في هذا المقال، الذي نشره الاستاذ محمد الدعداوي، الباحث في العلوم السياسية في جامعة «اوكلاهوما» الامريكية، في مدونته على موقع صحيفة «الواشنطن بوست» الامريكية، يستعرض قراءته للتقدم الذي حققه حزب «العدالة والتنمية» خلال الانتخابات المحلية الأخيرة. يرى الدعداوي أن الحزب الإسلامي يقود ثورة هادئة مبنية على أسلوب جديد وفريد في الممارسة السياسية، وأن النتائج التي حصل عليها في هذه الإنتخابات تشكل قطيعة مع الممارسات القديمة للنظام السلطوي رغم صلاحياته المحدودة امام السلطات الواسعة للملكية ونفوذ حكومة الظل المكونة من مستشاري الملك. نورد في ما يلي ترجمة للنص الكامل للمقال: ترجمة سعيد السالمي لا شك أن حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي حقق مكاسب انتخابية هامة خلال الانتخابات المحلية المغربية الأخيرة، واستطاع أن يضيء بمصباحه، الذي يتخذه كشعار، صناديق الاقتراع في المناطق الحضرية في أول اختبار انتخابي له منذ فوزه بأغلبية طفيفة من الأصوات خلال الانتخابات التشريعية عام 2011. في منطقة فشل فيها إسلاميون آخرون في الهيمنة على الدولة والمجتمع، سواء عن طريق الاختيار أو عن طريق الإكراه، حقق الإسلاميون المغاربة في حزب «العدالة والتنمية» انجازاً انتخابياً آخر، رغم أنهم يشتغلون في ظل نظام محدود أمام نفوذ حكومة الظل المشكلة من مستشاري الملك، وفي ظل السلطات التقديرية الواسعة التي تتمتع بها المؤسسة الملكية. وعلى عكس إسلاميين آخرين في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وربما لأنه استخلص العبر من تجارب الإخوان المسلمين في مصر وحزب النهضة في تونس، فإن حزب «العدالة والتنمية» لا يسعى إلى تغيير شكل النظام، بل إن أعضاءه يركزون على نهج ممارسة جديدة، وأسلوب عملي شمولي في الحكامة، يهدف إلى تغيير المجتمع والدولة عبر ثورة تدريجية «هادئة». لقد شهدت الانتخابات المحلية للرابع من سبتمبر نسبة تصويت عالية قدرت ب 53 في المائة من مجموع 14.5 مليون ناخبا مسجلا في اللوائح الإنتخابية لانتخاب 31503 مقعدا في الجماعات الحضرية والقروية في جميع أنحاء المملكة. ومع أن عدد الأحزاب السياسية التي قدمت مرشحيها بلغ 30 حزبا، فإن السباق الرئيسي دار بين حزب «العدالة والتنمية» الاسلامي، الذي يقود الحكومة الائتلافية منذ نوفمبر 2011، وحزب «الأصالة والمعاصرة» الموالي للقصر، والحزب التاريخي حزب «الاستقلال». كما أن عدد المرشحين عن حزب «الأصالة والمعاصرة» فاق نظيره لدى الأحزاب الأخرى، خاصة في المناطق القروية التي تمثل أكثر من 76 في المائة من جميع الدوائر الانتخابية في المغرب. ومع ذلك، فإن هذا الحزب الموالي للقصر، والذي أسسه مستشار مقرب من الملك محمد السادس، لم يحرز إلا على نسبة 21 في المائة من المقاعد، متبوعاً بحزب «الاستقلال» بنسبة 16 في المائة من المقاعد، يليه حزب «العدالة والتنمية» بنسبة 15 في المائة من المقاعد. وبشكل عام، فقد فاز حزب «الأصالة والمعاصرة» برئاسة خمسة من المجالس الجهوية ال12 (يضم مجلس الجهة مجموعة من المجالس القروية التي تخضع فيها الانتخابات لتلاعب السلطة) مقابل مجلسين لحزب «العدالة والتنمية». ومع ذلك، فقد فاز حزب «العدالة والتنمية»، داخل هذه الجهات، بعموديات معظم المدن الكبرى كالدار البيضاء ومراكش والعاصمة الرباط والقنيطرة ومكناس وآسفي والمدن الشمالية كطنجة وتطوان، والمدينة الساحلية الجنوبية أكادير، وخصوصا المحمدية التي هزم فيها الأمين العام لحزب «الأصالة والمعاصرة»، مصطفى الباكوري، وفاس حيث أطاح أيضا بالعمدة المتنهية ولايته، الامين العام لحزب الاستقلال حميد شباط. في المجموع أحرز حزب «العدالة والتنمية» على 25 في المائة من المقاعد في المناطق الحضرية، فيما أحرز حزب «الأصالة والمعاصرة» على 19 في المائة، وأحرز حزب «الاستقلال» على 17 في المائة. ومعظم المقاعد المهمة التي حصل عليها حزب «الأصالة والمعاصرة» وحزب «الاستقلال» كانت في المناطق القروية، مبرزة بذلك حدة الفجوة بين العالم الحضري والعالم القروي في المغرب؛ حيث أن ساكنة الأول في معظمهم أكثر تعليما، وبالتأكيد أقل عرضة للإرتشاء، في حين أن سكان الأخير في الغالب أميون وأكثر عرضة للتاكتيكات الانتخابية للمرتشين. وقد ظهر حجم التفوق الانتخابي لحزب «العدالة والتنمية» بشكل جلي في الإنتخابات الحالية، على عكس انتخابات سنة 2009 التي لم يتجاوز فيها نسبة 5.5 في المائة من المقاعد. أي أنه في ظرف ست سنوات، استطاع أن يضاعف ثلاث مرات رصيده الانتخابي من المقاعد القروية والبلدية. وإذا كان فوزه في مدينة فاس قد اكتسى رمزية خاصة، حيث ظل اسم هذه المدينة، لمدة طويلة، رديفا للنخبة السياسية الحاكمة في المغرب، فإن الانتصارات الانتخابية التي حققها تجسد بشكل عام قطيعة مع الدعائم الأساسية للنظام القديم وممارساته الفاسدة. إن الفضل في فوز «العدالة والتنمية» يعود إلى آلته الإنتخابية الهائلة، وتنظيمه المحكم في المراكز الحضرية على الخصوص. لقد خاض حملة انتخابية نظيفة ومنظمة، وعمل على تعبئة الجماهير عبر شبكة واسعة من الأنصار والمؤيدين. في الوقت الذي تحدثت فيه بعض التقارير الصحفية عن الممارسات الانتخابية الفاسدة لحزب «الأصالة والمعاصرة» وحزب «الاستقلال»، وقالت إنهما فرقا الأموال والهدايا على الناخبين مقابل التعهد بالتصويت. وعلى العموم، فقد كانت الحملة الإنتخابية شرسة، خصوصا على وسائل الاعلام الاجتماعي حيث حاول كل طرف أن يقدم صورة إيجابية عن وعوده الانتخابية. وفي ما يشبه استعراض حصيلة العمل الحكومي، بنى حزب العدالة والتنمية حملته الإنتخابية على منجزاته في ما يتعلق بالإستقرار السوسيو اقتصادي ، وقطاع العدالة، والنزاهة، تحت شعار حملة «صوتنا فرصتنا لمواصلة الإصلاحات». وكان فعالا للغاية في استخدام الملصقات، وأشرطة الفيديو على اليوتيوب، والتغريدات على التويتر والفيسبوك، والرسوم البيانية التي توضح نجاحاته المفترضة، سيما خفض التضخم، وخفض العجز في الموازنة العامة للدولة، والعمل على مكافحة الفقر والبطالة. وفي الأيام الأخيرة قبل الاقتراع، خلق الحزب الإسلامي ضجة كبيرة، وكان يحشد جموعاً ضخمة لتجمعات مرشحيه أينما حلوا وارتحلوا، بما فيها التجمعات الخطابية التي عقدها زعيم الحزب ورئيس الحكومة الائتلافية عبد الإله بن كيران وحضرتها عشرات الآلاف من الأنصار بغير قليل من الحماس والإعجاب لقد أحدث «البيجيدي» تغييرا بارزا في الحسابات السياسية في المغرب، وقدم بديلا فريدا في الحكم بأسلوب قل نظيره في مرحلة ما بعد الاستقلال. إن استراتيجية حزب «العدالة والتنمية» على المدى الطويل تعتبر في واقع الأمر ثورة هادئة «غرامشية»، حيث تعمل على التخفيف من الطابع السلطوي للدولة وفق قواعد اللعبة السياسية التي سطرها النظام الملكي، وفي الوقت نفسه تسعى إلى معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية الرئيسية التي تعاني منها البلاد. لقد بات العديد من المغاربة يولون اهتماما متزايدا لخطاب النزاهة والشفافية وباتوا أقل استهتارا بالمشهد السياسي. في مقابلة صحفية أجريت مع عبد الإله بن كيران في يوليوز الماضي، أظهر، بأسلوب جدير برجل دولة، عن ثقته الكبيرة في خارطة طريق حزبه، وفرص نجاحه في الانتخابات المحلية الحالية. وما من شك أنه يعمل على تأطير مساعديه وقيادته في الحزب على الإشتغال وفق استراتيجية براغماتية تقبل بموقعها السفلي في تراتبية النظام السياسي. وقد قال في المقابلة ذاتها إن الخيارات البديلة المبنية على «الرفض والعزلة» في تلميح إلى جماعة العدل والإحسان المحظورة لم تسفر عن نتائج تذكر. بل إنه جزم أن حزب «العدالة والتنمية« أحسن الاختيار عندما قرر في منذ سنة 1992 أن ينضم إلى المشهد السياسي.