أظهر تقرير صادر عن معهد الرباط للدراسات الاجتماعية لعام 2025، صورة واضحة لواقع غير متكافئ فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان داخل الشركات الزراعية والصناعات الغذائية في المغرب. وتسلط الدراسة الضوء على التفاوت الكبير بين الشركات في مدى التزامها بحقوق الإنسان، حيث أظهرت النتائج أن احترام هذه الحقوق ليس أمرا قاطعا، بل يتأرجح بين الامتثال، التجاهل، وحتى تبني ممارسات تفوق المتطلبات القانونية. الدراسة التي أعدتها كل من سلوى الزرهوني وسلوى حنيف وإيمان نية، تكشف أن الامتثال للقوانين في هذا القطاع ليس قاعدة ثابتة، بل يتم التعامل معه بانتقائية وفقا للظروف، حيث أن العديد من الشركات تتبع نهج الامتثال الظاهري خلال فترات التفتيش الحكومي، لكنها تعود لاحقا إلى ممارساتها السابقة من عدم التصريح بالعمال، انتهاك الحد الأدنى للأجور، وعدم الالتزام بقوانين السلامة المهنية.
وذكر التقرير أن هذه الظاهرة تجعل من التفتيش العمومي آلية ضعيفة، إذ يواجه مفتشو الشغل صعوبات في ضبط المخالفات، خاصة مع قلة الموارد البشرية والتدخلات التي تعيق عملهم. من ناحية أخرى، تعاني بيئة العمل في هذه الشركات من هشاشة واضحة، وفقا للتقرير، فإن أن عمال القطاع، خصوصا أولئك المتعاقدين عبر شركات المناولة أو العاملين دون عقود قانونية، يجدون أنفسهم في ظروف غير مستقرة، حيث تغيب الضمانات الاجتماعية، ويواجهون صعوبة في المطالبة بحقوقهم خوفا من فقدان وظائفهم. وأكدت الدراسة التي أجراها معهد الرباط بشراكة مع منظمة محامون بلا حدود، أن غياب الوعي بالحقوق الأساسية يزيد من تفاقم هذه المشكلة، حيث لا يدرك الكثير من العمال حقوقهم القانونية، في حين يبرر بعض أرباب العمل تجاوزاتهم بضعف الإلمام بالإطار القانوني، أو بتقديم الربح على الاعتبارات الأخلاقية. كما توصلت الدراسة إلى أن العلاقة بين الشركات، النقابات، والدولة لا تقل تعقيد؛ فالدولة تجد نفسها بين ضغوط المستثمرين الراغبين في بيئة عمل مرنة، وبين مطالب النقابات التي تسعى لحماية حقوق العمال، ما يجعل قراراتها متأرجحة بين محاولة تحقيق التوازن وبين العجز عن فرض تطبيق القوانين بصرامة. أما النقابات، فغالبا ما تواجه تحديات في أداء دورها نتيجة الانقسامات الداخلية وضعف التنسيق بين مكوناتها، مما يحد من قدرتها على التأثير الفعلي في سياسات الشركات. التقرير يبرز كذلك ضعف العقوبات الموجهة ضد الشركات المخالفة، حيث تظل الغرامات المفروضة في كثير من الأحيان غير رادعة، ما يدفع بعض الشركات إلى اعتبارها مجرد تكلفة إضافية يمكن تحملها مقابل الاستمرار في ممارساتها غير القانونية. وتحذر الدراسة أنه "مع غياب آليات رقابية فعالة، يظل الكثير من العمال محرومين من حقوقهم الأساسية دون أمل في محاسبة الجهات المسؤولة". أمام هذا الوضع، يقترح التقرير سلسلة من الإجراءات الإصلاحية لتعزيز احترام حقوق الإنسان داخل الشركات المغربية، أبرزها ضرورة تعزيز دور مفتشي الشغل عبر زيادة أعدادهم ومنحهم صلاحيات أوسع لتوقيع العقوبات الفورية. كما يدعو إلى تشديد العقوبات على الشركات المخالفة، وفرض غرامات متناسبة مع طبيعة الانتهاكات، مع تحميل شركات المناولة مسؤولية مباشرة تجاه حقوق العمال. علاوة على ذلك، يؤكد التقرير على أهمية تعزيز الثقافة الحقوقية داخل بيئة العمل، من خلال تنظيم دورات تدريبية لأرباب العمل والموظفين، وإدراج مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية، وتطوير برامج توعية طويلة الأمد بالتعاون بين الدولة، النقابات، والمجتمع المدني. أيضا، يشكل إصلاح العلاقة بين الدولة، الشركات، والنقابات محورا جوهريا في التوصيات، حيث يطالب التقرير بإنشاء منصات حوار دائمة بين هذه الأطراف لضمان تواصل فعال وتفاهم مشترك حول الحقوق والواجبات. كما يدعو إلى ضرورة فصل النفوذ السياسي عن القرارات الاقتصادية، واعتماد آليات تحكيم ووساطة مستقلة لحل النزاعات العمالية بعيدا عن الضغوط السياسية والاقتصادية.