على امتداد الأسابيع الماضية، بقيت أطرح عددا من الأسئلة انطلاقا من التحولات العميقة التي هبت على المنطقة التي ننتمي إليها. هذه التحولات لا يمكن أن يخطئها أي شخص ذي قلب نابض وتواق للحياة الكريمة، وبالتالي لا يمكن الوقوف إزاءها موقف المتفرج الذي ينتظر اتجاه الرياح ليركب بساط الانتهازية وينطلق لجني ثمار لم يتعب في غرس وسقي أشجارها. لقد فرضت هذه الاهتزازات الكبيرة أسئلة عميقة، تجاوزت كل التوقعات، وعصفت بكل المواضعات والتوافقات على اختلاف أنواعها، السياسية منها والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وأكثر من ذلك أعادت إلى الواجهة أسئلة جوهرية، كانت قد ارتدت منذ سنوات إلى الوراء، واكتسبت رداء نوستالجيا. أين ينبغي أن يتموقع المثقف اليوم؟ عندما انطلقت ثورة تونس، وبعدها ثورة مصر، وجدتا حولهما لفيفا من المثقفين والإعلاميين والفنانين والسياسيين، ساهموا بالموازاة مع الصيحات التي أنتجتها حناجر الشباب في الشوارع، في إنتاج خطاب مؤيد ومحرض،وتبنوا مختلف المطالب التي أثثت اللافتات والشعارات، وما من شك في أن هذه المساندة ساهمت بقسط كبير في الانتصار الذي تحقق هنا وهناك، بالرغم من الخذلان الذي أبان عليه البعض لحركة الشباب في البلدين. وعندما امتد الحريق إلى أماكن أخرى مستعينا بما تتيحه تكنولوجيا المعلومات، اقتربت النيران أكثر من أبواب المثقفين، وبدأت في طرقها، فإما الانخراط في الدينامية الجديدة المتجهة نحو المستقبل وإما ركوب الأفكار الانتهازية وانتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة. وقد كان من بين الأسئلة التي راودتني، وراودت آخرين بكل تأكيد، السؤال حول ما إذا كان لدينا في المغرب مثقفون وفنانون قادرون على لعب دور الحاضن، والمؤطر فكريا، لحركة بدأت ملامحها في الاتضاح. لماذا أتحدث عن المثقفين والفنانين، وأضرب صفحا عن السياسيين؟ لأسباب ذاتية محضة قائمة على متابعة المشهد السياسي ومحاولة فهمه، وهو مشهد لا نكاد نختلف بشأنه، كونه تؤثثه تشكيلات فقدت القدرة على التأثير في الشارع، لأنها انفصلت عنه انفصالا بائنا وباتّا، وبالتالي لم تعد تعبر أو تصدر عنه، مما جعلها منذ زمن هدفا لكل السخط الذي يعتمل في المجتمع، ولا يعول عليها أحد لإحداث أي نوع من التغيير. لقد تجاوزها التاريخ وتجاوزتها الأحداث. إن تردي السياسيين هو الذي يجعل المثقفين في قلب العاصفة، ومؤهلين، إذا توفرت لديهم الإرادة والشجاعة، للسير بالمجرى الهادر نحو مصبه الطبيعي بتوفير خلفية فكرية للمطالب العفوية المنطلقة من شعور عارم بالقهر. لكن هل كان هذا المثقف في الموعد، إذا تحدثنا عن المغرب، كما كان عليه الشأن في تونس ومصر، أو في البحرين مع بعض التأخر؟ هذا السؤال، للأسف يدعونا لإعادة النظر في مجموعة من الأشياء المرتبطة بالنخبة المثقفة. لقد تعودنا في ما مضى، في الزمن المحفوف بالحنين، على أن يكون صوت المثقف عاليا، في كل صرخة يطلقها المجتمع، بالرغم من آلة القمع الشرسة التي اشتغلت في ذلك الإبان وأكلت من أجساد وأرواح الكثير من الناس. لقد كان المثقف جوعان عطشان للحرية، ويصنع ثورات على الورق ويعمل في الوقت ذاته على ترجمة النظرية إلى فعل يستجيب لطبيعة المرحلة. أما الآن، فهذا المثقف مطالب فقط بمواقف مشرفة في أكثر اللحظات أهمية في التاريخ الحديث للمنطقة بشكل عام، وللمغرب بشكل خاص. إن الذين خرجوا إلى الشوارع للتعبير عن مطالب تشكل أسس المستقبل، إنما فعلوا ذلك لأن إحساسا عارما بالانتماء إلى هذا المستقبل قد انتابهم وهزهم. وما أحسب المثقف إلا إنسانا يعيش من أجل تصحيح الحاضر وبناء المستقبل، وهو ما يفرض عليه أن يكون فاعلا أساسيا، لا منتظرا ومترقبا، أو منشغلا بأشياء جزئية للتغطية على عجزه أو جبنه. فهل كان في الموعد؟ ربما لم يسبق في تاريخ الثقافة المغربية، أن تأخرت مؤسسة مثل اتحاد كتاب المغرب في اتخاذ موقف من قضية مصيرية مثل البحث عن الحرية والمطالبة بالديمقراطية والكرامة، والحق في المواطنة الكاملة التي تعكس مساواة الناس في كل شيء. إن هذا التأخر ليس سببه إكراهات موضوعية، من قبيل ما يعيشه الاتحاد من شتات ومن انفضاض الكثير من أعضائه من حوله، بل لأسباب أخرى تهم الذين انتهوا إلى الاستيلاء على زمام الأمور في مكتبه التنفيذي على طريقة الانقلابات العسكرية، بعد مؤتمر صاخب. الدليل على أن الأسباب ليس ما أشرت إليه هو أن نفس هؤلاء الأشخاص نظموا أنشطة، بالرغم من بؤسها، وأصدروا قرارات "مهمة" منها مقاطعة المعرض الدولي للكتاب والنشر، وتنظيم وقفة احتجاجية أمام وزارة الثقافة للمطالبة برأس الوزير. عندما هبت العواصف التي لم تبق ولم تذر، على تونس ومصر، كان أقل الأشياء الممكنة إصدار بيان تضامني مع حق الناس هناك في التظاهر وفي المطالبة بالكرامة الإنسانية التي تليق بشعب يعيش في القرن الحادي والعشرين، أي أنه لا يطالب بأكثر من البديهيات التي باتت مكتسبات كونية متعارف عليها. لكن الاتحاد، في شخص الذين آلت إليهم أموره، لم يفعل. هذا مع العلم أنهم قبل ثورة مصر وأثناء أحداث تونس، عبروا عن مطلق تضامنهم مع ضحايا تفجيرات كنيسة الإسكندرية في نهاية العام الماضي. ومع أن هذا التضامن ليس محل مزايدة لأنه يدخل في باب الواجب، فإن عدم التعبير عن التضامن مع مطالب الشعب المصري في التغيير، يدفع باتجاه الاعتقاد بأن ما عبروا عنه من تضامن مع ضحايا حادث الكنسية إنما هو تضامن مع النظام المصري، وتعزيز له باعتباره يواجه خطر الإرهاب في المنطقة، وهو تأويل يرجحه أنهم لم يستنكروا على جابر عصفور قبوله منصب وزارة الثقافة بينما دماء الشباب المصري تسيل في الشوارع، ألم يكن كل هذا تحسبا لمغانم محتملة باعتبار العلاقة الوطيدة التي تجمع عصفور بعدد من الوجوه الكالحة التي جعلت من نفسها الناطق باسم المثقفين والكتاب المغاربة، مع ما يعنيه ذلك من تبخيس وحجب مقصودين للكثير من الأصوات الأصيلة التي نمت في المشهد الثقافي المغربي في غفلة من هؤلاء. إن الأحداث التي تعتمل في المنطقة، وهبة شبابها، لن تنال فقط من السياسيين الذين يخشون على كراسيهم ومصالحهم التي راكموها، في الغالب بطرق مشبوهة، وإنما ستدفع بالضرورة نحو إعادة النظر في الكثير من الكليشيهات والألقاب والممارسات التي استأثر بها بعض الناس باسم الثقافة والنخبة. هكذا، وقبل أن نتساءل عن دور المثقف الآن، نتساءل عمن هو المثقف أولا. ذلك أنه من الخطأ القيام بتعميم يضع الجميع في سلة واحدة. هل المثقفون هم هؤلاء الذين لا يكتبون حرفا إلا أن يكون موعودا بأعطية، ومنهم من لا ينتج مقالا أو قصيدة في سنة كاملة؟ هل هم هؤلاء الذين ينزلون إلى باب وزارة الثقافة للمطالبة برحيل وزير، بينما شباب المغرب يطالب بتغيير الدستور وحل البرلمان والحكومة ومحاسبة الفاسدين؟ هل هم هؤلاء الذين لم يستطيعوا التعبير عن موقف واضح ومبدئي مما يحدث في أكثر من بلد في المنطقة بينما ظلوا على الدوام يدبجون إنشاءات حول انخراطهم في الأفق الكوني للثقافة وحول القيم المشتركة بين الشعوب؟ هل هم هؤلاء الذين عندما أرادوا استدراك الأمر، شرعوا في تنظيم لقاءات تحت مسمى " في سياق التضامن مع الحركة الثقافية في تونس ومصر"؟ في سياق التضامن وليس تضامنا صريحا معبرا عن موقف مبدئي وأصيل؟ إن المثقف ليس شخصا يعتلي المنصة ليخطب، نثرا أو نظما، بل هو ذلك الإنسان الذي ينشغل بأسئلة المستقبل، الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة تتماهى مع طموح البشر إلى حياة تتوفر فيها كل أسباب الكرامة والرفاه. لا يتوهم تحقيق المدينة الفاضلة، لكنه يجعل الحلم بها ممكنا. وهو ذلك الإنسان الذي عندما يقتضي الأمر يعبر عن موقف واضح خاصة في الحالات التي تتعلق بمسلمات أو شبه مسلمات. فهل كان كل هؤلاء، الذين أثاروا جعجعة "عظيمة" حول المعرض، وبعدها هرجا ومرجا أمام وزارة الثقافة، بهذه المواصفات، حتي يسمحوا لأنفسهم بالحديث باسم المثقفين والكتاب والفنانين الحقيقيين المنشغلين بأشياء أكثر عمقا وأهمية من صالون ومنصة وأعطية؟ أعتقد أن السؤال الأهم يكمن في هذه المنطقة بالذات، أي هل تمثل المؤسسات الثقافية والفنية، التي تنتمي نظريا إلى المجتمع المدني، المثقفين والفنانين المغاربة، أم أن تمثيليتها لا تختلف عن التمثيلية الشكلية للشعب المغربي التي تتبجح بها الأحزاب السياسية. بمعنى آخر هل المواقف المتراجعة التي اتخذتها هذه المؤسسات منسجمة مع المواقف التي عبرت عنها، أو احتفظت بها لنفسها، شريحة واسعة من المنتمين لهذه المؤسسات؟ أميل إلى القول بأن الأمر ليس كذلك، وهو ما يعني أن هذه المواقف "المرتجلة" لا تعني إلا دائرة ضيقة، مما يفقدها أي مصداقية وأي قوة، لكن لتأكيد ذلك لابد أن يتخلى أعضاؤها عن تحفظهم والتعبير صراحة على أن ما اتخذ من مواقف لا تعنيها وأنها تنطوي على نوع من الخذلان الواضح لما نعتبره مبدئيا وبديهيا في ظروف كالتي نعيشها حاليا، في المغرب وفي محيطنا القريب منا في المنطقة. إن الخروج من هذا التحفظ، سيظهر إلى أي حد تحتاج هذه المؤسسات، ولا أستثني وزارة الثقافة، إلى إصلاح أو حتى إلى حل، وذلك في إطار المطالب التي أخرجت المغاربة إلى الشارع وفي انسجام كامل مع روحها. كما سيفتح ذلك، المجال لنقاش واسع حول مبررات الاستمرار في الانتماء إلى هذه المؤسسات وجدواه في وقت تبدو فيه غائبة وسط الزخم الكبير لتيار يشرئب أكثر فأكثر إلى الحرية.