توقف العدوان الإسرائيلي على لبنان، والأمل في الله وفي من بقي من أحرار العالم أن تتوقف البربرية الإسرائيلية في غزة. البعض يؤاخذ حزب الله لأنه تراجع عن مطلب وحدة الساحات، وراجع قرار السيد حسن نصر الله قبل استشهاده بألا وقف لإطلاق النار على الجبهة اللبنانية حتى يتوقف العدوان على غزة. نعم، الحزب تراجع عن هذا الشعار تحت ضغط الواقع الجديد. إنها استراحة محارب قدم الغالي والنفيس من أجل فلسطين، في الوقت الذي بقيت فيه جيوش 22 بلداً عربياً و35 بلداً إسلامياً (عدد أعضاء منظمة المؤتمر الإسلامي 57) تتفرج على إبادة البشر والحجر والشجر في غزة. بل إن بعضها يحرس حدوده ليل نهار مخافة تسلل أي بندقية يمكن أن تساند الحق الفلسطيني ولو رمزياً. هولاء لا حق لهم في الكلام الآن وغدا عمن قاوم أو من تراجع أو من إنتصر أو من إنهزم هولاء خارج الحسابات وخارج السجلات وخارج التاريخ الذي يٌكتب اليوم في منطقة تَحبل بكل الاحتمالات...
حزب الله تلقى ضربات قاسية تَقسم ظهور جيوش بأكملها، لكنه لم ينهَار، بل استوعب صدمة اغتيال قادته، وعلى رأسهم الشهيد حسن نصر الله، ووقف صامداً ولم يسمح للعدو بتذوق طعم النصر في ظل موازين قوى مختلة تماما. قصف تل أبيب بالصواريخ، ونقل الرعب إلى الداخل الاسرائيلي، ومنع عودة الآلاف إلى منازلهم في الشمال، وحوّل ربع قوة إسرائيل بعيداً عن غزة. كما تصدى بطريقة بطولية لاختراق الجيش الإسرائيلي لحدود لبنان، ورفع راية حماية المظلوم والوقوف معه بالممكن والمستحيل ثم تفاوض وقبل ورفض وناور وعينه على معركة جديدة في ظروف جديدة وجيّدة ... إذا قبل حزب الله الآن وقف إطلاق النار على مضض وكل احرار العالم كانوا يودون ان لا يتوقف حتى يتوقف المجرم عن جريمته، فذلك لأن ظروفاً داخلية وخارجية لا تخفى على أحد جعلت من الاستمرار في دعم غزة خطراً محدقاً بالحزب وسلاحه ومقاومته ووجوده حتى . إنها سياسة واقعية لا يمكن أن ننكرها على من أدى ضريبة الدم من أجل فلسطين، وكان في وسعه الاختباء وراء أكثر من مبرر لكنه لم يفعل. وهذا ما عبّرت عنه بيانات وتصريحات حركة حماس، المعني الأول بقرار حزب الله التوقف عن دعم غزة عسكرياً بعد 14 شهراً من المقاومة الباسلة، التي لا يوازيها إلا مقاومة أبطال غزة وزملاء السنوار. السياسة الحكيمة هي (قبول ما لا تريده تجنبا لقبول ما لا تطيقه)... حزب الله لم ينهزم، وإسرائيل لم تفز وبالأحرى أن تنتصر، والمقاومة مستمرة بأشكال أخرى. أما الذين يعطون الدروس للحزب اللبناني، فهم إما مغفلون، وإما متنطّعون، وإما متآمرون. إسرائيل تمرّ بأخطر مرحلة في حياتها؛ وجودها نفسه أصبح محل سوال، رئيس وزرائها وقادة جيشها مطلوبون للاعتقال دولياً بقرار المحكمة الجنائية الدولية بتهمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب الأخرى. وهذا تطور مهم ومكسب قانوني وسياسي واستراتيجي غير بسيط. هذا يعني أن زمن الإفلات من العقاب والحصانة من المساءلة قد انتهى بالنسبة لدولة كانت مدللة من قبل العالم كله تقريبا. فلا ننسى أن قرار إنشاء "دولة إسرائيل"، مهما اختلفنا معه، تم بقرار أممي، كما قال الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، ذات غضب من نتانياهو، أي ان بروز اسرائيل للوجود تم من داخل مؤسسات النظام الدولي والقانون الدولي. وعندما تصير هذه الدولة مارقة وخارجة على القانون الدولي وقادتها مجرمون كبار ممنوعون من زيارة قرابة ثلثي دول العالم ، فإن حل هذا الكيان يمكن أن يكون بنفس طريقة تأسيسها خاصة إذا بقيت جذوة المقاومة متقدة وتحالف الأحرار على قاعدة إنسانية مستمرا ومتصاعدا.. الهند تحررت بعد مقاومة سلمية عظيمة، والجزائر تحررت بعد مقاومة مسلحة باسلة، وجنوب أفريقيا تحررت بعد مقاطعة دولية لنظام الفصل العنصري، وافغانستان والعراق تحررتا من احتلال أقوى جيش في تاريخ العالم تحت ضربات المقاومة التي أفشلت كل خطط الإحتلال وحولت وجوده داخل بلدانها إلى حرب استنزاف بلا أفق... فلن تكون اسرائيل أقوى من الإمبراطوريات الإنجليزية والفرنسية والأمريكية، وقبلهم الإمبراطورية السوفياتية التي خرجت منهارة ومفككة من حربها في أفغانسان. لنفكر أبعد من عناوين الأخبار، وأعمق من العواطف، وإن كانت العواطف الصادقة مشروعة ومباركة. كلمة اخيرة رسالة الملك محمد السادس إلى اليوم العالمي للشعب الفلسطيني كانت ابلغ رد على ( كلنا اسرائيليون وكلنا نتانياهو ) لا مجال لربط مناورات "تجار الشنطة" و"الإعلانات" بسياسة دولة لها تاريخ ولها تقاليد ولها أعرافا ولها حدود لا يمكن ان تسلم مفاتيحها إلى المحميين الجدد مهما كان حاميهم ...