جوهرا مفارقا للزمان بحيث يحضر في الزمان و لا يحضر الزمان فيه" لقد قام الغرب على عمق ديني رغم مرجعيته العلمانية" وبذلك يصير كل إنتاج الأنوار ليس إلا نتاج لفلسفة دينية تحتاج الى حفار جينيالوجي ليصل إلى عمقها الديني، الذي لا بد وان يتمظهر في الدولة باعتبارها جماع الفعل الانساني حيث يقول الكاتب وفي مكان آخر من الكتاب: "ونصب عرابو الأنوار بناء كنسيا علمانيا على غرار الكنيسة هو الدولة. تتأثر الدولة في التجربة الفرنسية بكيان الكنيسة. تأخذ عنها بنيتها و مفاهيمها وتراتبيتها بل ومصطلحاتها" إذن الدولة في الغرب هي دولة دينية برداء علماني. ومن هنا يصبح الغرب، في صوره المتعددة وحضوره المختلف دائما مسيحيا. هذه الرؤية البسيطة المبنية على فهم عضواني للتاريخ، قائمة على البحث عن أصول أولى مستمرة أسطورية في فعلها واستمرارها، ورؤية الأصول كأحداث أبوية الأثر ذات مرجعية ثابتة، لا تصمد أمام الوقائع التاريخية، فأمام بداهة كون النهضة أحيت الفلسفة الإغريقية الأصيلة التي لا صلة لها بالمسيحية، ونقول الأصيلة لكون الفلسفة اليونانية تأثرت فيما بعد وبسبب فتوحات الاسكندر المقدوني بالأفلاطونية المحدثة بمدرسة الإسكندرية التي تأثرت بدورها بالتوفيقات الغنوصية للديانة اليهودية والمسيحية والمنطق اليوناني للمدرسة الحورانية المشرقية بسوريا، كما ان النهضة على مستوى التشريع احيت القانون الروماني، فان الكاتب يرد بان " الفلسفة اليونانية لم تمح عالم الأسطورة التي ظلت تتعايش مع العقل وأصبحت خادمة له عوض ان تكون سيدة ..." ويضيف قائلا: "من الضروري ان نذكر بذلك ، لان التعايش هو ما يميز الحضارة الغربية حتى عهود قريبة" اذن فالجانب الخرافي في كل الإنتاج الأدبي الإغريقي بقي حاضنا لمناطق اللاعقل، وبالضرورة فان عملية الإحياء في عصر النهضة كانت إحياء للتراث اليوناني شمولا بما فيه الأسطورة و الخرافة التي بقيت قلاعا ومناطق دفاع حصينة للإيمان والاعتقاد و التدين و استمرار قيمه، مما أعطى مجالا حيويا لتسرب المسيحية من جديد و بطرق مختلفة، إلا أن ما يثير الانتباه, وإعمالا لمنطق لكل مقام مقال عند الكاتب، نجده عندما ينتقل للحديث في نفس الكتاب عن الديمقراطية حينها يمكنكم أن تقرؤوا هذا القول ولا بد من القول أن غرابة هذا الكاتب تبدو في كثرة مصادرته على أقواله فهو قد يقول الشيء و نقيضه دون أدنى حرج علمي : "حينما أخذت أوروبا تنعتق من إسار العصور الوسطى ووصاية الكنيسة وهيمنة الإقطاعيين والأسياد وترتبط بالتراث الإغريقي والروماني. كان مما أخذت تحييه ديمقراطية اليونان في مواجهة ملوك مستبدين يحكمون باسم الحق الإلهي" المهم لدى الكاتب هو القول ولا شيء غير القول مادام الجمهور الذي كتب الكتاب لأجله يحب الغرب بديمقراطيته و الدين بطمئنينته فلا عجب والحال هذه أن يأتي الكتاب متشابكا دون عقل ناظم يبرز بالفعل حيرة هذه الشريحة الاجتماعية ونزوعاتها المتناقضة.
تقضي عملية لم التشتت الذي يبديه الواقع بفعل انعكاساته المضللة للجوهر، إلى إعادة ربط الظاهر بجوهره، ضرورة إعادة الظاهر إلى مضانه ضمن حقيقة حضوره في التاريخ على اعتباره جوهرا موجودا ضمن أعراضه في انسيابات الزمن وما الزمن في حقيقته إلا مضارعة دائمة واستحضار متجدد، وإن تحت أشكال مختلفة لهذا الثابت الجوهري المسيحي. فلا فرق بذلك بين النظم الغربية لان أصلها واحد ثابت، هكذا تحضر الشيوعية في الكتاب بما أنها فكرة غربية فلا بد أن تكون بدورها مسيحية لنقرا هذا القول: "الشيوعية في كثير من الأنحاء مسيحية جديدة بكهنوتها ومندوبو الشعب، بدغمائيتها : الجدلية التاريخية بخلاصها: انتفاء الدولة، بشراحها، وشراح الشراح، كما في أدبيات الكنيسة"، هذا التنميط البسيط الذي لا نجده حتى في مدارس المُلا، لا يمكن أن يصدر عن عاقل، وأتساءل صادقا: هل أنت جاد يا حسن فيما تقول؟ ألا زلت تحتفظ برؤية إلى التاريخ نبتت جذورها في إشكالية النهضة، وتم تكرار صداها لدى الحركات الظلامية المعاصرة، إشكالية وليدة صراعات نهاية القرن الماضي تقوم في أساسها على رؤية علاقة قائمة بين ماض مستمر بحاضر مغاير له في ظروفه الخارجية، علاقة جواني ببراني مطلق، علاقة بين ذات ومحيط هذا الذات المنفصل عنها بمفارقة مطلقة، لهذا التحديد إلغاء للفاعليات المعينة للمجتمع و للتناقضات التي تحكمه لصالح نظام عمودي صارم المرجعية.
لكن ما يحسب لصالح الكاتب هو هذه الجرأة في قراءة تاريخ الآخر انطلاقا من مسلماتنا الفكرية البائدة. فإذا كانت البداهة البسيطة التي تتسم بها المقالة النهضوية – تقتضي وجود أمور ماضية في الحاضر، بداهة تعمل على الإيهام بالحقيقة المتأتية عن صحة المشاهدة المباشرة في واقعنا، فان استحالتها في الغرب دفع الكاتب الى القول بوجودها مضمرة في خطاب آخر وبصيغ مختلفة فأسعفته المقارنات الساذجة للدولة والكنيسة إلى الصراخ بظهور الحق وزهقان الباطل. نتائج هذه المتشابهات التي خلص إليها الكاتب بين الأنوار والشيوعية والمسيحية ستتحول إلى نمط تفسيري عنده ستساعده في إعادة توضيب تاريخ أوروبا الحديث، حيث يتحول العداء بين النازية وباقي الأنظمة السياسية بأوروبا إلى صراع بين سدنة المسيحية ومعادييها لهذا يرى الكاتب أن النازية قد "أدركت هذا الترابط بين الشيوعية والمسيحية ولذلك كانت تريد بديلا عن كل هذا التراث اليهودي المسيحي" وعلى المؤرخين إعادة النظر في كل تحليلاتهم لصعود النازية ولأسباب الحرب العالمية الثانية لأنه تم دائما تغييب عامل الصراع بين المسيحية وبين المعادين لها في دراسة أسباب هذه الحرب حيث يقول الكاتب في هذا الصدد: "فإذا كانت النازية تمج المسيحية فمن البديهي أن تمج هذه الصورة المنقحة لها والفتية ألا وهي الشيوعية". يبقى لنا الآن أن نعرف لم عادت النازية اليهودية كذلك. إجابة على هذا السؤال يطرح الكاتب منطقا غريبا فبحسب الكاتب يأتي عداء النازية لليهود لأن "النازية كانت تكره تقديس الرأسمالية للمال. لقد كانت تريد أن تبني مجتمعا من الأبطال... على خلاف مجتمع التجار " الذي في نظرها - وحسب الكاتب دائما - يدعو إلى الخمول و"يأنف من البطولة والتضحية نموذج يحركه المال. أليست عقيدة اليهودي هي المال؟"، لنعيد توضيح هذا المنطق نتيجة هذا الكلام هو: النازية تكره المال . اليهود يحبون المال. النازية تكره اليهود.. يا سلام يا حسن على المنطق. وحب اليهود للمال قاله "يهودي نأى عن مرجعيته اليهودية كارل ماركس" وهنا لابد من فتح قوس طبعا للإحالة إلى طريقة في الحديث عن كارل ماركس تتقنها فئة من المتأسلمة من مروجي كتب الرصيف. فحسب معرفتنا لماركس فإنه لم يكن يوما يهوديا حتى ينأى عن مرجعيته اليهودية، وهذا يعرفه جيدا صاحب الكتاب، إلا إذا كان ابيقور يهوديا وهيغل يهوديا اليسار الهيغيلي وفيورباخ يهوديا كذلك. لكن ترديد هذه النغمة البعيدة عن المعرفة والملهبة لاستمناءات المتدينين الفكرية لها لذتها فطوبى. لكن جهل الكاتب للماركسية يبدو كبيرا فعندما يقوم الكاتب بشرح وجهة نظر بيغي شارل، يقول "يحلل ماركس الرأسمال، وينتقد استغلال الطبقة العاملة والقصة معروفة. أما بيغي فينتقد المال، ويعتبره المسؤول عن استيلاب العلاقات الإنسانية كلها"، أين الجديد الذي يقوله بيغي حين يعتبر أن المال هو المسؤول عن الاستلاب، أية إضافة يأتينا بها بيغي ويتباهى بها اوريد؟ كأنه بصدد طرح تصور جديد لإشكالية المعادل العام للقيم الذي هو المال، وكان بيغي عندما قال إنه عوض "أن يبقى المال وسيلة أصبح غاية" فقد احدث ثورة في الاقتصاد السياسي، ونحن نعرف أن المبتدئ في علم الاقتصاد السياسي يعرف أن دورة الرأسمال هي، نقد -بضاعة -نقد، أي أن دورة الإنتاج الرأسمالي تبتدئ بالمال لتخلص إلى المال و الشيء الوحيد الذي يتغير بالعملية هو أن المال الذي انطلقنا منه في البداية يكون مغايرا للمال الذي نصل إليه في النهاية لذا رمز ماركس إلى نون الثانية في الدورة الإنتاجية ب)ن‘( ليشير إلى أنها ليست نفس النون التي انطلقنا منها َبسبب عامل فائض القيمة المضافة، وهذا ما يميزها عن الدورات القديمة التي كانت، بضاعة- نقد – بضاعة على اعتبار أن قيمة البضاعة الاستهلاكية كانت في مركز العملية الإنتاجية وليس قيمتها التبادلية. وحتى البضاعة التي هي مركز الاستيلاب في التحليل الماركسي هي في حقيقة الأمر قيمة تبادلية، وفعلها الاستيلابي لا ينتج عن اعتبارها تكدسا للقيم التي تتحكم فيها كمية الوقت اللازم لإنتاجها. بل استيلابية البضاعة تعود لشروط إنتاجها، والمال في آخر المطاف ما هو إلا قيمة مجردة تقاس بها باقي القيم التي هي البضائع في عالم الرأسمال. وحتى إذا اعتبرنا أن الكاتب لم يطلع على كتاب ماركس الرأسمال وكتب نقد الاقتصاد السياسي الأخرى، فبالأحرى أن يطلع على الأقل على الجانب الفلسفي للماركسية وعن تاريخ طويل من السجال الفكري حول الماركسية، فنجده مثلا يقول إن بعد سقوط جدار برلين "أغلق قوس الشيوعية الطويل، وهبت نسائم ربيع الحرية والمساواة والإخاء. العالم سيصبح بلا حروب مثلما تنبأ بذلك شارح هيغل الكبير الكسندر كوجيف".
نفهم من هذا الكلام ان كوجيف تنبا بما سيقع، ولم أعرف على طول قراءة هذا الفيلسوف من أين أتى بهذه النبوءة، وأين قالها وهو الرجل الذي أفنى حياته في شرح هيغل فمنذ 1933 والرجل يلقي دروسه بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا وفكرته المحورية في جميع دروسه هو تلك الإمكانية في التقارب الممكن إقامتها بين هيغل وماركس، ومن يطلع على كتابات الرجل خصوصا كتابه المدخل لقراءة هيغل سيجد أن كوجيف كان شارحا لا أكثر، وجميع محاضراته انصبت لتحليل الفكرة المحورية لهيغل وهي "الاعتراف" التي رأى من خلالها إمكانية أحداث تقارب بين ماركس وهيغل عبر أداة مشتركة إشكاليا لدى الرجلين وهي الدولة الشاملة التي تشبع هذه الرغبة إشباعا كاملا. أما منطق التنبؤ هذا فلم نجده عنده، بل العكس، فعندما دشن ليو ستراوس النقاش حول الطغيان بنقله مناقشة هيرون، طاغية سيراقوس وسيموند الشاعر كان موقف كوجيف يقول برغم إن الطغيان نظاما لا شعبيا لا يعني أبدا التخلي عنه مطلقا، ويستدل بنابليون وسالزار وستالين والرجل أدرى بنظام ستالين لاعتبار أصوله الروسية. وسيلاحظ الكثير من قرؤوا هذا الكتاب قدرة هذا الكاتب على الانتقال دون قيد في القول، وبطغيان للمتن اللغوي وغياب تام للمعنى.
ما هي النتيجة التي نصل إليها مع الكاتب، أن أزمة الغرب الراهنة سببها واحد وحيد هو تخليه عن أصوله المسيحية، والغرب تخلى عن مسيحيته في مسار الرأسمالية الحالية فوصل إلى ما وصل إليه من أزمات، ذلك بسبب " تتبع لسراديب العقل الغربي فيما يشكل جموحا بائنا وزيغا سافرا: في لهاثه وراء المادة، في تقديسه للنزوع العلمي أو العلموية، في جريه وراء اللذة في عبادته للصورة، في داء النسيان أو الامينيزيا التي أصابته وأنسته قيمه"، هذه "المادة والجنس والعنف... وهي ميادين كان الدين فيما سلف يتحكم فيها و يضبطها"، فما العمل إذن؟ تماشيا مع منطق الطرح الذي دافع عنه الكاتب منذ البداية فإن المخرج من المأزق الراهن يكمن في العودة إلى ينابيع المسيحية الحقة، وهذا ما يستنتجه القارئ في سياق تقدمه في قراءة الكتاب بمنطق الاتساق، إلا أن الاتساق هو آخر ما يطلبه الكاتب، فالكتابة الفكرية عند حسن أوريد في كتابه هذا "مرآة الغرب المنكسرة" شبيهة إلى حد بعيد بشطحات بطل رواية "قلب الليل" لنجيب محفوظ، ففي الوقت الذي كنا ننتظر أن تكون نهاية الكتاب تلمسا لعناصر الجواب للإشكال المطروح منذ المقدمة، انقلب الكتاب إلى تصور آخر بعيد كل البعد عن كل ما عالجه في كتابه، حيث ينتقل الكاتب إلى معالجة تمظهرات الأزمة الاقتصادية الراهنة على صورة الإسلام والمسلمين وهو الموضوع الذي نعتقد في البداية أنه عولج سهوا في الكتاب دون مصوغات وتدبيج يقدم له، ودون أن يكون ضمن المواضيع المعالجة على طول الكتاب، فمن أصل 180 صفحة يعالج فيها الكتابة مظاهر أزمة الغرب الراهنة من خلال ابتعاده عن القيم المسيحية الغائبة سطحا والحاضرة عمقا في جميع إنتاج الغرب الفكري والسياسي والفلسفي، يأتي الفصل الأخير في 10 صفحات غريبا، يعالج في البداية صورة السلام الراهن لدى الغرب لينتقلب عن طريق كلام موارب إلى تقديم الإسلام كبديل روحي قادم إلى الغرب من خلال موجات "شرائح واسعة انتهت إلى الإسلام من الأرض الصلبة للحداثة" وهؤلاء هم من سيحمل مشعل الإسلام غدا وهم مرآة الغرب الصافية "التي ستمكن الغرب من رؤية صورته صافية نظرا لكون الإسلام يريد أن يكسب مع الغرب معركة الحفاظ على إنسية الإنسان" والغرب لم يعد قادرا على أن يتقدم بأي حل في الأفق فقد كان له ما يقدمه للإنسانية وذلك "عندما ارتبط بأنواره" وفي هذه الحالة يصبح الإسلام هو الحل بالنسبة للغرب. لست ادري لِم يحط أوريد من قيمة المسيحية في قدرتها على إعادة تثوير مضامينها للإجابة عن أزمات العصر الروحية المعاصرة ويعطي هذه الإمكانية للإسلام. فالكاتب يرى جازما أن للإسلام "ما يقدمه للجم جموح المادة والشهوة وإغراء الصورة واستغلال الرأسمال "إن تحالف الإسلام و الغرب لحل أزمة الرأسمالية الحديثة لا يمكن أن يتم إلا من خلال تبني الغرب للإسلام.
إن الرأسمالية الراهنة بابتعادها عن المسيحية القابعة في ثنايا الأنوار قد وصلت إلى مرحلة الأزمة، فلم يبق إلا الإسلام الذي وحده بإمكانه أن يشكل الجانب الإيديولوجي الروحي المناسب للغرب. هذه النهاية التبشيرية للكتاب نعرف أنها سفافة فكرية إذا ما اعتقدنا أن الكلام موجه إلى الغرب. لكن هذا المنطق يصبح ذا معنى إذا عدنا إلى الجمهور الذي يستهدفه الكتاب، الجمهور المعني بالأزمة الراهنة للرأسمالية والذين ذكرهم الكاتب في البداية، هؤلاء الذين " تجري حياتها على نظمه – أي الغرب - وتفرض تصوراتها على مجتمعاتها وهي صاحبة القرار" فهؤلاء وحدهم عليهم أن يطمئنوا أن أزمة الرأسمالية لا تكمن في هذا الشكل من الإنتاج، فأزمة الإنتاج الرأسمالي الراهن مصدرها من خارجه، أزمته في وضع قائم مغاير عن ميدان الإنتاج والمال والمعاملات.
إن هذا الانحياز الإيديولوجي الفج للكاتب للقائمين على الأمور يجعله يحيل أسباب الأزمة إلى حيث تتمظهر نتائجها، في ميدان مجال إنتاج القيم المصاحبة، وما يتوجب تغييره للخروج من الأزمة الراهنة ليس هذا النمط من الإنتاج، الذي أصبح معيقا لتقدم البشرية، حسب ما نفهمه من سياق الكتاب قبل أن تنقلب لدى المؤلف الأسباب نتائج والنتائج أسباب بتمرينات لغوية شكلية، بل ما يجب تغييره هو منظومة الأخلاق المصاحبة له، عن طريق ترك كل الإنتاج الفوقي الذي أنتجته المسيحية، واستبدالها بمنظومة قيمنا الدينية الخاصة بنا والتي لازالت لها طراوتها و جبلتها مستمدة من الإسلام الذي بإمكانه القيام بهذا الدور. والخلاصة التي نحصل عليها هي, ليعيش الرأسمال و يستمر و يخرج من أزمته الراهنة عليه أن يعتنق منظومة القيم الإسلامية. وانتهي مرة أخرى بسؤالك: هل أنت جاد يا حسن فيما تقول؟.
* قراءة نقدية في كتاب "مرآة الغرب المنكسرة"
---
تعليق الصورة: حسن أوريد وعزيز قنجاع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.