جنيف: محمد مصطفى حابس 08 مارس, 2016 - 01:24:00 غيّب الموت السبت 5 مارس 2016، الزعيم الروحي للإسلاميين في السودان، رئيس حزب «المؤتمر الشعبي» حسن الترابي (84 سنة)، إثر إصابته بذبحة قلبية توفي على أثرها في مستشفى «رويال كير» في الخرطوم حسب آخر الاخبار، طاوياً بذلك مسيرةً سياسية وفكرية وعلمية حافلة امتدت نحو52 عاماً لواحد من أبرز وجوه السياسة والفكر والدين ليس فقط في بلده السودان وحتى العالم العربي بل في العالم أجمع، لا لشيء إلا لأنه مازج بين علم الدين في بلده وعلم الدنيا في الغرب، درس الترابي الحقوق في جامعة الخرطوم، ثم حصل على الإجازة في جامعة أكسفورد البريطانية في عام 1957، وعلى دكتوراه الدولة من جامعة السوربون الفرنسية. عمر حافل بالنشاط و الاجتهاد و العطاء انضم الترابي الذي يتقن الفرنسية والإنكليزية والألمانية، إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وأصبح من زعمائها في السودان سنة 1969، لكنه انفصل عنها فيما بعد واتخذ سبيلاً مستقلاً وظل الشيخ الترابي حاضراً ومؤثراً- ببسمته المعهودة - في الحياة السياسية السودانية منذ دخوله معتركها في عام 1964، وتقلب بين المعارضة والمشاركة في السلطة. وصعد بالإسلاميين من تنظيم صغير إلى حزب سياسي كبير، حاز ثالث أكبر كتلة في البرلمان في آخر انتخابات اشتراعية أجريت في العهد الديموقراطي العام 1986، التي حصل على الغالبية فيها صهره زعيم حزب الأمة المعارض الصادق المهدي ودبّر الشيخ الترابي و جماعته رفقة آخرين ما عرف بالانقلاب العسكري الذي حمل الرئيس عمر البشير إلى السلطة في عام 1989 وظل العقل المفكر للنظام الحاكم خلال الأعوام ال10 الأولى من عمره، قبل أن ينفصل عنه، ويصبح معارضاً شرساً أمضى سنوات طوال في المعتقل، ثم قبل الدعوة إلى الجلوس لطاولة "الحوار الوطني" التي اختتمت أعمالها في الخرطوم أخيراً بعد 5 أشهر من المحادثات في ظل غياب بعض أحزاب المعارضة السياسية والمسلحة منبر للقضايا الإسلامية تتلاقى فيه عشرات التنظيمات في العالم وأسس الترابي في عام 1991 حزب «المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي»، ليشكل منبراً للقضايا الإسلامية تتلاقى فيه عشرات التنظيمات في العالم، واختير أميناً عاماً له وانتُخب في عام 1996 رئيساً للبرلمان السوداني، كما اختير أميناً عاماً لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، وأنشأ بعد مغادرته الحكم إثر خلاف مع البشير في عام 1999، حزب المؤتمر الشعبي» وأصبح زعيمه سياسي محنك بارع أم براغماتي يحب الاستحواذ على السلطة شارك ضمن تحالف «الجبهة الوطنية» المعارض ضد نظام الرئيس السابق جعفر النميري، قبل أن يتصالح معه ويصبح وزيراً للعدل في عام 1981 فمستشاراً لرئيس الدولة للشؤون الخارجية في عام 1983، وصار في ال1988 نائباً لرئيس الوزراء الصادق المهدي ووزيراً للخارجية في حكومته الائتلافية، وعلى مدار السنوات ال15 الأخيرة اعتقل جهاز الأمن السوداني الشيخ الترابي أكثر من مرة ولعدة أشهر، تحت دعاوى مختلفة منها التخطيط لانقلاب عسكري أثيرت في السنوات الخيرة وتُثار لحد الساعة أقوال مختلفة حول بعض أفكار و فتاوى الشيخ الترابي، فيرى فيه أنصاره سياسياً محنكاً بارعاً في تحريك الإعلام وخطيباً مؤثراً وداعية ومفكراً إسلامياً بارعا، في حين يراه خصومه شخصاً له طموح لا يحد وخبرة في البراغماتية والتعلق بالسلطة، كما يحلو لبعض المحللين وصفه. الخطأ السياسي الفادح وتسليم " كارلوس" لفرنسا وإن جاز لي أن أميط اللثام عن حادثة في عمر المرحوم إنصافا للحق، أنه مما كان يعاب على حكومة الإنقاذ في أزهى أيامها هو الذي كان المنظر الأساسي لسياستها الخارجية، و تحديدا في منتصف شهر أوت 2006 ، الخطأ السياسي الفادح في تسليم " كارلوس" للعدالة الفرنسية دون محاكمة محلية - وكارلوس لا يزال يقبع في السجون الفرنسية إلى يوم الناس هذا-، و نقل لي أحد مقربي الشيخ ترابي أن الشيخ كان معارضا لطريقة التسليم بهذه الطريقة المشينة لحومة السودان ، كما كان أيضا معارضا لطريقة الاعتقال الفولكلورية لكارلوس المقيم حينها شبه رسمي في العاصمة الخرطوم، وقال الترابي يومها "على عدالة حكومة السودان أن تكون منصفة مع الضيف كارلوس أو غيره، وليترك الوقت للعدالة السودانية تجري مجراها وبعدها نرى"، وقد عارض الشيخ ترابي معارضة شرسة ضد تسليم كارلوس المعتنق للإسلام بهذه السرعة إلى فرنسا، مما جعل شارل باسكوا وزير داخلية فرنسا حينها يتعجب ويقول مستغربا :" حكومة السودان المسلمة تسلمنا الإرهابي كارلوس المسلم دون عناء، وهو أمر غريب في عرف العرب؟" فتاواه في استخدام مصطلح القياس الواسع، و زواج " البوي فراند" من جهتي تعرفت كباقي شباب جيلي على الشيخ ترابي من خلال كتبه التنويرية التغييرية الأولى في ثمانينات القرن الماضي، وتتلمذنا على بعض كتبه، وكذا أثناء حضوره المميز في ملتقيات التعريف بالفكر الإسلامي التي كانت تنظمها وزارة الشؤون الدينية.. أما في الفترة الأخيرة من عمره، فقد صوبت له سهام تتهم المرحوم الترابي بإصدار فتاوى تخرج عن السياق العام للفتاوى الإسلامية، وتتعلق بمسائل في أبواب العقيدة أحيانا، واستثمار نظرية المصلحة، واستخدام مصطلح القياس الواسع.. و مما يذكره العبد لله في نهاية الثمانينيات، أن كوكبة من الطلبة استضافت الشيخ حسن ترابي في جامعتي الخروبة و بوزريعة بالعاصمة الجزائرية، حينها أفتى للطلبة بفتواه المعروفة بزواج " البوي فراند" ، أي رخص من خلالها للشاب أن يتزوج مع زميلته الطالبة، على أن يعيشا سويا بعقد شرعي، دون تكاليف الأولياء بمصاريف البيت و الأثاث حتى التخرج ثم العمل، وقد فتح الباب دون قيود على حد تعبير أحد المشايخ على حريات لم تستسغه بعد ثقافتنا الشرقية .. فثار بعض الأساتذة ضد هذه الفتوى، وفيهم من أجاز ذلك قائلا، أنه يمكن أن تكون لهذه الزيجة فوائد كما يمكن أن تكون مدمرة للأسر خاصة لمستقبل البنات من طرائفه في "مؤتمر الاقتصاد الإسلامي الأول" بالجزائر وأذكر أيضا لما حضرت وبعض الزملاء في أشغال " مؤتمر الاقتصاد الإسلامي الأول" بنزل الأوراسي بالجزائر العاصمة فب بداية التسعينات، مع حضور شخصيات دينية وعليمة مرموقة منهم الشيخ ترابي والغنوشي والقرضاوي و الشيخ زكي يماني و الشيخ صالح كامل صاحب قناة اقرأ، و كان ينشط الجلسة يومها الهاشمي الحامدي التونسي صاحب مجلة ثم قناة المستقلة اللندنية، ولاحظ الجميع أن الشيخ ترابي والغنوشي وهما في المنصة يتجاذبان أطراف الحديث ويضحكون، دون اكتراث بسير أشغال الندوة، خاصة لما بدأت الطالبة يومها " أسماء بن قادة( طليقة الشيخ القرضاوي)" تقرأ كلمتها و تتعثر، وهي المرأة الوحيدة في المنصة مع علماء وكتاب من طراز عال في سن والدها أو جدها.. بعدها طلبنا من الشيخ الغنوشي لماذا كنتم تضحكون أنتم والشيخ ترابي في الجلسة الصباحية، فقال مازحا الأمر يتطلب محاضرة، و ما عليكم إلا استضافة الشيخ ترابي ليحدثكم.. وفعلا استضاف بعض الاخوة في أمسية تالية الشيخ ترابي، في ندوة فأبقى الامر على ما هو عليه بل ركز على فتواه المعروفة بزواج "البوي فراند" ، كما تكلم عن بعض مؤلفاته منها كتابه "تجديد الفكر الإسلامي" وتعرض في نفس سياق محاضرته بإعجابه بكتابات وفكر مالك بن نبي، ولما أنهى المحاضرة قام يرقص بعصاه، فاستغرب بعض الاخوة الطلبة والاخوات كيف يرقص الشيخ العالم الترابي بالعصى وفيهم من رأى أن هذا الرقص قد يهدم الكلمة القيمة التي ألقاه عن التغيير والتجديد الفكري قبل لحظات، فاخذ الكلمة أحد المشايخ من أصول أمازيغية واستدرك معللا تلك الرقصة بالفرح وفق العرف لدى الشعب السوداني و بعض الدول الخليجية، وتعد هذه الحركة عندهم دليل فرح و ابتهاج، مذكرا أنه في العرف القبائلي ، الامر عكس ذلك تماما، بل "يعد الرقص للرجال أمام الناس عورة لا تستساغ في أي حال، خاصة أمام النساء.." اجتهاداته في تفسيره للقرآن الكريم واليوم ، يكفي فخرا للشيخ والمفكر الاسلامي السوداني الدكتور حسن الترابي اجتهاده في تأليف مجموعة محترمة من كتب منها، قضايا الوحدة والحرية، تجديد أصول الفقه، تجديد الفكر الإسلام ، الأشكال الناظمة لدولة إسلامية معاصرة، تجديد الدين، منهجية التشريع، المصطلحات السياسية في الإسلام ، الدين والفن، المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع، السياسة والحكم، عبرة المسير لاثني عشر السنين، الايمان واثره في الحياة، الصلاة عماد الدين، الحركة الإسلامية... التطور والنهج والكسب .. وتفسيره للقرآن حديثا تحت عنوان (التفسير التوحيدي) الذي كان ثمرة جهد استغرق 10 سنوات وفق منهج خاص به، أطلق عليه مصطلح التوحيد.. وهو جهد يحتاج للإنهاء و المراجعة والغربلة إذ لم ينشر منه في دار الساقي بلندن إلا ملخصات قد تحتاج إلى توسعة في مجلدات حسب بعض الدارسين، وقد اطلعني أحد الاخوة من يومية " الزمان " اللندنية التي كنت أكتب معها مقالي الأسبوعي، بمقال يعرف بالطبعة الجديدة لا غير و يبدو أن هناك بعض من انتقد الطريقة، لا أذكر تحديدا من و لماذا.. عموما، الرجل أفضى إلا أمر ربه، و رحيل الشيخ ترابي خسارة كبيرة للسودان و الأمة الإسلامية ويكفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم : {إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا}،.. فاللهم أرحم الشيخ حسن عبد الله الترابي وأسكنه فسيح جناتك وأدخله مدخل صدق، واعفو عنه وأغفر له وسامحه ، إنك عفو غفور.. وتقبل منه وعوّض الأمة خيرا وألهم إخوانه وأهله وتلامذته الصبر والاحتساب و إنا لله و إنا إليه راجعون.