إن الحدث القوي (طوفان الأقصى) أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وكشف حقيقة ظل الإعلام الأمريكي والغربي يغطيها منذ أكثر من سبعين عاما. تتمثل الحقيقة في أن فلسطين قضية شعب اغتصب حقه، وأنه سيظل يطالب به مهما حصلت التراجعات والإكراهات. وحين لا يواكب الحدثَ القوي وعيٌ جديد، ومختلف عما كان، يفقد الحدث حيويته وقوته. يكمن الوعي الجديد في خلق ممارسة جديدة مختلفة عن المعتاد والعادي. قرأنا في بداية الطوفان أن الدول العربية تخلت عن فلسطين. أليست منشغلة بمشاكلها الداخلية، وتناقضاتها البينية؟ وكنت لا أرى فائدة من تدخلها و1967 في ذاكرتي. وجاء تدخل ما سمي بجبهة الإسناد الذي رأى فيه الكثيرون دعما للقضية، ولا أحد يمكنه نكران دوره. لكن هذا الدور الذي تقبع خلفه إيران أدى إلى تكريس كون الصراع مع حماس، وليس مع الفلسطينيين، وأن حماس ليست سوى واحدة من الأذرع الإيرانية، وبذلك فهي ضمن محور الشر الذي تختزله الصهيونية وأمريكا في إيران، وتجعله بؤرة الصراع في المنطقة. لكن الهمجية العنصرية الصهيونية والأمريكية، وما ألحقته من تدمير وتجويع وإبادة، وصمود مواطني غزة، جعل الصورة تبدأ في التغير لصالح المقاومة. وكان لما بقي من ضمير حي لدى أجيال جديدة في الغرب أن بدأ يفتح عينه على طبيعة الصراع وتاريخه لأن اسم فلسطين ممحو من ذاكرته. وظلت إسرائيل تعتبر «حماس»، للتمويه، جزءا من محور الشر، وأنها إرهابية. أما الدول المعارضة للغرب وأمريكا و»المساندة» للقضية، فالصين منشغلة بتوتر علاقاتها مع تايوان، وتراقب بذكاء، وعينها على توسيع امتدادها الاقتصادي في الشرق الأوسط وافريقيا. أما روسيا فمنخرطة في حرب مع أوكرانيا، وادعاء مواجهتها مع الغرب يسمح لها بالتوسع في مستعمراته القديمة. إنهما معا يعلنان التعاطف وتسجيل المواقف، وكلاهما لا يفكر إلا في مصلحته القومية. أما تركياوإيران فلكل واحدة منهما أهدافها وحساباتها الخاصة. لم يكن يهم إيران، أبدا، من القضية الفلسطينية سوى توظيفها للضغط على أمريكا في ملفها النووي، ورفع العقوبات. وليس لها سوى الخطاب والاستعراض، ولغة الوعد والوعيد، وتتفاخر بأن حدودها تمتد حيث أذرعها، ورغم حبس الأنفاس بعد مقتل هنية على ترابها، وجلبة «الرد الإيراني»، كنت مقتنعا وقتها، والغافل من يلدغ من جحر الفرس أكثر من مرة، وكتبت أنه: «سوف لا يبقي ولا يذر». ألا ترون ذلك؟ فماذا بقي للمقاومة الفلسطينية في غزة وهي تواجه أمريكا والصهيونية؟ علمني تحليلي السردي المختلف عن القراءات السياسية التجزيئية، أن الحدث القوي إذا لم تسنده دعوى ملائمة لا يمكن أن يتحقق برنامج سرديته، وهو يتطور مولدا أحداثا جديدة. لا بد لتحقيق الدعوى (ما يعنيه الإسرائيليون تقريبا: بنك الأهداف) من توفر مقومات وعوامل تكون لها القدرة والإرادة والمعرفة على مواجهة الدعوى النقيض، وبرنامجها. أما الدعوى النقيض فهي أسطورة الهوية الصهيونية التي تنبني على: «إسرائيل الكبرى» التي تم تصريفها سطحيا بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول في: استرجاع الرهائن. أما في العمق فإبادة غزة، ومحو القضية الفلسطينية. ونحن على مقربة من عام ظل ما في العمق هو محدد تلك الدعوى. يقول سموتريتش: «مهمة حياتي أن أحبط قيام دولة فلسطينية». هذا كلام منسجم مع دعواه! أما المقاومة فقد جعلت الحدث القوي لهدف واحد: «تبييض السجون». فبدا وكأنه هدف سطحي وعميق في آن! وجاءت جبهة الإسناد لتصب في الدعوى نفسها. وصار إيقاف الحرب هو الأساس. فكان أن وسعت الصهيونية مجال حربها، فضربت دمشق، والحديدة، والجنوب، وها هي الآن تبدأ بالاغتيالات في لبنان، وترمي إلى دخولها. طوال هذه المدة، والمقاومة صامدة أمام أعتى وأقوى دولة (أمريكا)، وذراعها في المنطقة إسرائيل. إن السابع من أكتوبر حرّك السواكن في الصراع في المنطقة. وخلف تداعيات على مستويات عدة. أظهر أن الصهيونية بلا أمريكا، لأنها دولة استيطانية، لا تصمد لمدة قليلة أمام شعب له قضية. تكمن المشكلة الجوهرية، تاريخيا، في أن مكونات القضية الفلسطينية الطبيعية تتوزع على تناقضات الدول العربية وتصطف إلى جانب من يوهمها أنه يدعمها. فصار الفلسطينيون منقسمين في ما بينهم تبعا لذلك. فلم ينطلقوا من وطنية قضيتهم التي يجب أن توحدهم، وتفرقوا بسبب صراعاتهم وتبعياتهم، فضعفت دعوى قضيتهم المركزية. فما الوعي الملائم الذي كان يمكنه مواكبة الحدث القوي؟ لو وقع الحراك في الضفة مباشرة بعد السابع من أكتوبر لكانت الأحداث المتولدة مختلفة جذريا. لكن الوعي، الذي رأى الحدث مسوغا لإبادة غزة، ها هو تحت وطأة مصيرها: مداهمات، اعتقالات، تدمير. ولو أن حزب الله، والميليشيات العراقية السورية، وضعت لها برنامجا مختلفا: تحرير الجنوب، والجولان، لكان مضمونه أكبر من جبهة إسناد، ولكان بإمكان المفاوضات الممكنة أن تأخذ مسارات أخرى، وتفرض أبعادا ونتائج مختلفة. ولو أن الحوثيين فتحوا حوارا داخليا، ومع جيرانهم لكانوا بذلك السند الحقيقي للقضية، لأنهم بذلك سيحولون الصراع بينهم إلى برنامج لمواجهة الحرب ليس بهدف وقفها، ولكن بتوحيد تصور حل الدولتين. أما إيران فقد انكشفت بشكل مطلق، وبيروت تتعرض للقصف الهمجي، نجدها تنادي بمفاوضات مع أمريكا حول ملفها النووي؟ إن عدم تجاوز الوعي السائد، وعدم توحد المقاومات على برنامج قوامه التحرير، يجعل الدعوى الصهيونية متحكمة في الصراع، وأمريكا تديره حسب رغبتها، و»الرأي العالمي» يتفرج منتظرا من تتحقق دعواه المركزية.