"حاصرت" الحرب وأهوالها الصحفي المغربي عبد الرحيم التوراني في بيروت الجريحة، وهو الذي تعود التردد عليها والإقامة بين أهلها كلما زار أهله هناك، لكن الحرب التي باغتت اللبنانيين وحاصرت بلدهم من الجو والبر والبحر، فرضت عليه المكوث هناك في انتظار ساعة الفرج والنجاة. ومع مرور الوقت وجد التوراني نفسه في قلب تجربة صعبة، وهو الانسان المبدع والمبدئي الذي لم يٌخف هواه يوما لبيروتوللبنان بكل يقاعه ولأهله بمختلف أطيافهم، فخط َّ مجموعة الخواطر التي ننشرها هنا، وهي عبارة عن لحظات ولقطات مسروقة من وقت مستقطع ما بين غارة وأخرى، تحكي لنا عن اليومي والإنساني والوجداني والذاتي والموضوعي.
*** *** *** وأنا أجلس لتدوين هذه اليوميات، يراودني أحيانا إحساس بأن الكلمات تعلق في حلقي.. مثل كلمات جوفاء من دون معنى، بينما الصمت والفراغ غير المرئي هو الذي بإمكانه التعبير بالفصاحة المطلقة وبالحقيقة التي بلا قيود.. *** في الحروب يقف الموت على الأبواب.. ويدفع الناس إلى التفكير فيه حتى يجدون أنفسهم على حواف الوجود.. لكن الاستسلام لنداءات الموت لا يعني شيئا سوى الموت بذاته.. مكابدة الألم والمعاناة في صمت، ضرب من ضروب عدم الاستسلام… مهما يحدث، أضلل النفس وأهرب بها من الانزلاق إلى حافة العبث. خداع النفس قد تجد فيه بعض الهدوء النسبي والطمأنينة الذاتية.. حتى لو كان الاضطرار إلى استعارة أنفاسك من زمنك الماضي… الحديث عن الموت يمكن أن يكون مؤلماً للغاية إذا كانت الظروف المحيطة به عنيفة أو مأساوية.. *** في الحرب يحاول كل واحد أن يتهيأ كي ينجو من الأحداث المؤلمة المتربصة به. قد تنتظره في أول الشارع، أو عند عتبة مقهى أو باب صيدلية، وقد تستهلكه تحت سقف متجر لبيع المواد الاستهلاكية الأساسية.. *** لبنان يغوص ويغرق ساعة بعد ساعة.. ويوما بعد يوم.. في أزمة إنسانية كبرى.. نسخة كربونية.. رصاصية.. دموية تتكرر من سيناريو غزة.. كل يوم يتزايد عدد الضحايا المدنيين والأطفال.. الأزمة الإنسانية تؤدي في نهاية المطاف إلى توحيد البلاد وتلغي الانقسامات المدمرة بين الطوائف والمذاهب.. الغارات الجوية للعدو الإسرائيلي في ذروتها، لا تتوقف.. ونتنياهو يرتدي درع البطل الأسطوري، يقف فوق مطية عرجاء وبيده الملطخة بالدم يصيح في قواته: "تقدموا.. آلاف الرضع الفلسطينيين واللبنانيين والعرب يهددون دولتنا اليهودية المقدسة.. أطلقوا عليهم النيران.. النار.. النار… إله اليهود معنا وليس معهم…". *** في غمرة الأسى أضحك.. أتذكر العزيز الراحل، صديقنا فريموس (الصحفي حسن عمر العلوي)، ونحن نتحلق حوله في مدار "مرس السلطان" بالدارالبيضاء، وهو يتلو علينا بعضا مما حفظته ذاكرته الثاقبة، من شعر أمرؤ القيس: وُقُوفاً بها صَحْبِي علىَّ مَطِيَّهُمْ.. يقُولون لا تهلكْ أسى ً وتجلدِ.. ومن شعر الأعشى: وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِل.. وَهَل تُطيقُ وَداعاً أَيُّها الرَجُل.. وأحيانا يختمها ب: "طوبى لنا.. وبُومْبا لهم…".. بُومْبا للأوغاد القتلة.. بُومْبا لك يا نتن ياهوهوهو… *** يتبدل اللحن في القلب.. وتغتال الأغنية التي بالبال.. وتدمع أحرف الكلمات دما.. "في يوم.. في شهر.. في سنة… تهدى الجراح وتنام وعمر جرحنا أطول من الأيام…". يصادف اليوم مرور شهر على كارثة تفجير أجهزة "البايجر" وأجهزة التوكي ووكي.. الكارثة التي فسح نجاحها المجال للعدو الإسرائيلي كي يمضي بعيدا في تنفيذ مخططاته الإجرامية.. شهر توالت فيه اغتيالات قادة الصف الأول والثاني وحسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، وتدمير مناطق وقرى الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبيةلبيروت، واستهدافات في قلب بيروت وزغرتا وكسروان وجبيل. بعد مرور شهر على العدوان لم يترك العدو أي جريمة لم يرتكبها، في حرب أراد منها تصفية المقاومة، لكنّ "المقاومة في لبنان باقية وراسخة"، هذا ما يصرح به عضو من كتلة "الوفاء للمقاومة".. كتلة حزب الله البرلمانية. *** المجرم النذل افيخاي أدرعي يواصل إطلاق تحذيراته شمالا وجنوبا.. وقبل أن تنقضي كلمات تحذيراته تسبقها الغارات لتستهدف المناطق المحذرة. ولأن "وعود افخاي صادقة" فإن كل ما يشاع خلافها يبقى غير دقيق، لا سيما ما يرِد من بعض التحذيرات الأفيخاخية يحصل أن تكون مفخخة بالكذب، كأنها إشاعات تحاول أن تظهر لنا هذا الأفيخاي من أنبياء الله الصالحين الصادقين.. مواطنون يتلقون رسائل تحذيرية واتصالات إنذارية على هواتفهم، ثبت أنها زائفة، أو "فايك" بالمصطلح المتداول بين اللبنانيين، حالات من نشر الهلع والترهيب وبهدف خلق البلبلة، هي حرب نفسية موازية ضد اللبنانيين، تمهيدا لقبولهم الاستسلام أمام حرب الإبادة التي تستهدف أرواحهم… وردت اتصالات عدة للنازحين من قرى جنوبلبنان إلى بيروت والجبل تطالبهم بالإخلاء الفوري لمنازلهم. وبعد المتابعة تبين أن طلب الإخلاء هو لمنازلهم الأساسية في القرى الجنوبية وليس لأماكن نزوحهم. في مبنى بوسط بيروت يضم مكتب قناة "الجزيرة" ومكاتب سفارتين من بينها سفارة النرويج، وصلت إنذارات إخلاء متتالية. تبين لاحقا حسب مصادر أمنية لبنانية ومصدر دبلوماسي، أنها تهديدات غير صحيحة. *** تتواصل الاجتماعات والمشاورات بين المسؤولين اللبنانيين، وبينهم وبين الموفدين الأجانب الواصلين إلى بيروت، غدا من المرتقب أن تصل رئيسة وزراء إيطاليا.. وعنوان هذه اللقاءات يتمحور ويتركز حول إيجاد أجوبة عملية لسؤال: كيف السبيل إلى ممارسة أقصى ما يمكن من الضغط السياسي والديبلوماسي على إسرائيل لتوقف اعتداءاتها.. لوضع حد للعدوان الهمجي الاسرائيلي على لبنان…؟ *** "على الواهمين أن يستفيقوا من نشوة نتنياهو ومَن معه، والأمور بخواتيمها، وندعو شعبنا إلى ألا يعير بالاً للأضاليل والمحرّضين والواهمين في أن يستفيقوا يوماً في لبنان من دون مقاومة"، برلماني عن حزب الله، *** هذا الصباح انشغلت أكثر بالبحث عن إمكانية الحصول على حجز بطاقة سفر جوية.. فكرة الخروج بحرا من ميناء طرابلس شمال لبنان، ليست بالسهولة، جميع مقاعد الرحلات إلى نهاية نوفمبر محجوزة.. إضافة إلى كونها رحلة جد متعبة وطويلة، (16 ساعة)، والباخرة، في الحقيقة، ليست سوى عبَّارة قديمة استعملت سنة 2011 في عمليات لجوء السوريين الهاربين من المجازر التي ارتكبها النظام السوري أو المذابح التي ارتكبتها داعش. ولا تصل أبعد من ميناء ميرسين بالأناضول في تركيا. بمدينة ميرسين مطار صغير لا يوفر رحلات دولية أبعد من البلدان القريبة من الأناضول. في صيف 2020 جربتُ السفر بواسطة الحافلة من ميرسين إلى العاصمة اسطنبول. تطلبت الرحلة حوالي 18 ساعة.. وما خفف عني قليل من مشقة السفر أنه كان ليلا. *** يوم أمس تلقيت مكالمة على هاتفي المحمول من الصديق الأستاذ محمد غرين، سفير المغرب في بيروت.. علمت منه أنه لا جديد يذكر في موضوع "الإجلاء"، إذ لم يصدر أي قرار من الرباط بهذا الشأن والانتظار سيد الموقف.. علمت أيضا من السفير أن المسجلين لدى المصالح القنصلية بالسفارة على قوائم الإجلاء يتناقص عددهم، حيث أن بعض المسجلين بدأوا يتآلفون مع الوضع المستجد وقرروا البقاء حيث هم.. فيما تمكن آخرون من إيجاد طريقة للسفر خارج لبنان.. معظم الأعضاء العاملين في السفارات الأجنبية المعتمدة في لبنان تم إجلاؤهم مع عائلاتهم إلى بلدانهم، وتم الاقتصار فقط على الأساسيين والضروريين.. هذا ما ينطبق أيضا على سفارة المغرب. *** سرديات الماضي والحاضر والمستقبل تتوحد لتكتب عنوان قدر ينزف عنفا ودماء تلصق بالذاكرات… إن الأمر يزداد صعوبة ومأساوية.. إحساس بالقلق وبالقلق.. ليس هناك تكرار في الكلام، غير أن القلق التالي يكون أكبر من سابقه، وعندما يلتقيان وسط هذه المتاهة يتحدان بحثا عن يأس قاتل.. *** في السابق كنت أبحث عن السفر إلى المغرب عبر رحلة ترانزيت من القاهرة أو اسطنبول، اليوم أفتش عن أي حجز لأي بلد ممكن، ومنه أدبر رحلة العودة إلى الدارالبيضاء… بعض وكلاء شركات السفر أبلغوني أنه إذا لم يتم إغلاق المطار، فربما يتوفر الحجز في نهاية هذا الشهر.. *** بيني وبين نفسي، أعود دائما لأحدثها في موضوع التآزر.. لأرفع التحية عالية إلى الشعب اللبناني بجميع طوائفه، على هذا التضامن المتين الذي أبان عنه خلال هذه المحنة الرهيبة.. "هو أمر غير جديد علينا"، الإجابة من عندي، أنا من همست بها لأذني، لأني أدرك جيدا أني لن أتلقى من الآخر جوابا مختلفا عن مثل هذا الجواب المشحون بالإيمان وبالصدق والنبل الحقيقي… بيروت الأربعاء17 أكتوبر 2024