شكلا، ينتمي نص الاسباني خواكيم ݣاتيل Joiquim Gattel إلى مصفوفة "الخطاب الغيري". ومن حيث الأهمية، يضعنا النص أمام وجهة نظر اثنوغرافية، وقد نُجازف بالقول، أنها غير مسبوقة، تُعيد إلى الأذهان النصوص الإستخباراتية المُبكرة التي تشوفت نحو استكشاف الجنوب المغربي منذ حدوث واقعة تطاون 1860م الشهيرة. حينما ننطلق من هذا التفصيل، لا يمارس علينا الغِطاء الاستخباراتي للرحلة أي اغواء أو استدراج…كما لا تثيرنا عبارات مثل "البِنية المغلقة" "العُذرية النقية" "الهمجية الأهلية" في شيء… لأننا، نعرف مسبقا زاوية المقايسة التي يستند إليها خطاب الغيرية. من الناحية العلمية، يتعلق الأمر بنص رحلي غني ودسم، يجود بمعطيات إثنوغرافية فريدة، وجد دقيقة عن مناطق متفرقة من جنوب المغرب قبل الحضور الاستعماري الاسباني، ويعمد في باقي صفحاته إلى تقديم تشريح مِجهري للبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقدية لمغرب ما قبل الاستعمار. وقبل صدور هذا النص، كان العقل الأوروبي قد أَلِفَ نَسْج مصفوفاته الاستخباراتية حول مجال الجنوب المغربي بنصوص من هذا النوع. وتظهر في هذا الصدد محاولة كل من دومنغو باديا "علي باي العباسي" في واجهة التأسيس لهذا النوع من الاستكشاف المعرفي المغطى بأقنعة البحث والاستقصاء؛ فتارة يتم التنكر برداء الدين، إسلاما كان أو يهودية، وتارة يتم إرسال مبعوثين لجلب الأخبار والمعطيات التي تقصد بلاد المغرب. سبق لدومنغو باديا أن تنكر في زي رجل مسلم، وكان يستفسر المغاربة المتوجهين إلى آداء مناسك الحج زمن الاحتلال الفرنسي للجزائر عن بعض المناطق المغربية. بهذه الوسيلة تمكن دومنغو باديا من جمع بعض المعلومات النفيسة عن المجال المغربي من وجهة نظر استخباراتية. وعلى نحو مماثل، لا تزال محاولة شارل دو فوكو المعروفة لدى عموم القراء ب"التعرف على المغرب (1883- 1884)" تحظى بحضور لافت في الوسط الأكاديمي. وكان شارل دوفوكو قد لجأ إلى لعبة التخفي، من خلال التقنع بقناع رجل يهودي يجوب الصحراء المغربية بمساعدة مُخبرين مغاربة، وهناك محاولات لأخرى جرت جريا مغايرا حينما توسلت بإرسال مبعوثين لاستجلاب الأخبار، مثلما توضح محاولة أوغست مولييراس صاحب كتاب "المغرب المجهول" (1895). وبالعودة إلى خواكيم ݣاتيل. لَبِس ݣاتيل قناعين في مهمته الاستكشافية حول المغرب التي استغرقت حوالي أربع سنوات (1862-1866م)، فهو في البداية، ارتدى بِدلة الرجل العسكري الذي يستجلب معه خبرة الرجل الأبيض إلى جيش السلطان المغربي محمد بن عبد الرحمان. لحظتها، كان السلطان يخوض حملات عسكرية تأديبية ضد القبائل السائبة بسبب تمردها عن تأدية الضرائب، وميلها الفطري إلى العصيان، من بينها قبيلة بني حسن وقبائل الرحامنة والسراغنة بالجنوب المغربي...وفي مستوى ثان يرتدي بدلة الطبيب الذي يجوب الصحراء ومنطقة سوس، ويتشوف الوصول إلى تمبوكتو. آنئذ ضمَّن رحلته إلى الصحراء تقريرا مُفصلا عن المناطق القبلية التي تحرك فيها، ورسم حدودها ومعالم جغرافيتها، ورصد مواردها ومنتجاتها، ونقل تقاصيلا عن مناخها ووضعها الصحي وبِنية سكانها، واقترب من مراكزها السكانية ومكوناتها القبلية، وطريقة تسييرها الإداري ومواردها المائية، كما أحال على معاشها واقتصادها... من الناحية المنهجية، تُحيل قراءة تجربة خواكيم ݣاتيل الوقوف عند تحول مفصلي في المسار؛ من أكاديمي إسباني منشغل بقضايا فكرية كبرى، ومترجم القرآن إلى القشتالية…إلى جاسوس سري يتقصى الأخبار والمعطيات داخل المغرب، ويعمل على بعثها إلى أجهزة الاستخبارات الإسبانية، فكيف تتأتى مسألة فهم هذا الانزياح؟ خواكيم ݣاتيل ينزع على الدوام في معرض تقديمه إلى أن رحلته صوب المغرب رحلة شخصية، يُحركها دافع حب المغامرة والاستكشاف، والانتصار لفهم المجتمعات الخارجة عن الإثنومركزية الأوروبية. هذا المسار الاستكشافي سيجعله بالصدفة يلتقي مع مستكشف وطبيب ألماني يدعى جيرار رولف، وكانت قد نشأت بينهما علاقة صداقة حميمية، قبل أن يُعلنا الفراق. وحده هذا الحادث يؤكد على أن المغرب وقتها كان مسرحا لصراع المشاريع الإستخباراتية الأوروبية التي كانت تراهن على الفهم العلمي قبل الغزو العسكري. صمَّم خواكيم ݣاتيل على شد الرحال صوب الصحراء عبر منطقة سوس، وتنكر في ثوب طبيب يحمل معه أدوية وعقاقير لبدو الصحراء ورُحَّالها، في ظرفية كانت فيه منطقة سوس تحبل بتطاحنات قبلية ساخنة بين أولاد مشدوف الممتهنة لعمليات السطو، وقبائل أولاد دليم المتحكمة في الأزغار والمياه، وهي الرحلة التي كادت أن تُفقده حياته عدة مرات بسبب وقوعه في شباك قطاع الطرق أو بعض القبائل، رغم ذلك لم يثنه ذلك على تحدي الموت في الصحراء ومعاودة المحاولة مرات ومرات. وبهذا، تمكن خواكيم ݣاتيل من اختراق الأطلس الكبير عبر مسالكه الوعرة، ووصل إلى تارودانت ومنها إلى كلميم عاصمة واد نون، التي أقام فيها عند واحد من أعيان قبيلة واد نون يدعى الحبيب بن بيروك. ما يشد الانتباه في رحلة خواكيم ݣاتيل نحو الجنوب المغربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، هو توقفه عند الصراعات بين القبائل المغربية، ومنها بين قبائل واد نون وقبائل أزوافيط حول آبار وادي شبيكة، هاته الصراعات التي كانت دائما تدور حول المياه ومصادر الحياة. المراجع: Joachim Gattel, l'Oued Noun et le Tekna à la côte occidentale du Maroc, Bulletin de la société de géographie, octobre, 1869. نشر باللغة الفرنسية بمجلة الجمعية الجغرافية الفرنسية، عدد أكتوبر، سنة 1869. 2- الساوري بوشعيب، مغامر إسباني في مهمة سرية داخل المغرب ( 1862- 1866)، بوشعيب الساوري، ص 58- 64، ضمن مجلة أفكار، عدد 8 يونيو 2016، أدب الرحلة من وإلى المغرب، سؤال النهضة والتحديث.