جوهريا،تطرح التقنية في أوج ذروتها المعاصرة،من خلال كونية الصور، باختزال كل شيء إلى التقاط مرئي فوري؛دون وساطة ذاتية أو موضوعية،علاقة العقل بالشرِّ واستتباب أبعاد ممكناته،ومدى سعي العقل أساسا إلى تثبيت لبنات مساوئ الشرِّ. ثم،إن تحقق هذا الأمر لسبب من الأسباب، فهل يشكِّل المآل ولادة طبيعية أو فقط اضطرابا هرمونيا؟ عموما،يقدَّم في هذا الإطار،جواب متوارٍ يضمر تأكيدا مفاده أنَّ تطورات التقنية أفرزت أدوات شرِّيرة كثيرة،تضمر حصيلة مختلف الأمراض النفسية،لكنها خلال الآن ذاته،وطَّدت مختلف السبل نحو رصد الصور الفاضحة،المحاصِرة لتداعيات الشرِّ أينما سارت وكذا أفعال الأشرار نحو الآخرين،بحيث صار اليوم مستحيلا تماما إخفاء حيثيات الأوضاع بأيِّ صيغة من الصيغ؛على الأقل وفق تجليها المادي دون لبس يذكر،اللهم ذاك التزييف المعنوي والفكري مثلما تشتغل عليه الأجهزة الأيديولوجية. هكذا،يراقب العقل نتائجه،يتعقَّب متوالياتها،يستبطن ذاته متوخيا رصد خطاه. تمثِّل راهنا صورة الذكاء الاصطناعي و الديجتال،لاهوت الزمن المعاصر،غلافا هوائيا موازيا للهواء الطبيعي،يتنفَّسها الإنسان مثلما يستنشق ذرات الأكسجين،وظله اليومي الذي لايفارقه ربما سوى خلال انغماسه في نومه. يتابع العالم منذ شهرين تفاصيل مذابح غزة،تماما كأنَّ جميعنا انتقل إلى عين المكان،نتيجة دأب فضول الصورة الجامح نحو سبر أغوار جلِّ مايجري ثم وضعه رهن إشارة كلِّ الأثير. حتما،تختلف المشاعر من شخص إلى آخر بناء على مرجعيات شتى،مثلما تأخذ المشاعر لدى الشخص عينه مساحات مختلفة تتباين حسب تماسكه،متانة بنيته النفسية. كما تختلف دواعي المشاهدة،فهناك من يتابع بدافع الفضول،اقتفاء الأخبار،غرابة مايحدث،الوازع الإنساني المتجرِّد،رصد معطيات تاريخية،التعاطف،التشارك الوجداني، الفرح، التشفي،التطهير النفسي،إشباع غرائزي،الفرجة،إلخ. تطرح هنا دلالات مستوين:طبيعة العلاقة بين العقل والتقنية،ثم تاريخ الشرِّ. أساسا،جرائم الحروب الاستعمارية،لحظة انعدام توازن الردع أو الرعب،مثلما نعاين حاليا في غزة؛منظومة غربية جبارة،متحيِّزة،ملتئمة بصدد سحق شعب أعزل،بواسطة نتاج شرور أدركها للأسف العقل التقني بجانب استثمار مختلف أضاليل الميديا الدعائية. بالنسبة للأطروحة الأولى،أعيد التلميح إلى الإشكال المتعلق بمحاولة استيعاب الأبعاد الثلاثية القائمة على التقنية، الشرِّ،جوهر الذات،أو بالأحرى صراع الذكاء مع مضامينه وكذا السعي إلى التملُّص من نتائج تحولاته المشوَّهة،بواسطة عملية الرصد، التوثيق،الإقرار،الاعتراف الصريح،بالتالي استعراض مختلف ذلك أمام محاكم الضمير البشري،ثم حتمية إعادة توجيه البوصلة. الذكاء الرقمي الذي منح الإنسانية جانبا سعيدا،يستحيل نكرانه،انطوى من جهة ثانية على اختلالات هيكلية،تكتسح ضمنيا،بنفس الإيقاع مسوغات تلك السعادة،وتضع في الآن ذاته مرتكزات تتوخى تجاوز البدائل الكلاسيكية،بمطاردته مظاهر الديكتاتوريات المباشرة، طبعا بالفضح والتَّأليب،مع تكريسه في خضم ذات السياق،ديكتاتورية القوة الناعمة لعولمة الافتراضي،وأيضا رصد الوجه الإجرامي للحروب وشتى أنساق تدمير الجنس البشري،عبر مباغتتها بالصورة،ومحاصرتها بهذا الشاهد الصادق الصدوق مبدئيا،في ذاته،بكيفية متعالية، قبل التدخل البشري المقصود. لانملك سوى صورا رثَّة للغاية بالأبيض والأسود عن فترة النكبة الفلسطينية،فأخرى شحيحة عن مذابح صبرا وشاتيلا رغم جسامة الحدث،وابتدأ التقاسم إلى حد ما إبان انتفاضة أطفال الحجارة أواخر الثمانينات،ثم ازداد منسوب الأريحية بداية عهد التقاط الفضائيات بكل حرية سنوات التسعينات،واتخذ هذا التطور طابعا أكثر ديمقراطية إن صح التعبير،بكيفية ملموسة،بداية الألفية الثالثة مما أتاح للجميع انطلاقا من شاشات المنازل تدوين يوميات انتفاضة الأقصى و مافعله المجرم شارون بفلسطينيي مخيم جنين وتنكيله أيما تنكيل بياسر عرفات داخل مقره في رام الله غاية "الوفاة". توالت السنون،استفحل عطاء التطور الرقمي،أضحت منظومته واقعا مكرَّسا،تكفي الفرد لمسة إبهام طفيفة،حتى يتجلى الاستعراض المكشوف بخصوص مختلف خبايا الشرور الماثلة هنا وهناك. انطلاقا من هذا المعطى، بالانعراج على الأطروحة الثانية،أتساءل والرعب يأكلني، على ذات منوال ماتحياه غزة آنيا،خلال الأحقاب السابقة عن هيمنة الرقمنة وسيادة ملكوت الصورة؟ بنفس حجم تلك العذابات المريعة،التي تعجز أبسط ألفبائيات العقل البشري عن استيعابها،وقد كابدها أيضا معتقلو الرأي المخالف وهم يتحلَّلون ألما،يتعفَّنون قسوة دون رحمة،داخل الأقبية المظلمة لدهاليز الأنظمة التوتاليتارية،على امتداد كل مناطق التخلف الآدمي،قبل بلوغ المنظومة الكونية هذا الذكاء الاستعراضي،وكذا إمكانية تفرُّج الجميع على غسيل الجميع. إنها أسرار التاريخ الكبيرة،التي يظل معظمها قابعا بين طيات الكتمان،أو التضليل وكذا النسيان،وحتى لانحلق بعيدا وجهة فترات الاستعمار البائدة،وعدم التِّيه خلف معطيات تاريخية تليدة،يكفي في هذا الإطار استعادة حيثيات فترة زمنية تعود إلى بداية السبعينات،أقصد تحديدا مافعله جبروت الوحشية الأمريكية بالشعب الفيتنامي،المغمور أفراده آنذاك وسط الحقول الزراعية. صحيح،لم يدخر لنا تراث الصورة سوى لِماما،توثيقا مستفيضا بخصوص يوميات تلك المواجهة الأسطورية التي استغرقت عشرين سنة،بين كل ترسانة العقل التدميري الأمريكي الذي استند دائما على مختلف دسائس الشرِّ وفنون المكر والسادية،ثم مقاومين بسطاء يملكون أساسا وازع صلابة إرادتهم،كبريائهم القومي،إيمانهم المبدئي بقضيتهم. ربما،أشهر صورة صادقة استمرت ماثلة بين تلابيب الذاكرة البشرية،فيما يتعلق بأدغال فيتنام،تلك المتعلقة باقتفاء هرع طفلة تركض عارية بعد اشتعال أجزاء من جسدها الصغير بحروق مؤلمة،نتيجة قصف قريتها قرب العاصمة سايغون بقنابل النابالم المحظورة دوليا. انتهت تلك الحرب بهزيمة نكراء أذلَّت هيبة أمريكا،لم يتوقعها أحد أبدا،مما أفرز حينها عبارة المستنقع الفيتنامي الشهيرة،كناية عن التورط الأمريكي.غير أنه سعيا من أجهزة واشنطن لمحو آثار الهزيمة النكراء،في أوج سياقات الحرب الباردة مع المعسكر الشرقي،انطلقت على طريقتها حرب سينمائية قادتها ترسانة هوليود،بحيث استهدفت تغيير الحقائق الواقعية جملة وتفصيلا،عبر الدعائي السينمائي المزيف طبعا،على طريقة فيلم رامبو الشهير وحلقات السلسلة التجارية التالية له،بدلا عن نتائج أرض المعركة الحقيقية،التي تكرست بوضوح و جلاء من خلال انتصار مقاتلي الفيت كونغ ،بل وائتلاف الشعب الفيتنامي برمته بعد فترات الانقسام تحت سيادة دولة واحدة أضحت اليوم نامية ومحترمة. إذن،كم بلغت حصيلة الشرِّ الذي اقترفته أمريكا هناك؟في غفلة عن كل العالم.وحدها الجثث،تمتلك جوابا شافيا،لكن هيهات ! بالانتقال وجهة مستنقع ثان،أسقط آخر أوراق التوت عن العنجهية الأمريكية وروحها اللا إنسانية،نستعيد أيضا ماجرى في العراق منذ بداية التسعينات حينما شرع جيشها يعيد توضيب جلّ مخزونه العدواني،على شعب بلاد الرافدين،كي يقتلعه جذريا من سياق إحدى علامات أعرق الحضارات البشرية،ثم تحويله بهمجية لاتضاهى إلى قطعة حية عن هوية جهنم،وضع اتضح جليا أمام العالم قاطبة بفضل ذكاء الصورة،يكفي الإشارة على سبيل التمثيل وليس الاختزال إلى صور تعذيب معتقلي سجن أبو غريب. خلال الفترة نفسها،وفق ذات الوتيرة،فقط بالتلاؤم مع معطيات المكان،لاحقت الصورة مايقترفه الأسطول الجوي الأمريكي على امتداد سماء أفغانستان،مختبِرا بكل اندفاع،شتى تكنولوجيات التدمير فوق بيوت طينية،يقطنها بدويون منقطعون عن الحضارة،تشبه حياتهم يوميات الإنسان البدائي. طبعا،تلكم معطيات طفيفة،كان بوسعها المضي بلا ذاكرة،لولا ثقابة ذاكرة الصورة.