يسري اليوم تماما على رثاء وصايا المذابح الإسرائيلية الصادرة في حقِّ الفلسطينيين، بكل رعونة وتجبُّر وظلم كبير،تلك المقولة الشهيرة :ألا يوجد بين ظهرانيكم رجل رشيد؟على منوال الآية القرآنية :"أليس منكم رجل رشيد"(سورة هود).فكم تبدو حاجة عالمنا المعاصر بكل مآزقه المستعصية،إلى زعماء حكماء بوسعهم إرشاد البشرية نحو مرافئ النجاة. هانحن قد بلغنا الشهر الرابع،مع ذلك تنمُّ توجهات المنتظم الدولي بخصوص جنائزية يوميات غزة تظهر،كما لو استأنس فعلا بما يجري،واللا–عادي الذي تمضي تفاصيله بكل تلك الوحشية غير الآدمية،قد اكتسى بحكم الاجترار اليومي وضعا طبيعيا، كأنَّها مجرد حوادث عادية على منوال باقي الأحداث،يمكن لأهل الإعلام الإخبار عنها بنفس إيقاع سياق الأخبار الروتينية. مبدئيا،لم تكن قط الحرب خلال يوم من الأيام،واقعة معتادة قياسا لتجليات الفعل الإنساني،بل تظهر على العكس قصورا أخلاقيا جليّا بخصوص استتباب مقومات وازعه الإنساني ذاك،وعجزه الجوهري عن ملامسة أفق تساميه،بالعثور على حلول للمشاكل الحياتية وفق نوازع الحكمة التعقل. تظلُّ الحرب بعد كل شيء،توطيدا للعنف وتسيُّدا أبله للقتل،تشي بأنَّ التفكير البدائي،لازال كامنا،أو بالأحرى أضحى بكيفية ملموسة منذ الضعف البيِّن الذي اكتسح المؤسسات الدولية أمام زحف القوى الجديدة للمنظومة الليبرالية المتوحشة،ملاذا جاهزا، بخصوص التفكير في حلول لمآزق لوضع البشري،لاسيما و أنَّ رقعة المشاكل النوعية،اتسع مداها الكمِّي بحيث تهدِّد جذريا بقاء البشر ضمن إطار مقوماته الأصيلة. متى تتوقف الحرب في غزة،ثم التئام نخبة صنَّاع خرائط دومينو العالم المعاصر، كي يعالجوا جدِّيا مشكل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي برؤية متكاملة تجرَّدت عن كل الأهواء الاستعمارية؟لاأحد يملك جوابا يقينا،على امتداد القارات الخمس،سوى رؤى استراتجيات حكومة الطوارئ أو المجلس الحربي الإسرائيلي؛الذي تشكَّل هيكله يوم الحادي عشر من شهر أكتوبر،يرأسه بنيامين نتنياهو أو عطية الله باللغة العبرية،ثم وزير الدفاع يوآف غالانت،ورون ديرمر وزير الشؤون الاستراتجية بجانب وزيرين بلا حقيبة. ارتأت جملة قرارات الأعضاء الخمسة،منذ الساعات الأولى لبداية المواجهة،طبعا برئاسة نتنياهو،جعل ساكنة غزة يكتشفون بالملموس معنى أن يموت الشخص إبَّان اللحظة الواحدة ميتات عدَّة،فأذاقوهم طعم العلقم في خضمِّ عقاب جماعي وحشي جدا،مقرف للغاية بكل لغات الكون،نصبوا المشانق في كل مكان،طغوا طغيان الباغي الذي لايعرف رحمة ولاشفقة،تحت دافع مبرِّرات خرافية من قبيل : *القضاء نهائيا على المقاومة الفلسطينية،مع أنَّ الأخيرة فكرة،والأفكار لاتموت أبدا. يستحيل استحالة تامة اجتثاثها. * إخلاء غزة من ساكنتها،بكل الأساليب القهرية،مع أنَّ الفلسطيني مافتئ يكرر ويكرر أمام كل تلفيزيونات الدنيا،بأنه لايريد يا أخي أرضا أخرى غير أرضه،ولامكانا ثانيا غير فضاء فلسطين. *تخليص الرهائن الإسرائيليين من أيادي المقاومة،مع أنَّ الرهائن وعائلاتهم في تل أبيب،استمر تأكيدهم منذ الأسابيع الأولى للحرب،على مناصرتهم لوقف إطلاق النار،و الأفضل الاحتكام إلى المفاوضات السلمية. إذن،ضدّ كل قواعد العقل وأدبيات الحكمة،يضمر نتنياهو خططا أخرى،بناء على مرجعية توجيهية واحدة تستلهم نزعتها من فلسفة وحيد القرن،الذي لايبقي ولايذر،متعقِّبا بهذا الأسلوب في تقييم طبيعة الصراع تراث أستاذه الجرَّافة أرييل شارون،متوخِّيا بالدرجة الأولى اقتلاع غزة وأهلها من مكانهما، كأنَّهما لم يكونا أبدا بشرا ومكانا،وسباقه الزمان قصد توثيقه إبادة بشرية غير مسبوقة،لذلك تستمر ماكينة تفعيل تعطشه للقتل،حتى ينقد جلده من سلطة العدالة إذا توقفت أصوات المدافع دون أن يسفر سعيه على بلوغ نتائج ملموسة وحقيقية للدولة العبرية. أفق يطرح معادلة سوريالية أكثر مما يكفي،بخصوص مبرِّرات المذبحة الجارية في حق الفلسطينيين : يتوقَّف خلاص فرد واحد سياسيا،على إعدام جماعة بشرية وجوديا. بلغة تأويل ثانٍ،بقاء سياسي تحكمه جملة وتفصيلا اعتقادات متخلفة للغاية تعود بأصولها إلى العهد القديم قبل قرون طويلة من تحقيق البشرية لمفاهيم الدولة الحديثة،حسب مرتكزاتها العقلانية وأجهزتها التدبيرية للاختلاف. يقتضي رهان بقاء نتنياهو في الواجهة،اجتهاده دون تردُّد في القتل ثم القتل،من الصباح إلى الصباح،باسم القضاء على الإرهاب وتأمين دائم لحدود الدولة العبرية. استراتجية هوجاء متشبِّعة بمنطق الأرض المحروقة،تؤدي فقط إلى إثراء و إغناء وتكريس مشاعر العنف،ولن تنجح بخصوص تقويض مكامن القناعات والمرجعيات المبدئية،مهما راكمت الآلة العسكرية الجثث والخراب. لن يؤدي خيار الحديد والنار الذي تبناه قطعيا نتنياهو وحلفاؤه،سوى إلى توطيد وترسيخ ومأسسة وشرعنة دوامات العنف التي لاتنتهي سوى لتبدأ،ولاتبدأ إلا كي تنفتح على جحيم المجهول،بحيث تأخذ هندسة لولبية دون نهاية قابلة للافتراض. يبدو أسياد هذا العالم"المتحضِّر"،كأنَّهم يستمتعون أمام شاشة سينمائية بمتابعة أطوار مجزرة غزة، باعتبارها مجرد متواليات فنية تسرد فيلم رعب من النوع الفني الجيد،لاأقل ولا أكثر،يتيح لهم ضمنيا جلسات نفسية استشفائية للتطهير من غرائزهم المريضة. يتابعون حيثيات الموت بروح ميِّتة،وكأنَّ هذه الموت ليست موتا،بحيث لاتثير أحاسيس الاستغراب الاستنكاري : لماذا يموت الفلسطينيون،مثلما ماتت طبعا مجموعات إنسانية أخرى في جغرافيات مختلفة،بتلك الأساليب الوحشية. من يمتلك القدرة على كبح جماح نتنياهو،ومحاصرة هذا الشرّ المتدفِّقِ من أقبية مجلس الحرب الإسرائيلي؟شرّ يحوي بالضرورة،بذرات شرور كثيرة ستنمو هنا وهناك،تمتد آثارها بلا ريب طيلة أجيال،لذلك سيكون من باب السذاجة المطلقة،الاعتقاد بإمكانية نجاح الحسم العسكري،إن تحقَّق أصلا،يمكنه بجرة قلم طيِّ كل مايحدث،ثم تحيا المنطقة برمتها تحت كنف الحضن الأمريكي–الإسرائيلي دون زفرة تمرُّد يذكر. عكس تأويلات سطحية من هذا القبيل،ستنتعش بالتأكيد بذرات العنف،فأطفال غزة الخاضعين قصدا وعمدا لعقوبات التقتيل والتجويع والتعذيب والتهجير والتدمير النفسي،حتما لن ينسوا وقائع الجريمة وسيحتفظون طيلة زمن حياتهم،بتراكم جروحهم حيَّة،ملتهبة،لاتندمل.روح الطفل شفافة،ترفض كليا مختلف تجليات القسوة. أجوبة نتنياهو عبر اليد الطولى لقواته،بصدد فقط غرس بذور ذاكرة سوداء ملؤها الحقد والرغبة في مزيد من الانتقام.أفق يضع العالم المعاصر،والمنطقة خصوصا،عند فوهة بركان حارقة جدا،تقذف بالجميع صوب هاوية الانهيار أكثر فأكثر.