اليوم 28 شتنبر، يمر 45 عاما بالتمام والكمال على وفاة الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، والذي كان ملقبا في وطنه بزعيم الأمة العربية . لكن استعادة ذكري عبد الناصر التي ترافقت مع صعود الجنرال عبد الفتاح السيسي الى حكم أكبر بلد عربي امتزج بزواج مستغرب بين الناصرية والساداتية . وكان لافتا ان صور الرئيسين عبد الناصر والسادات ظهرت متجاورة وفي اطار واحد يجمعهما بالسيسي منذ الاطاحة بأول رئيس مدني منتخب ديموقراطيا (الإخواني محمد مرسي) في 3 يوليو 2013. الصور التي تجمع الثلاثة الذين يستندون الى خلفية عسكرية لم توفر حتى مدرعات الجيش في شوارع المدن.وقد تحولت الى ملصقات ملونة على جدرانها الفولاذية الصفراء . وحتى الاحتفال بافتتاح تفريعة جديدة لقناة السويس في 6 غشت الماضي خلف على جدران محطات مترو أنفاق القاهرة صورة عملاقة يتصدرها السيسي وتجمع بين عبد الناصر والسادات. علما بانهما طالما لاحا كنقيضين في السياسات والتوجهات على مدى أكثر من أربعة عقود من تاريخ مصر. ما يمكن ان يطلق عليه بظاهرة "الناصرساداتيه " في الحقل السياسي وقد جمعت بين النقيضين العدوين " الناصريين " و " الساداتيين " منذ نحو العامين تجد ترجمة لها الآن على صعيد الثقافة . و أخيرا صدر عن دار الهلال وهي واحدة من أكبر و أعرق دور الصحافة والنشر التابعة لسلطة الدولة في القاهرة كتاب ألفه السادات عام 1957 بعنوان: "يا ولدي هذا عمك جمال". هذا علاوة على اعادة نشر كتاب قديم آخر للرجل نفسه بعنوان :" أسرار الثورة المصرية ". والمقصود ثورة 23 يوليو ( جويليه ) عام 1952 التي بدأت بانقلاب عسكري على ملكية أسرة محمد على . لكن في ماضي" ياولدي هذا عمك جمال " وتاريخ هذا الكتاب على وجه التحديد ما يلخص تقلبات ومفارقات عالم السياسة عند العرب . فقد خط السادات كتابه هذا مخاطبا إبنه الوليد مع العدوان الثلاثي ( البريطاني الفرنسى الاسرائيلي ) على مصرإثر تأميم قناة السويس عام 1956 "جمال السادات" . لكن الكتاب مع تولى الأب السلطة خلفا لعبد الناصر أصبح طي النسيان . وببساطة فقد انقلب السادات على سياسات سلفه . وأطاح بعدد من رجاله المقربين في مايو ( ماي) 1971 واحتفظ بآخرين من بينهم الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل . لكن الغمز واللمز في عبد الناصر سرعان ما تحول في خطب الرئيس السادات الى مجاهرة بالعداء والنقمة بعدما خاض حرب أكتوبر 1973 مؤسسا شرعيته الخاصة كحاكم للبلاد. وفي هذه الأجواء كان كتاب " ياولدي هذا عمك جمال " أشبه بعملة نادرة أو سوءة ماضي يتعين دفنه . عبد الناصر عند السادات الكتاب الذي يخاطب في صفحاته السادات ابنه الذكر الوحيد "جمال " الذي اسماه على أسم رفيقه في تنظيم الضباط الأحرار ورئيسه وزعيمه لاحقا يكيل مديح بلا تحفظ لعبد الناصر . ويمنحه دور البطل الأول بل الأوحد لثورة 23 يوليو ( جويليه ) 1952 . ويروى معارك الزعيم مع الاستعمار وبخاصة مع البريطانيين والفرنسيين والأمريكيين . قال :" جمال عبد الناصر عمك يابني الذي سميتك على اسمه وصديقي ورئيسي الذي أحبه واحترمه منذ كنا ضابطين صغيرين في منقباد ( منطقة جنوبي مصر ) سنة 1938 .عمك جمال هذا يابني يمتاز بالاقدام والايمان بمصر واستقلالها وكرامتها ايمانا صلبا عنيدا...". والسمات الشخصية لعبد الناصر في صفحات هذا الكتاب تشمل حب الغير والتضحية بالذات والإيثار واعلاء قيمة الصداقة وحب الوطن وعمق النظر الى المشكلات واتخاذ القرار الحاسم بعد روية ودراسة . لذا لم يكن نشازا ان قالت صفحات الكتاب :"ينهار وينهزم أمامه انطوني ايدن رئيس وزراء بريطانيا الذي قضى ثلاثين عاما يصرف السياسة الدولية ويتحكم في مقادير البشر ". ولأن عبد الناصر كما قال السادات عام 1957 :" يحسب حساب كل شئ ويستلهم وحيه من روح شعب مصر البسيطة المسالمة ، وهي نفس الروح التي تحطم القيود وتنسف السدود اذا غضبت أو ثارت". لكن لعبد الناصر عند السادات عام 1978 عندما أصدر كتابه " البحث عن الذات : قصة حياتي " شأن آخر وصور معاكسه تماما لما قال في 1957. هنا فإن " العم جمال " الذي كان موصوفا بانه ينتصر في كل المعارك لأنه " صادق مع ربه ومع نفسه ويحاسب النفس دائما أقسي واعنف حساب في الوقت الذي يلتمس لغيره كل ابواب العفو والغفران ويحفظ العهد ويصدق الوعد ويخلص الود ويتقي ربه في سره قبل العلن" يتحول ببساطة الى " متآمر وشكاك وحاقد وتتملكه انفعالاته ".وفي ذلك قال السادات نصا في " البحث عن الذات ":" لم يكن من السهل على عبد الناصر ان ينشئ علاقة صداقة بمعني الكلمة مع أي أنسان وهو المتشكك الحذر الملئ بالمرارة العصبي المزاج". وهو "تنفجر ثورته كبركان تصيب حممها الطائشة وتلهب وتؤذي بلاسبب ودون أي اعتبار ". ولقد انتهى السادات في كتابه عام 1978 الى ان عبد الناصر ترك لمصر مجتمعا يسوده الخوف والبطش والمحسوبية ومحاباة الأقارب .وعلى خلاف هذا فان السادات في كتابه " ياولدي هذا عمك جمال" الذي يعود للقراء بعد نحو 45 عاما من النسيان والاخفاء يحرق البخور لعبد الناصر . فهو وفق صفحات الكتاب وبلغة عاطفيه "الحبيب العائد".و فيما يشبه المناجاة الدينية قال :" جمال يارب من صنعك الرائع وابداعك القاهر .. ولقد نصرتنا به يارب في مواطن كثيرة". تكريم على تكريم دار الهلال احتفت باعادة اصدار كتابي السادات " ياولدي هذا عمك جمال " و" أسرار الثورة المصرية" .والاخير صدرت طبعته الأولى في بعيد الثورة واثناء سطوة وحكم عبد الناصر . وقال رئيس مجلس ادارة الهلال " غالي محمد" في حفل توقيع اقيم بواحد من افخم فنادق القاهرة وبحضور زوجة الرئيس الأسبق "جيهان السادات ":" الدار اعادت الطبع لكي تعرف الاجيال الحالية تاريخ مصر . و اعادة الطبع في حد ذاتها فكرة تكريمية للسادات " . بل وذهب الى القول بأن الرئيس عبد الفتاح السيسي وراء دعم دار الهلال في مبادرتها تلك . وفي عدد مجلة " المصور " الصادر عن دار الهلال في 9 سبتمبر ( شتنبر) الجاري حوار مطول مع السيدة " جيهان " .وأيضا صورة تجمع بينها وبين القطب السياسي الناصري ورجل الدولة الدكتور يحيى الجمل، وهما يتصافحان ويبتسمان . مفارقة أقوال السادات عن عبد الناصر بين عامي 57 و 1978 لا تقتصر على التحول من النقيض الى النقيض في رسم سمات الشخصية . بل تضرب مصداقية رواية الوقائع التاريخية أيضا . وعلى سبيل المثال فان سادات " البحث عن الذات" يجعل من نفسه هو مؤسس وقائد تنظيم الضباط الأحرار الذي اطاح بالملكية في مصر مدعيا ظهورعبد الناصر على مسرح الأحداث وفي قيادة هذا التنظيم لاحقا . أما سادات " ياولدي هذا عمك جمال " فقد توارى تماما وجعل التأسيس والقيادة منذ البداية ودائما لرئيسه وزعيمه عبد الناصر ودون اي منازع او شريك . وحتى في تقييم السادات لتأميم جمال لقناة السويس وماتلاها من عدوان ثلاثي على مصر عام 1956 يستبدل ماكان من مديح لحكمة وصوابية قرارات عبد الناصر في صفحات " ياولدي هذا عمك جمال بالقول في " البحث ع الذات" بأن القرار " لم يكن مدروسا بل وكان متهورا " لأنه جر على مصر الحرب من دون ان تكون مستعدة لها . مفارقات السادات 57 و 1978 تعكس تقلبات الكبرى في تحالفات مصر الدولية . فمن مديح الاتحاد السوفيتي الى مهاجمته ومن الهجوم على لندن وباريس وواشنطن الى نفاقهما . والأمر نفسه ينطبق على المملكة العربية السعودية وأسرتها الحاكمة . واللافت ان كتاب " ياولدي هذا عمك جمال " الذي أعيد نشره في زمن السيسي والسعودية كداعم اقليمي رئيسي لنظامه تضمن إتهام الملك الأسبق سعود بالتآمر لحساب الأمريكيين لاغتيال عبد الناصر مرتين وبدفع أموال لقتله. وهذه المعلومات تطلع عليها أجيال جديدة من المصريين للمرة الأولى الآن .ويري المراقبون في اعادة النشر على هذا النحو احراجا لعلاقات البلدين في توقيت حساس. هكذا الثقافة كما السياسة في مصر تشهد ظهورا لتحالفات الأضداد او ما يطلق عليه " الناصر ساداتيه " على خلفية اعادة تفسير تاريخ الدولة المصرية الحديثة في مواجهة الإخوان المسلمين . وتحديدا الترويج لمقولات تجعل من المؤسسة العسكرية عماد هذه الدولة بل جوهرها واصلها التاريخي . وهكذا يتصالح السادات وعبد الناصر بعد عقود من العداء . هذه المرة يصالح السادات عبد الناصر بعد أن اشبعه سخطا وهجوما وتجريحا قبل أكثر من اربعين عاما . لكن هكذا مصالحة تنطوى على مفارقات تفضح كذب الحكام والساسة العرب وتناقضاتهم ورياءهم . مفارقات السياسة هذه يبدو وكأنها تلين في يد الاقتصاد . لذا يبقى أن نشير الى ان الولد " جمال " المسمي باسم أبرز زعماء الاشتراكية العربية والاستقلال الوطني وتنمية الاعتماد على الذات أصبح رجل أعمال ينخرط في بزنيس الرأسمال الاقليمي والعالمي . وهذا هو ما انتهى اليه أيضا بعض أبناء عبد الناصر نفسه . فقد اصبحوا هم بدورهم وعلى درب ابناء الحكام العرب السالك: رجال أعمال . .وربما في هذا أيضا وجه آخر للمصالحة