"علينا أن نتعلم التفكير بألم" موريس بلانشو يُترجِم خطابُ النهايات ضرباً من الانتشاء المضمَر بما أفضى إليه جهادُ الليبرالية ضد كل خطاب نقدي يقاوِم لكشف أعطابها، وتفكيك مسلماتها، ومجابهة المنظور العدمي الذي تقارب به الإنسان والعالم. ولعل من يفحص هذا الخطاب والشروطَ التاريخية التي أفرزته، لا يمكن أن يشتنشق في العقد الأخير من القرن الماضي إلا رائحة الموت؛ فجأة يصير قرنُ الاحتدام الفكري والسياسي والإيديولوجي مستودعَ أمواتٍ: موت الفلسفة وموت الإيديولوجيا ونهاية التاريخ ونهاية المثقف! سيتاح لليبرالية، لمَّا أنجزت برنامجَها الجنائزي، ما يسندها من شروط كي تصرح بموت مقولة الصراع الطبقي كتتويج لهذا البرنامج. وقد اتخذ هذا التصريح شكلَ وثوقية تنفي عن العالم ثراءَ الاختلافِ وحيويتَه وتُباعد ما بين الإنسان وبين التاريخ، إلى أن صار خطابُ النهايات خطابا قدرياً يفصل الإنسان عن العالم ويلغي فاعليته. سيتضخم في هذا السياق وهمُ الانفراد بالخطاب وتصريفِه في بؤر منفصلة تحت مسمى "الأزمات"، ذلك أن الليبرالية قد سلكت كل السبل الموصلة إلى تغييب الإنسان (ومعه معنى العالم) كي تَسُدّ مقولةُ الفرد مسدَّه. لذلك لم يكن من الغريب أن يتزامن صعود الفلاسفة الجدد، ك"اسم لعلامة تجارية، لمجموعة غير متجانسة للغاية من حوالي عشرة مثقفين، متماسكين من الخارج أكثر من الداخل.. لا يعملون كممثلين لأي حركة أو قوة سياسية محددة بوضوح"، أن يتزامن هذا الصعود مع انبثاق إحدى أروع مخلوقات الليبرالية، نعني بذلك "الخبراء". إن التأملَ في المسافة بين المثقف والخبير، والتحديقَ في تلك الهوة السحيقة التي تفصل بين رؤيتين للعالم والمعنى وفاعلية الإنسان فيهما، لا يتحققان بغير الإنصات للشروط التي أفضت إلى ولادة الأول وصناعة الثاني. لقد استنبت خطابُ المثقف (منذ "قضية دريفوس") جذورا تصله بالالتزام بما هو رهان يؤمِّن للخطاب سريانَه في الفعل، ويهبُ لهذا الخطاب شرطَه النقدي الذي أفصحت عنه صرخة زولا: "إِنني أَتَّهِم..". وإن كان لهذه الولادة احتداماتها التي نلفيها في كل ولادة، فإن لصناعة الخبير شروطها المنتسبة إلى حُمى التسليع التي انخرطت فيها الليبرالية بعد الانتشاء بإزاحة نقيضها. بهذا المعنى سيغدو الخبير "ماركة تجارية" تُطَوَّر مزاياها كي تتناسب واحتياجات "مستهلك" الخطاب. على أن التماهي بين الخبير وبين الماركة التجارية آتٍ من مسعى الليبرالية إلى اختزال دورة الإنتاج، بغاية تسريع وتيرة الاستهلاك. الخبير من هذا المنطلق عَرَضٌ من أعراض سرعة التوزيع التي تسم نمط الإنتاج الرأسمالي، بل إنَّ المسألة تتخذ منحى آخر أشد خطورة، حيث يغدو الخبير وجها من وجوه الاغتراب: اغتراب يحوله إلى كائنٍ يقتات على كل ما يتصل بالصورة والضوء والحضور، وكل ما تهبه التقنية من فرص الانتشار والتأثير. وباستحضار تداعيات هذا التماهي (بين الخبير والماركة التجارية) تبرز ملامح خطاب يعادي الفكر، يراكم الاستيهامات ويضيق مسارب الانفلات من حتمية السريع والجاهز والنفعي. ستُسارع الليبرالية، بعد أن فرغت من تأمين الشروط التي ستحتضن مخلوقها الجديد، إلى محو المعايير التي كان يخضع لها الفكر عبر تاريخه من قبيل: إبداع الأسئلة وبعث المفارقات وخلخلة الثقة في ما يتوصل إليه الحس المشترك، أي تلك المعاييرُ التي كان يُقوَّمُ بها الفكر وما يصاحبه من تفكيك وتحليل و"ندم فكري".. لتُسلِّم الخبيرَ مهام تكريسِ البديهي، والإبقاءِ على الإجماع، وابتكارِ سيناريوهات تُغذّي الدوكسا وتُحصّنها ضد قلق السؤال و"وجع الدماغ"، وهي مهام تنطوي على اللاَّ فكر الذي ينتعش في ظل مجتمع الفرجة. بالنظر إلى الوشائج التي تصل الخطاب بنمط الإنتاج السائد، يغدو تفكيكُ خطاب الخبير والحفرُ في علته الأولى ضربا من المقاومة؛ مقاومة قِوامها مجابهة التسليع الذي يهدد الفكر وينصب له شِراك البداهة واليقين. الخطابُ الذي ينتجه الخبير مسكون بهوسِ أن ينتشر ويُستهلَك ويتم تقاسمُه على أوسع نطاق، خصوصا وأن التقنية قد وضعت الوسائط الحديثة رهن صوت الخبير وصورته. الخبير إذا أشبه بنمط الاستهلاك المسمى "Jetable"، خطاب يُستهلك لمرة واحدة ويعاد "تدويره". هل يسعفنا هذا المنظور، الذي نقارب به خطاب الخبير، في التماس ما تنطوي عليه نظرته إلى مفاهيم مثل: الزمان والمعرفة واللغة، والذات وعلاقتها بالآخر؟ ذلك أن الموقع الذي يتخذه منتج خطاب ما من هذه المفاهيم يحدد رؤيته للعالم. ولئن كان خطاب الخبير منفصلا عن التاريخ، فإن تمجيد الآني يَشُدُّه إلى رؤية للزمان تلغي اللحظي. إنها رؤية لا-نقدية للزمان، فالزمان هنا لا يعدو كونه كتلة خرساء يستنجد بها الخبير لرأب الصدوع وملء الفراغات. لا ذاكرة ولا مستقبل لمثل هذه الرؤية، وحده الآني يسطو على خطابٍ مآلُه أن يُستهلك كما تُستهلك منتجات مجتمع الفرجة. هذه النظرة اللا-نقدية تتسرب إلى مفهوم الخبير عن المعرفة، بحيث تكف عن أن تكون إنعاشا للأسئلة وتأجيلا للحقيقة. المعرفة عند الخبير أجوبة تُتخِم السؤال. وليس على الخبير إلا أن يفتح "حقيبة الأدوات" كي تصير أعتمُ المسائل واضحةً للعيان. ليس عليه أن يتأمل السقف الإبستمولوجي للنظرية، ولا أن يتجشم جهد البحث عن جذورها الفلسفية، ما دامت المعرفة في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي أداتية وحسب. أما عن اللغة، فإن ما يهددها في خطاب الخبير هو استعمالها كأداة لتصريف تلك المعرفة الأداتية. ليست اللغة هنا "مأوى الكينونة" ولا هي "أخطر النعم"، بل مجردُ حاملٍ ل"رسالة" كان من الممكن أن تصل عبر حوامل أخرى. وليس من المستغرب أن يسري العنف في خطاب لا يتنبه إلى ما تنطوي عليه اللغة من "فاشية" (حتى إن إحصاءً لعبارات الحسم والجزم والقطع.. قد يكون مفيدا في هذا السياق)، وإنها لفاشيةٌ تلغي التعدد الذي يسم كل خطاب إنتاجاً وتأويلا. هل يتبقى أمام خطاب يحوز هذه السمات فسحةٌ لاستضافة الآخر في اختلافه الذي يُثري الأنا؟ لنا أن نقنع بالسؤال، ريثما تظهر في التحليل النفسي اجتهادات تتخذ من خطاب الخبير صورةً عن ما اعترى الأنا من جروح، ألحقتها بها التقنية. على أن خطابا ينحو بمفاهيم الزمان والمعرفة واللغة منحىً أداتيا، ويجردها من أبعادها الأنطولوجية، لن يرى في الآخر إلا تهديدا لتماسك الأنا والتئامها. الآخر في هذا المقام يُختزل في احتمالين يتيمين: الآخر بما هو امتداد للأنا (نفكر في أسطورة نرسيس وإيكو)، أو الآخر بوصفه العدو المتربص بفجوات الخطاب الذي تنتجه ذات ممتلئة. وإنه لإفقار للأنا وإلغاء ناعمٌ للآخر. ونحن نتأمل ملامح مخلوق الليبرالية الجديد، يطالعنا طيفُ وحشِ فرانكنشتاين، ومعه نستعيد المآلَ الذي اختارته الروائية ماري شيللي لخالقه. ولئلا ينساق الفكر وراء النبوءات ومكر الرؤية القدرية، ستظل مقاومة العدمية، في وجوهها المعاصرة، مفتوحة على إمكانية استعادة الإنسان لحضوره ولتجذره في العالم.