كتبتُ تدوينة تقول: "أيها الصّاحون إلى دعوة ديمستورا لتقسيم الصحراء: تُفحمُ "ألمعية" بوريطة في اجترار نفس المنطلق والخطاب منذ 1975، والنفخ في رمزية القنصليات الأجنبية. وتحوّل مطلب "تصفية الاستعمار" لدى البوليساريو إلى تصفيةٍ بتسويةٍ!" فانتبه إلى فحواها قليلون، فيما انبرى كثيرون إلى الاستخفاف والتشكيك في تحليلي وفي صحة إفادة المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى صراع الصحراء ستفان ديمستورا في مجلس الأمن يوم الأربعاء 16 أكتوبر الجاري: قال أحدهم: "أعتقد أن أستاذا في مكانتك لايمكنه أن يبني موقفا تحليليا على معطيات غير دقيقة. لذا ألتمس منك إحالتنا لمصدر رسمي (غير تسريب رويترز) يفيد بمقترح التقسيم." واستخفّ ثان بقوله: "واذا كانت الأممالمتحدة من خلال الناطق الرسمي نفى مقترح التقسيم الذي نسب لديمستورا." : وعلّق ثالث بنبرة النفي القطعي قائلا "ربما أنك اخدت القصاصة من منبر معادي للوحدة الترابية دون التحري من صدقية الخبر وسياقه." قلت لهؤلاء وبقية المشككين إن تحليل الصراعات لا يحتمل العاطفة ولا يستقيم مع الإسقاطات الحماسية الشاردة بين الوطنية والقومية ضمن مسار التدبير المكيافيلي للعلاقات بين الدول في أغلب الحالات. فرددتُ على صاحب التعليق الأخير: "لا عليك، لا أقنع بمصدر واحد أو اثنين، بل أثلّث (كما نقول في مناهج العلوم triangulation)، بمصادر في كواليس مجلس الأمن، وكذا في بعض العواصم المؤثرة في تطور القضية." أنحو منحى التدقيق في نص إفادة ديمستورا في مجلس الأمن، والتنقيب بين سطورها لاستنباط البنية الذهنية التي يحاول أن يستميل بها مندوبي الدول الأعضاء خاصة الدائمين في مجلس الأمن. وإلى أين ستتجه دبلوماسية الأممالمتحدة في الأشهر الستة المقبلة. وأختزل بعض النقاط المحورية مع تسليط الضوء على دلالتها في إدارة الأممالمتحدة لهذا الصراع الإقليمي أكثر من كونها تنافسا بين طرفين مباشرين على أرض انسحب منها الإسبان عام 1976: . انطلق ديمستورا من حالة اللايقين والخشية من احتمال العودة إلى مواجهات عسكرية بين القوات المغربية ومقاتلي البوليساريو، بعد أن تحللت الجبهة من اتفاق وقف إطلاق النار عام 2021. ويقول إنّ " الحوادث الأمنية التي وقعت خلال العام (2023-2024) بعضها خطير، وهي بمثابة تذكير بالمخاطر المحتملة والتكاليف المترتبة على مزيد من تعميق الصراع." (الفقرة 3). وأضاف أنه "ذكّرتُ الأطرافَ باسم الأممالمتحدة بضرورة إعادة فرض وقف إطلاق النار، أو على الأقل وقف الأعمال العدائية" (الفقرة 7). . استرعى ديمستورا الانتباه ضمنيا إلى أن قضية الصحراء تتعلق بطموحات أطراف مباشرة وأخرى غير مباشرة، وأن التصدع الأمني والقطيعة الدبلوماسية بين الجارين يزيدان الطين بلّة". وأوضح أن "الوضع الحالي بين الجزائر والمغرب، مع قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ومظاهر التوتر الأخرى، يشكل مصدر قلق مستمر، ولا يساعد في حل قضية الصحراء الغربية." (الفقرة 8). . حاول ديمستورا أن يسترعي انتباه أعضاء مجلس الأمن الدولي إلى أن صراع الصحراء أصبح من الصراعات المعمّرة، أو الصراعات المستدامة Protracted conflicts، وأنه يشيخ إلى سنّ الخمسين عاما بحلول 2025. وطرح سؤالا البرغماتية والمساءلة الضمنية للأمم المتحدة قائلا: "متى سيأتي الوقت للتحرك بشكل حاسم بشأن قضية الصحراء الغربية؟ في العام المقبل، سنشهد الذكرى الخمسين لبداية الصراع. ومع اقترابي من الذكرى السنوية الثالثة لتولي منصبي، أعتقد أن الوقت قد حان لتقييم الوضع معًا بشفافية تامة في إطار هذه المشاورات." (الفقرة 9). . ذكّر ديمستورا بحصيلة المشاورات مع العواصم المعنية، وأنّ "وزير الخارجية المغربي بوريطة أصرّ مرة أخرى على أن مبادرة الحكم الذاتي لعام 2007 تظل "الهدف النهائي، وليس نقطة البداية للعملية". وفي رأيه، ينبغي أن يكون هذا موضوع المفاوضات بمشاركة جبهة البوليساريو والجزائروموريتانيا بالإضافة إلى المغرب." (الفقرة 13). في المقابل، "واصل وزير الخارجية الجزائري عطاف دعم المواقف التي عبرت عنها جبهة البوليساريو، في حين أصرّ على أن بلاده لا تعتبر نفسها طرفًا في الصراع. وأكد وزير الخارجية الموريتاني مرزوق موقف حكومته من الحياد الإيجابي." (الفقرة 15) . في فبراير 2018، نشرتُ دراسة بعنوان Fits and Starts Characterize UN Mediation in Yemen, Syria, and Libya " التقلبات المتقطعة تميز وساطة الأممالمتحدة في اليمن وسوريا وليبيا"، أقول فيها "إن الدبلوماسية التي تتبناها الأممالمتحدة فيما يتصل بهذه البلدان (ليبيا، اليمن وسوريا) ربما تمر بمرحلة من التعب، أو ربما الإرهاق، في البحث عن صيغ فعّالة لإنهاء هذه الصراعات. ولكن التعب أو الإرهاق لا ينبغي أن يكونا مصير مهمة المجتمع الدولي." وينطبق إرهاق دبلوماسية الأممالمتحدة اليوم مجددا على قضية الصحراء بأن يكون ديمستورا قد استنفد ألمعيته في ابتكار منطلق جديد للحل، بل اكتفى بالنبش في ملفات المبعوث الأسبق جيمس بيكر قبل عقدين من الزمن. فقال: "قمت بإعادة النظر بشكل سري وتوسيع نطاقه مع جميع المعنيين بشأن مفهوم تقسيم الإقليم، والذي سبق أن ذكره سلفى، جيمس بيكر الثالث، منذ أكثر من 20 عامًا. يمكن أن يستند هذا الخيار إلى حدود الجزء من الصحراء الغربية الذي تسيطر عليه موريتانيا، كجزء من اتفاق مع المغرب، بين عامي 1976 و1979. وبشكل أكثر تحديدًا، تم تعريف الحدود آنذاك على أنها خط مستقيم من تقاطع خط الساحل وخط العرض 24 شمالًا، عبر تقاطع خط العرض 23 شمالًا وخط الطول 13 غربًا، ويستمر حتى الحدود السابقة لموريتانيا." (الفقرة 17) . شدّدت في أكثر من مناسبة على أن الحل الواقعي لقضية الصحراء لن يتأتي لا من مداولات مجلس الأمن في نيويورك، أو مرافعات مجلس حقوق الإنسان في جنيف، أو سجالات الاتحاد الأوروري في بروكسيل، ولا نقاشات الاتحاد الأفريقي في اديس أبابا، وإنما ينبغي أن يولد إقليميا ومن خلال مفاوضات مباشرة وتوافقات متناظرة. وقد يطول الزمن وتتدحرج السنوات والعقود إلى الأمام بانتظار أن تنجح نيويورك أو أيّ من العواصم الكبرى في إيجاد الحل السحري. وأقصى ما يمكن ترقّبه من المجتمع الدولي، ومن الحلفاء والخصوم بالنسبة للمغرب والبوليساريو على حد سواء، هو أحد الخيارين: التريث وتجديد صلاحية بعثة المينورسو عاما بعد عام بانتظار أن "تنضج" مواقف الأطراف، (كما تزعم نظرية "نضج الصراع" Ripeness theory لوليام زاتمان William Zartman) إما بإرهاق قدراتها العسكرية واقتصادها أو بفعل اليأس السياسي من انتظار أن الدول الحليفة "ستفرض" الحلّ المنشود. . قد تزكي بعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن خطة التقسيم التي يقترحها ديمستورا حاليا صيغة توفيقية جديرة بالاهتمام في الاشهر المقبلة، وتتنافس عمليا مع خطة الحكم الذاتي التي تزيكها فرنسا وإسبانيا. وقد يمضي ديمستورا إلى الترويج لخطة التقسيم على أنه صيغة يمكن أن "ترضي مطالب الطرفين بقاعدة المفاوضات بين مكاسب وتنازلات. وقد قال في جلسة مجلس الأمن: "يمكن أن يكون هذا وسيلة لاستيعاب كل من المطالبات بالاستقلال وخطة الحكم الذاتي داخل السيادة المغربية، مع تمكين تقرير مصير شعب الصحراء الغربية، الذي سيتمتع في مثل هذه الحالة بإمكانية تحديد المكان الذي يريد العيش فيه، وفي ظل أي نوع من البيئة السياسية." الفقرة 18). عندما يُنصت أعضاء مجلس الأمن الدولي لإفادة المبعوث ديمستورا وهو يفصل في "خطة التقسيم"، ويكثر النقاش حولها في الأشهر المقبلة، ثمة أكثر من سؤال يطرح ذاته أمام ناصر بوريطة وبقية مهندسي الدبلوماسية المغربية: لماذا لم يتبنّ المبعوث الدولي ديمستورا خطة الحكم الذاتي؟ لماذا لا تعمل وزارة بوريطة وفق بنية ذهنية برغماتية تقول على الفعل الاستباقي؟ ولماذا لا يتطوّر خطاب الرباط إلى نقطة صناعة الفعل والمبادرة والنسق الجديد، بدلا من القبوع في نقطة ردة الفعل وانتظار المفاجآت؟ ثمة أربع مشكلات يغلب الصمت عليها والتطبيل لغيرها: أولا، يعمل مهندسو ومشرفو الدبلوماسية المغربية بمبدأ "إغلاق باب الاجتهاد" خارج ما تم اعتماده عام 1975، وأن بنية التفكير التي كانت لدى الحسن الثاني وإدريس البصري وأحمد السنوسي هي سدرة المنتهى، ولا ينفتحون على أن استراتيجية التفاوض في الأممالمتحدة تتغير بتغير الأحوال والشخصيات والتقديرات السياسية. ثانيا، تكرس النخب الرسمية الخطاب الداخلي ذاته في المنصات الدبلوماسية الدولية مثل الأممالمتحدة، بحماسة شعارات من قبيل "المغرب في صحرائه، والصحراء في مغربها"، ويظل الخطاب المغربي يمشي برجل واحدة داخليا وليس خارجيا. ثالثا، ركزت السياسات العامة لدى الرباط على الدفع باتجاه "مغربية الصحراء": الحجر والأرض والجدران الأمنية وأجهزة الرصد والمراقبة وعسكرة الموقف، بدلا من "مغربية الصحراويين": البشر والبيئة الثقافية والانتماء الهوياتي وتبيئة الخطاب وتدويل الخطاب بعقلانية السياسة الدولية، وليس مجرد التشديد على الورقة السلطانية والروابط التاريخية بين سكان المنطقة وملوك المغرب. رابعا، يظل باب الاجتهاد الأكاديمي مغلقا أو مُهابا من فرط الخشية من الخروج عن السرب. ويكتب عدد من أساتذة الجامعات والمثقفين بمنطلق تكرار الخطاب الرسمي وإسناده بعبارات إنشائية عاطفية بمنطق التفكير الجماعي المتطابق Groupthink. ولكنها، تظل مجرد كتابات خافتة لا تصل إلى عقول الرأي العام الدولي لافتقارها للتحليل العقلاني وتركيب منطلقات جديدة لفهم الصراع وتحديد مآلاته. من المرتقب أن يدخل اقتراح ديمستورا بخطة التقسيم أدبيات مجلس الأمن ونقاشاته لعدة أشهر مقبلة. وقد يكون عام 2025 فترة زمنية مفتوحة في إدارة صراع مزمن، أكثر من الحرص الجدي على إيجاد حل عملي. بيد أن خطة التقسيم تظل غير واقعية لاعتبارات إقليمية وأخرى دولية: أولا، لن يقبل المغرب بوجود أي دولة أو مشروع دولة بينه وبين موريتانيا. وهو موقف يتعارض مع الجغرافيا السياسية أو Geopolitics وتقاطعها مع تاريخانية الماضي والمصالح الاستراتيجية للمغرب باتجاه العمق الأفريقي. ثانيا، قد ترحب بعض العواصم الكبرى مثل روسيا بخطة التقسيم، وتأمل في أن تعبد الجسر إلى تشييد قاعدة عسكرية لها في غرب أفريقيا غير بعيد عن غرب البحر المتوسط. لكن، دولا كبرى أخرى ومنها الولاياتالمتحدةوفرنسا وبريطانيا لا تترد في قطع الطريق استباقيا ضد التمدد الاستراتيجي والعسكري الروسي في مناطق أخرى في أفريقيا بعد تشاد وليبيا والسودان. ثالثا، قد توقد خطة التقسيم التي اقترحها ديمستورا حمى المناورات كما حدث في اجتماع طوكيو عندما اختلط على بعض الدبلوماسيين من الجانبين الحراك الدبلوماسي وحراك المصارعة الرومانية وسباق من يسقط إلى الأرض أولا. وقد تزداد الحماسة لمزيد من الصفقات والاعترافات سواء من قبل المغرب أو البوليساريو أو الجزائر. لكنها مناورات بعيدة المفعول في تغيير البوصلة الدبلوماسية التي ينفتح عليها أعضاء مجلس الأمن بين إفادة ديمستورا والتقرير المرتقب في 30 أكتوبر الجاري، فضلا عن تقرير أبريل من العام الماضي. أستاذ تسوية الصراعات الدولية والعضو السابق في لجنة خبراء الأمم المتحدة