لم أنشر تدوينة ما منذ اجتياح إسرائيل لمناطق جديدة في سوريا خلال انهيار نظام الأسد في دجنبر 2024، انتابني اشمئزاز مضاعف ليس حزنا على آل الأسد -ليرحلوا حقا بكل آثامهم دون رجعة- وإنما بسبب تدافع الأبعاد السياسية الشائكة للصراع في الشرق الأوسط والعالم ضمن الاستمرار المدمي لسلك الجرائم البشعة التي تقودها ميدانيا إسرائيل ولاية عن المعسكر الأمريكي بالمنطقة ، تقززمن لحظة تاريخية نشاز يتعزز فيها صف حكومات اليمين الفاشي في كثير من بلدان العالم وفي الولاياتالمتحدةالامريكية على وجه الخصوص. كنت من بين من توجسوا شرا من اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان بين الكيان العدواني الصهيوني و حزب الله اللبناني الشيعي ، لا يعني هذا أنني من دعاة الحرب و أبواقها ، لكن تحرجني قواعد اللعبة الموضوعة عالميا للبنان منذ عهد بعيد، ظلت هذه القواعد طائفية المحتوى بوضوح ، وذلك تماشيا مع حملة استعمارية تم وضعها في نهاية القرن التاسع عشر، للقضاء على الإمبراطورية العثمانية المثخنة، وبالرغم من هذا الواقع البالي المنافي للأعراف المرتكزة على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، ظلت التوازنات الطائفية مرجعية تقسيمية تسري منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا، وتؤثر بقوة على الفاعلين المحليين في اختياراتهم ،، من المفيد أيضا أن ندرك تلازم الوضعين السوري واللبناني وترابطهما تاريخيا مع القضية الفلسطينية منذ الانتدابان البريطاني والفرنسي تحت لواء عصبة الأمم ، كما يجب إدراج الدور الإيراني في كل مجريات الوضع بالشرق الأوسط منذ القضاء على الدولة البعثية العراقية، لذا بلا شك اختار حزب الله اللبناني قراره بوقف الحرب اعتمادا على ملابسات وضع لبناني داخلي متردي في ظل سياق جهوي مهول ، هكذا ربما أبان فيه الفصيل اللبناني الشيعي عن دراية دقيقة ونضج كبير متخذا القرار الصعب حفاظا على سلامة بلده ووحدة ترابه و تماسك شعبه، وقد يحسب له هذا في لحظة مثل التي نعيشها اليوم، بالرغم من هشاشة التزامات الدول المشرفة على هذا الاتفاق و النية المبيتة -التي لا تخفى على أحد- من طرف الكيان الصهيوني على عدم احترامه. عودة حقائق مؤلمة كم نود نسيانها مع متابعتي لمحرقة غزة اقتنعت بأن مشروع إسرائيل الكبرى لا زال متواصلا، هذا الورم الخبيث يتم بثه انطلاقا من خلفيات عميقة التجذر في نخب الغرب، تمليها استمرارية طموحات الهيمنة و العدوان الاستعماري على الشعوب الأخرى، و منطقة الشرق الأوسط على الخصوص تختزن اقتصاديا ورمزيا و حضاريا بعض تصوراتها ومطامعها البعيدة المدى، أليس من المثير تصميم الغرب بإصرار على مدى أكثر من قرن على تدمير الرصيد والتراث الحضاري لهاته المنطقة وعلى تشتيت كل مكونات شعوبها في تنوعها الإثني والعقائدي التاريخي واستعمالها الوظيفي في اعمال التدمير الذاتي ؟ هل هناك تفسير آخر لمسار يعكس مواجهات متواصلة بالمنطقة منذ نهاية القرن التاسع عشر غايتها الهيمنة العنصرية للرأسمالية الغربية على العالم دون أي حرج من التصفية الممنهجة للعديد من الإثنيات والطوائف بما فيها بعض اليهود أنفسهم مرات متعددة ، زمانا وحاضرا ، وجميعها لفائدة الفاشية في كل أثوابها الجديدة والقديمة على حد سواء. عصر الهمجية بامتياز وبينما يستمر العدوان الإسرائيلي دون انقطاع على سورياولبنان وفلسطين حاليا تأتي صفقة هدنة غزة في القطاع الجريح بعد 15شهرا من التدمير والقتل للمدنيين بكل وضوح وصفاقة ،تجلت فيها همجية وعنف الاحتلال والعدوان، وحقيقة وجود منظومة دولية إجرامية تسيطر على مقومات العالم بأكمله لتسند المجازر القائمة في غزة، بالرغم من ذلك فرض درس المقاومة والصمود والتضحية نفسه بجرأة سبيلا لا مناص منه للتخلص من الوباء الصهيوني ،وبناء سلم حقيقي يقيم وزنا للكرامة ولحقوق البشر جميعا دون تمييز . في هذا التسلسل الميداني والواقعي ننتبه لكون الموافقة الصهيونية والأمريكية على هذه الهدنة المرجوة ليست حقنا لدماء الأبرياء، فالدماء لا زالت تسيل في لبنانوسوريا وفلسطين واليمن وفي أماكن أخرى، والأيام تتوالى لتبين ذلك بقسوة ، حتى لا نغالط أنفسنا ، جاءت هذه "الصفقة" بالتأكيد مرتبطة بالمخططات الصهيونية والأمريكية في مجمل الشرق الأوسط بأوراقها المتعددة، ولكل من لم يفهم بعد حقيقة العقلية الهمجية التي تتحكم في تدبير أحوال العالم اليوم مثلت معركة غزة نموذجا واضحا لطبيعتها الهمجية العنصرية والفاشية كمنظومة شاملة على المستوى الدولي ، الحرب اليوم في منطق كل القوى الكبرى النافذة لا تعني معارك على منوال الملاحم الإغريقية والعربية القديمة ، بل هي فقط عمليات إبادة للآخرين كيف ما كانوا وأنى ما كانوا ، والقوة والسيطرة التي تحظى بها الدول والأمم والعصابات التي تتخذ هذا الرهان تنبني على مشاريع نهب ثروات و موارد جديدة بكل الأساليب دون أي معيار أخلاقي ، لقد انتقلنا بفضل التكنولوجيات الجديدة بسرعة هائلة من مواثيق حديثة النشأة لم يكتمل بنيانها حول حقوق البلدان وحرية الملاحة والتجارة وحقوق البشر إلى ثقافة حرية القتل والنهب والتدمير دفاعا عن الذوات المتضخمة. نحن على أبواب مرحلة جديدة، يسعى الأقوياء فيها للدمار الشامل لخصومهم بشريا وترابيا. وشروط تغييرها تختلف عن المعارك السالفة، إنها مواجهات تحتاج أيضا لأدوات جديدة.