تتطور المعرفة البشرية بتطور بعض المجتمعات التي تسهم في إنتاجها، في زمن من الأزمنة، بسبب تقدمها عن غيرها من المجتمعات المعاصرة لها. ولهذا نجد تلك المعرفة، عامة، تتحول تاريخيا من مكان إلى آخر تبعا لتحول تواريخ الأمم والشعوب بناء على تطورها الحضاري، ويكون لها تأثير على غيرها، حسب نوع العلاقة التي تربطها بها. مع الثورة الرقمية المنبثقة عن تحول الغرب منذ الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، ظهرت علوم جديدة، فكان الانتقال من عصر المعلومات إلى عصر إنتاج المعرفة. ومتى ظهرت معرفة جديدة كانت الضرورة تستدعي أهمية النظر والتفكير فيها، والبحث عن طبيعتها، ووظيفتها، وآثارها معرفيا، واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. كان إنتاج المعرفة التي تفرض نفسها على المجتمعات القديمة يتحقق من خلال الحكيم أو الفيلسوف أو الشاعر، ثم صار مع رجل الدين أو الفقيه. وقد تواصل في العصر الحديث مع الكاتب والعالم، منتهيا في العصر الرقمي مع الراقم (مهندس البرمجيات). إذا كان التفكير في صلاحية المعرفة قد أدى إلى بروز «نظرية المعرفة»، لدى اليونان، فإن المعرفة الإسلامية نجمت عنها «أقسام العلوم»، وما اتصل بها من بحث في العلم وآدابه وشروطه ومقاصده، فإن الإبستيمولوجيا، باعتبارها علم العلوم، ظهرت عندما استقلت العلوم عن الفلسفة، وتعددت فروعها واختصاصاتها التي عرفتها في القرن العشرين. ومنذ الثورة الرقمية في أواخر القرن الماضي، وبداية الألفية الجديدة، تطور الكثير من العلوم، وظهرت علوم غيرها متصلة بالرقامة التي عملت على دمقرطة الثقافة والمعرفة. لعب الوسيط الرقمي دورا مهما في الهيمنة على غيره من الوسائط، وقد صارت على اختلاف أجناسها تعتمده بشكل مواز مع ما كانت تتعامل به قبل ظهوره. فإذا كانت المؤسسة الجامعية، ودار النشر المحكمة، والمجلات العلمية هي التي توزع المعرفة، وساهمت إلى جانبها الوسائط الجماهيرية في تكريس تلك المعرفة، وكان الكاتب والمفكر والعالم هم العلامات المميزة لهذه الوسائط، فإن وسائل التواصل الاجتماعي جعلت من كل فرد، كيفما كان مستواه الثقافي، قادرا على أن يكون له موقع أو منصة ينشر فيها ما يشاء من معتقدات وآراء، بغض النظر عن مضمونها أو شكلها. وإذا كانت الكتابة هي الأداة الأساسية لإنتاج المعرفة، سهَّلت الوسائط الجديدة استعمال الصوت والصورة، بكيفية أساسية في التواصل بين الأفراد والجماعات. إذا كنا نتحدث، سابقا، عن العالم والمفكر والكاتب والمثقف بات الحديث الآن، عن «المؤثر» و»الناشط الحقوقي» و»الوسيط الثقافي»، وصار المستعمل للنشر والتلقي يتصل وصفه بأحد وسائل التواصل الاجتماعي: (اليوتيوبر مثلا، أو الفيسبوكي). وقد أدى هذا التطور في وسائل إنتاج المعلومات والمعارف وتطور تلقيها على نطاق واسع إلى بروز «الإبستيمولوجيا الاجتماعية» لتجيب عن أسئلة تتعلق بأنواع المعارف، والفاعلين في إنتاجها وترويجها وتلقيها، ودورها في الحياة الاجتماعية. تعتبر الإبستيمولوجيا الاجتماعية فرعا من الإبستيمولوجيا، بل يمكن النظر إليها كونها توسيعا للإبستيمولوجيا عن طريق الانتقال بها من الفردي إلى الاجتماعي، ومن المعرفة العلمية إلى كل أشكال المعارف والمعتقدات. وإذا كانت الإبستيمولوجيا تهتم أساسا بالبحث في طبيعة المعرفة العلمية ومسوغاتها المختلفة من خلال إنتاجات العلماء، والنظر في مدى ملاءمتها العلمية، فإن الإبستيمولوجيا الاجتماعية التي بدأت تبدو اختصاصا له مميزاته في التسعينيات مع سطيف فوللر (1991) الذي طرح سؤالا عن البعد الاجتماعي لولوج الأفراد إلى المعارف المختلفة، وكيف يمكن تنظيم الإنتاج المعرفي، الذي تطور مع ألفين غولدمان ، ومع غيره من الباحثين الذين ساهموا في الكتاب الجماعي الذي أشرف عليه صحبة دنيس ويتكوم: «الإبستيمولوجيا الاجتماعية» (2011)، مرورا بالكثير من الدراسات الخاصة بهذا الاختصاص، ومن بينها دليل روتليدج للإبستيمولوجيا الاجتماعية (2019)، وانتهاء بكتاب كارين فروست أرنولد: «من يجب أن يكون على الإنترنت: الإبستيمولوجيا الاجتماعية من أجل الإنترنت» (2023)، يتبين لنا أن سؤال المعرفة صار بلا حدود، وأن الفاعلين في إيصال أنماط المعارف والأفكار أدى إلى طرح أسئلة جديدة ذات طبيعة إبستيمولوجية تبحث في العلاقات بين الأفراد، والجماعات، وأدوار الوسائط الجديدة في خلق علاقات جديدة. فكان من نتائج ذلك أن ظهرت اتجاهات ومدارس وتيارات تتوزع اهتماماتها في رصد هذه الظواهر الجديدة، وتحليلها باعتماد المناهج العلمية والتجريبية. هذه «المعرفة» الجديدة التي بدأت تفرض نفسها في الوسائط الاجتماعية العربية والتي بات سدنتها ممن يسمون أنفسهم مختصين، ومؤثرين، وفاعلين تساهم في نشر «أفكار» و»معتقدات» تنزاح عما كان بالإمكان إنتاجه من معارف باستخدام الوسيط الجديد. وقد أدى غياب الفاعلين الثقافيين الذين ساهموا في إنتاج الثقافة العربية قبل انتشار هذا الوسيط إلى هيمنة خطابات لا تساهم في نشر ثقافة جديدة، ولا أفكار قابلة للتطوير. فكان أن صار الجميع يسلم بهيمنة ثقافة الرداءة والتفاهة. فما هو الموقف الذي تحتاج إليه المعرفة العربية بهدف تجديد نفسها، بما يتلاءم مع العصر الرقمي؟ وهل السجال كاف للوقوف ضد التفاهة؟ دون الاختصاص، ودون الاهتمام بإبستيمولوجيا اجتماعية ذات خصوصية عربية لا يمكن للمعرفة في بعدها الاجتماعي أن تتأسس على ركائز قابلة للتطوير والتقدم.