يظهر ربما بكيفية لا لبس معها،في حدود تقديري،بأنَّ الفكر الصهيوني رغم كل سُبُل تفطُّنه على مستوى الإحاطة بمختلف مداخل التحكُّم في حيوات– بالجمع– الذات الفلسطينية الأشبه روحيا بالولادات اللامتناهية لطائر الفنقس،قد غاب عن رؤيته تلك،مسألة في غاية البساطة،مفادها أنَّ العنف يعيد بالضرورة إنتاج العنف،تنبثق غريزة الانتقام،تغدو شرسة بلا قيد ولا وجهة،كلما تضاعف العنف واستفحل،تتراصُّ ذاكرته أكثر فأكثر،يغدو مستحيلا طمس أثره وكذا استساغة نتائجه بكيفية عادية ومتوازنة. المقاومة الفلسطينية،التي يقاتل أفرادها في جبهة غزة بهذه الطريقة الخرافية حقا، قوامها جماعة شباب ولدوا وترعرعوا وفتحوا عيونهم على ممكنات الوجود،داخل مخيمات وملاجئ وأحياء معزولة عن الحضارة البشرية؛إلا من روافد البؤس والحرمان تحت رحمة ظروف غير رحيمة البتَّة،حيث الحصار،القمع،التصفية العرقية،القهر،الظلم،النفي الإجباري، التهجير القسري. اختبر هؤلاء الفتية،منذ لحظات وعيهم الأولى بما يجري حولهم،ضَنَكَ يوميات قاسية للغاية مفعمة بالعذابات والأوجاع وشتَّى أنواع القهر البربري،تراكم براءة طفولتهم صمتا،وتختزن كيمياء تفاعلات ظلم مهول،بالتالي استعصى مع تضخم وعاء ذاكرة التراجيديا السوداء،إمكانية تخليص أذهانهم من فكرة انتفاء احتمال امتلاك هذا الجار الاسرائلي، مقومات الحسِّ الإنساني. تتكرَّر نفس الحكايات المفجعة،حسب فترات متقاربة أو متباعدة،ونعاين اليوم اجترارا لذات المشاهد المرعبة بفظاعة لاتضاهى،ودموية مجانية تظهر بوضوح عدم جدِّية المؤسَّسات الدولية،مما يسرع بالمنتظم الأممي عامة،دون كوابح صوب هاوية العهود البدائية،وتوثِّق جُسَيْمات الرُّضَّع وجثت الأطفال وتناثر أشلاء كل أهل المكان،متواليات انهيار جانب كبير من جسور معنى المعنى. تتبدَّى خلاصتان أساسيتان،قياسا لكل التجارب التاريخية عندما يحدث التصادم بين طرفين غير متعادلين على مستوى القوة المادية ومقتضياتها : إسرائيل،الطفل المدلَّل لأمريكا و الغرب؛أو بتعبير أكثر خشونة كلب حراستهما على منطقة الشرق الأوسط،بالتالي ضرورة توفير كل شيء يخدم تحقيق المساعي الإستراتجية؛بطلب أو بغير طلب،كي تتأبَّد نفس الجغرافية وينتهي التاريخ،مثلما تحدَّد مصيرهما بعد الحرب العالمية الثانية. فلسطين،قضية تحرُّر إنسانية مشروعة،صادفت هويتها ضمن بوتقة جغرافية خاطئة،مادامت منظومة الرجعية تسود القائم والممكن ذهابا وإيابا،سماء وأرضا،صباحا ومساء،كي تحبس أنفاس التاريخ جملة وتفصيلا. تشير الخلاصة الأولى،إلى حتمية تكريس العنف في خضم دواعي العنف،باستمرار ثم وفق تجليات دائما أكثر ضراوة من الوضع السابق. بينما تؤكد الخلاصة الثانية،بأنَّ الطرف الذي يصارع مبدئيا بخصوص تحقيق قضية عادلة،ويؤمن بعدالتها،يصعب حينها على أيِّ قوة كونية دفعه نحو الإذعان والرضوخ،أو مجرد انتشال الفكرة ظرفيا من تلابيب ذاكرته.مهما طال الزمان،وتحمَّل شدائد الظلم،فلابد من التصالح مع الذاكرة في نهاية المطاف،مادامت أبدية،ثم يكتب التاريخ. من لاذاكرة له لامكان له ضمن مجرى التاريخ،يبلور الأخير فقط من امتلك ذاكرة سرمدية مفعمة بالحياة،تعيش كي تروي،والرُّواة وحدهم يمدِّدون أسباب حياتهم.بينما،يكتفي الأموات بالتلصُّص. بناء عليه،قد تعمل المنظومة العسكرية بصنيع القنابل،على تدمير الهوية المادية والهندسية لمكان معين،وتشويه معالم أشكاله.مجموعات بشرية كثيرة غادرت أوطانها هربا من تجارة الموت و ساديَّة تُجَّار عذابات الناس.بيد أنَّ الذاكرة ماثلة، سيِّدة نفسها،قابعة في اللامكان،عبر مختلف الأمكنة وبين طيَّات الأزمنة.لاتغادر قط موطنها،مهما فخَّخوا مكامن انبعاثها،ولاحقوا بالسِّياط والحديد صنَّاع الذَّاكرة كي يستنزفوا الأجساد،تظلّ هذه الذَّاكرة مالكة لزمام مصيرها تسمو سموا على العابر. القصد من هذه الإشارات،وصل إلحاح الذَّاكرة وعدم النسيان أو بالأحرى عدم الرغبة في النسيان،بكل آثار الشرور على ذاكرة الأجيال المستقبلية،مثلما نعاين اليوم في غزة ومن خلالها طبعا كل فلسطين.هكذا،بعد انقضاء ثمان و أربعين يوما على المحرقة، وتحديد هدنة لمدة أربعة أيام،نقف على المعطيات التالية : غزة مدينة صغيرة جدا لاتتجاوز مساحتها ستَّا وخمسين كيلومترا مربَّعا،يقطنها مليونان نسمة،معادلة تجعلها أكبر المناطق كثافة في العالم.منذ الثامن من أكتوبر،وبعد ماتبقى من شظف حياة عرفت حصارا لمدة سبعة عشر عاما،مع استحضار جلِّ مخلفات دورات الحروب السابقة،سيتلقَّى مرة أخرى هذا النسيج المكتظُّ خمسة عشر ألف غارة،من الوزن الرفيع بإلقاء أربعين ألف طنٍّ من القنابل الأمريكية الصنع التي يبلغ وزنها ألفي رطل،أدَّت إلى وأد أربعة عشر ألف وثمانمائة وأربعة وخمسين شخصا؛ضمنهم خمسة آلاف وثمانية وخمسين طفل،ثم إصابة أكثر من خمس وثلاثين ألف،تبلغ نسبة الأطفال والنساء مايقارب خمسا وسبعين في المائة،وسبعة آلاف مفقود بينهم أكثر من أربعة آلاف وسبعمائة طفل وامرأة،إضافة إلى تدمير مباني المدينة وإرغام الفلسطينيين على ترك منازلهم لاسيما أنَّ الرُّقعة أضحت فضاء ربما يجدر بالأشباح،حتى قبل أن يُلقى عليها القنبلة النووية مثلما هدَّد بذلك أحد وزراء الحكومة الاسرائلية... دائما،راهن صُنَّاع القرارات الكبرى على آليتي : النسيان، والإحباط،قصد الانتهاء إلى التسليم بالأمر الواقع أو المتوخَّى،من خلال قَلْبِ مكوِّنات الشعار الأولي الذي انتظمت على إيقاعه لبنات المنظومة الرأسمالية :اتركه يعمل،اتركه يمرّ.غاية حقبة ازدهار الرأسمالية المالية،نحو تصور ثان مفاده :حاصِرْ بكل وسائل الإخضاع،تطلُّعات كينونته،ثم تنتهي رغباته عند مانريد، بل تتحوَّل كل طاقات البناء الايجابية إلى اللاشيء. المشاهد المتداولة فوريا عبر شاشات الفضائيات الدولية،بخصوص مايجري في غزةالفلسطينية،ويلتقطه بحرقة جارحة غير قابلة للمداواة طيلة العمر كلّ لحظة أطفال العالم،وليس فقط أطفال المنطقة،يعكس حسب مختلف التأويلات مذبحة، مجزرة، كرنفالات شيطانية،إعدامات بالجملة، موتا جماعيا،إبادة عرقية،افتراسا حيوانيا،جنازات بلا نعوش،أمواتا بدون قبور معلومة،لاموتا مثلما يحقُّ للموت،وحشا لايعرف للحياة مجدا ولا للموت شرفا،ولا للشَّرف هوية، ولا للهوية إنسانا. جملة توصيفات، تتناسل كالفِطر،مادامت الواقعة الموصوفة تتجاوز مختلف ممكنات مبررات العقل وتجاري الخيال،دون أن يكون إبداعا حقا للجميل الذي يعكس روح الإنسان، ويتصدى للقبيح والشر.مادام الخيال قد ارتبط دائما بذكاء الجمال. هل بوسع أحدنا الاعتقاد،أنَّ السعي إلى طيِّ الوجود الفلسطيني طيَّا،في خضم غياهب النسيان بواسطة هستيريا القتل،والاكتساح الأعمى قد يؤدي في يوم من الأيام،إلى إنهاء كل شيء،ثم بعد ذلك استمرار الحياة ببساطة حسب أهواء من يملكون زمام القوة وأسباب السيطرة؟ أظن،بأنَّ من يحكمه أمل وفق هذا المنوال، لايخرج في أفضل الأحوال عن تداعيات الروائز النفسية التالية:ساذج، أو متغطرس بمتعة عُصَابية...وماتدرجه السُّلالة اللغوية من نعوت أخرى،مادامت القضية تتجاوز كثيرا جدا المعادلات الاستدلالية الخَطِّية وتقتضي من السَّاسة الماسكين فعليا بزمام المؤسَّسات الدولية،رؤية عميقة ومتكاملة تستدعي الحلَّ في شموليته،والإنسان الفلسطيني كإنسان حيًّ بكل تفاصيله.أما الرؤية الاستعمارية المتطرفة القائمة على اجتثاث الموضوع المستهدف بالنار ثم النار ثانية،مع التلاعب في ماهية القانون، تزييف المعطيات،شراء الذِّمم، بيع الأوهام السهلة، تكريس نزوعات الجيو–استراتجي تبعا لمعادلات رقعة الشطرنج دون حسٍّ إنساني يذكر،يستحضر خصوصيات الجغرافيات وتباين الهويات.حتما، لن يؤدي هذا المنطق المجحف سوى لمزيد من الاحتقان الأعمى.