( الشعر هو أكثر المنتوجات اللغوية خطرا) (حينما نكتب فهذا يعني أننا نبحث عن معادل لغوي لشيء ما) (الخطر ليس في العولمة بحد ذاتها، ولكن في طريقة التعاطي معها) (التخلف الإبداعي هو تجل من تجليات التخلف المعرفي والتاريخي) ذ.سعيد هادف شاعر وكاتب صحفي وباحث جزائري غادر الجزائر عام 1998 واستقر في مدينة وجدة المغربية، هو عضو إتحاد الكتاب الجزائريين، أسس بمدينة وهران رفقة مجموعة من المثقفين جمعية “آفاق” وكان رئيسا لها ما بين 1988/1992 كما شارك في تأسيس الجمعية الوطنية للمبدعين بالجزائر العاصمة وعمل ضمن هيئة تحرير مجلة “القصيدة” التي تصدرها جمعية الجاحظية. أيضا هو عضو بالمجلس الإداري لمنتدى رحاب للتضامن والثقافة في وجدة بالمغرب. صدرت مجموعته الشعرية الأولى “عيناي دليل عاطل عن الخطوة” بالجزائر عام 1994، وفي عام 2007 صدرت له ثلاث مجاميع شعرية في كتاب واحد حمل عنوان “مخطوط أكتو” وكانت المجاميع كالتالي: “مرثية لمدائن النفط”، “العاطل عن الخطوة”، “البلاد التي..”.وله مخطوطات شعرية أخرى تنتظر فرصتها من الطبع. في هذا الحوار يتحدث الشاعر سعيد هادف عن الجزائر والتاريخ والسياسة وعن سياقات وأحوال شعريتين/الجزائرية المغربية وعن تيماته الأقرب إلى مزاجه الشعري والتي يراها مفصلية في أكثر الحالات. ذ.نوارة لحرش: ماذا تقول لل/وعن الجزائر الآن بعد هذا الغياب الطويل؟ ذ.سعيد هادف: ما أقوله هو ما قلته، وهو مبثوث في أشعاري ومقالاتي وحواراتي، الجزائر لا تزال قيد الولادة غير أن المشكل يكمن في تغييب الشروط الملائمة لميلادها الطبيعي. الجزائري حسب إعتقادي لم يولد بعد، والسبب يتمثل في القصور الفكري والسياسي. ثمة قصور في قراءتنا للتاريخ وتمثله. لقد مضى حوالي نصف قرن على (إستقلال) الجزائر، الحصيلة كالتالي: الفساد ينخر الإقتصاد، الرداءة سيدة المشهد السياسي، إتساع رقعة الفقر في تزايد، نهب المال العام وتهريبه خارج الحدود، الغياب الممنهج لحرية التعبير والمبادرة… لا أحد يصغي للشريحة العمالية المطالبة برفع الأجور، آلاف الأطر هاجرت والنزيف لا يزال مستمرا. مع بداية الإستقلال، طرح مفكرون وسياسيون السؤال التالي: إلى أين تتجه الجزائر؟ الجزائر اليوم على حافة السقوط، المشروع البريطاني الأمريكي الموصوف بالعولمة يسير نسقيا في أفق إكتمال الإتحاد الأوروبي بوصف هذا الإتحاد جزءا من كينونته، والعولمة سارية المفعول في الجزائر. فهل تتمتع الجزائر باستراتيجية إزاء المستقبل؟، والسؤال مطروح على باقي الدول العربية والإسلامية. العولمة مشروع ينتظم داخل نسق متكامل، على المستويين العرقي والديني، فإن العولمة في الأصل جرمانية مسيحية والإتحاد الأوروبي أيضا ويشمل دولا أخرى كالتي تنحدر مثلا من أصول إغريقية ولاتينية ومن المحتمل أن يشمل حتى الدول السلافية بحكم الإنتماء الجغرافي والديني، فكيف يكون مصير الدول العربية مستقبلا. ألم يحن الوقت بعد لتقرأ الجزائر اختياراتها قراءة متبصرة وشجاعة؟؟، كيف تتعامل الجزائر مع هذا الوضع؟ بالهروب إلى الأمام طبعا، والخطر ليس في العولمة بحد ذاتها، ولكن في طريقة التعاطي معها، خصوصا في غياب الشفافية، ففي بلد كالجزائر لا يحترم نظامه الرأي العام ولا تتمتع تنظيماته الثقافية والسياسية والحقوقية والنقابية بالكفاءة والدموقراطية، فإن العولمة والحالة هذه لن تزيد سوى من مآسي الشعب وضلال السلة السياسية. الراسخون في المكر الذين نهبوا المال العام وهربوه قد أمنوا مستقبلا مريحا، ولا يضيرهم في شيء مستقبل الشعب الجزائري.الجزائر رهينة السماسرة المرتبطين عضويا بالدوائر الإستخباراتية والمالية ولوبيات الضغط البريطانية والفرنسية والسويسرية والأمريكية والروسية. ذ.نوارة لحرش: متواجد منذ سنوات في المغرب،وهذا يعني أنك مطلع بشكل كبير على الشعر وأحواله في هذا البلد، هل هناك تقارب في الشعرية الجزائرية والمغربية، هل هناك نقاط تشابه، أم أن الشعر في المغرب متطور ومزدهر ومتقدم أكثر كما هو شائع القول؟ ذ.سعيد هادف: التخلف الإبداعي هو تجل من تجليات التخلف المعرفي والتاريخي، الإرتباط بروح العصر سمة أساسية تترجم عبقرية أي شعب، وبخصوص المغرب والجزائر فهما شعب واحد شاء التاريخ أن يعيشا في قطرين وتحت نظامين مختلفين، وفي تقديري على صعيد القصيدة العربية الفصيحة وبكل مدارسها،فالشاعر المغربي والجزائري كلاهما لم يهتد بعد إلى ذاته العميقة المرتبطة جدليا بحركة التاريخ،ومن ثمة إلى بلورة حركة شعرية تقول هذا التاريخ شعريا في بعده الإستشرافي. ثم أن المسألة لا تنحصر في الشعر ك”نص” وك”شاعر”، بل هي أعمق وأوسع، تبدأ بالشاعر بوصفه منتجا للنص وتصل إلى القاريء، ولكن من يسهر على سلامة المجرى وانسيابه بين الشاعر والقاريء؟، بطبيعة الحال مجموعة من المؤسسات والفاعلين حيث ينتظم الكل داخل نسق محكم، طباعة ونشرا وتسويقا ودعاية..، المغرب حقق قفزة في هذا المجال ولكن ليس إلى درجة الإحترافية. هذه هي الشروط التي تساهم في تطوير العملية الإبداعية وصيرورتها. ذ.نوارة لحرش: أغلب شعراء الجزائر مازالوا يتغنون بالشعر العمودي في حين شعراء المغرب ذهبوا أسرع وأكثف نحو قصيدة النثر، وحسب البعض أن هذا الإنزواء في العمودي هو الذي جعل الشعر الجزائري يتأخر عن الركب الشعري العربي عموما، برأيك هل هذا صحيح أم هناك أمورا أخرى لهذا السبب؟ ذ.سعيد هادف: من وجهة نظر مقارنة، فالمغرب والجزائر لم يعيشا نفس الظروف التاريخية، وهذا بكل تأكيد له إنعكاسه على الأنماط التعبيرية ومن بينها الشعر، يمكن القول أن الشاعر المغربي ظل على صلة بالمحيط الثقافي العربي والأوروبي أكثر من الجزائري. الشاعر المغربي كان أكثر حظا في تحيين ثقافته، وهذا عامل أساسي في تراكم المعرفة وتخصيب الخيال. الشاعر الجزائري ظل معزولا طيلة الإحتلال، وجاء الإستقلال ليزيده إنعزالا. ماذا ننتظر من طفل ترعرع وتربى في محيط لا يسمع فيه إلا صوتا واحدا؟، ما هي الحالة التي يكون عليها في أعوامه المقبلة؟، هذا ما ينسحب على بلد كالجزائر. السياسات قصيرة النظر سهرت بكفاءة عالية حتى تجعل من الجزائر بلدا قابلا لكل أنواع الإنحطاط، ومن ثمة تكون لقمة سائغة لكل الذئاب (ذئاب الداخل وذئاب الخارج). السجال القائم بين دعاة القصيدة العمودية ودعاة قصيدة النثر لا يعنيني، فلكل فريق مذهبه التقني، والتحولات الحقيقية هي ما يحدث على مستوى العمق. في غياب الشروط التي توفر السيولة المعرفية الكافية، فكل الجدالات تبقى عقيمة ولا طائل من ورائها سوى وجع الرأس واحتقان المشاعر. ذ.نوارة لحرش: هل يصلك صوت الشعر الجزائري، كيف تجد نبرته، هل هناك أسماء شعرية بعينها لفتت إنتباهك؟ ذ.سعيد هادف: أحاول قدر المستطاع أن أبقى على صلة بالمشهد الشعري الجزائري، فأنا أنتمي إلى جيل كان و لا يزال في حاجة إلى جهد مضاعف بعد أن تعرض زمنه للإنتهاك والتدمير والترويع، وبعد أن تعرض واقعنا إلى المصادرة من سياسات رعناء ومنغلقة، وقد تعرضت رموزه إما إلى التصفية الجسدية إنتحارا واغتيالا وإما إلى التصفية المعنوية، قمعا بالإقصاء والتفقير والتهجير. لقد حاولنا ودون سابق تخطيط جماعي، وفي ظل فوضى عارمة أن نصون إنسانيتنا من التلف أولا وأن ننحت وجودنا في إتجاه المستقبل، ضد أي إستلاب أو تدجين كما إضطلع بعضنا بأدوار كل حسب قدراته وظروفه. لقد عملت فلول الشعر الثمانيني على تعميق تجاربها الشعرية بنفس القدر الذي عملت فيه على تجديد آليات تدبيرها في العمل الجمعوي الثقافي. ذ.نوارة لحرش: عملك “مخطوط أكتو” ضم ثلاث مجموعات شعرية هي “مرثية لمدائن النفط”، “العاطل عن الخطوة”، “البلاد التي…”. لماذا أصدرتها دفعة واحدة وفي كتاب واحد، هل رأيت أنها تشكل ثلاثية شعرية لكن بكتاب واحد؟ ذ.سعيد هادف: كون الدواوين الثلاثة تلتقي على تيمة واحدة هذا صحيح، ولكن هناك سبب آخر، فأنا لست من الذين يتقنون إقتناص الفرص، وفي غياب الشروط التي ذكرتها آنفا لم يكن في مكنتي إصدار أشعاري وهذا هو السبب الذي جعلني أصدر ثلاثة دواوين في كتاب واحد. ذ.نوارة لحرش: “مخطوط أكتو” يشير إلى أحداث أكتوبر 1988، بصورة ودلالات رمزية أحيانا وواضحة في أحايين أخرى، وأكتو هي إختصارا لأكتوبر، ما الذي بقيّ عالقا في الذاكرة من تلك الفترة، وكيف عشت تفاصيلها؟ ذ.سعيد هادف: حينما نكتب فهذا يعني أننا نبحث عن معادل لغوي لشيء ما، الخيال أكثر الملكات قدرة على صياغة الواقع في معادل لغوي، غير أن الخيال وحده لا يكفي، يحتاج وفرة من المعطيات وإلى الخبرة والمعرفة بمعناها الموسوعي فضلا عن الموهبة والكفاءة اللغوية والتقنية. لكن الشاعر قليل الخبرة حينما يمتليء قلبه بالرؤى وتتأجج رغبته في القول الشعري لا يقوى على إخماد ما يختلج في صدره، وهذا ما عشته وقتئذ، وهذا ما دفعني إلى قراءة التاريخ، وما دفعني أيضا إلى كتابة المقال السياسي والفكري. ما علق بذهني من أكتوبر وقائع صيف حكومة قاصدي مرباح، في ذلك الصيف غابت عن السوق شفرات الحلاقة والسجائر، تصوري ماذا حدث في حالة كهذه: ذقون غير محلوقة وأعصاب متوترة، أظنك فهمت ما أقصد؟. ذ.نوارة لحرش: هل يمكن أن توضح للقاريء؟ ذ.سعيد هادف: من المعروف أن شريحة عريضة تتعاطى السجائر، تصوري حالة هؤلاء حين لا يجدون السجائر وشفرات الحلاقة، هذا ما عاشته الجزائر صيف 1989،على القارئ أن يتصور هذا المشهد ويستقرئ ويستنبط، ويربط ذلك بالتطورات اللاحقة، المسألة لا تحتاج إلى كثير من الخيال لفهم الواقع بوصفه أيضا من إبتكار الخيال. ذ.نوارة لحرش: كيف كانت سياقات أكتوبر في ذهنك وقتها، وهل كنت تؤمن بأنها سياقات لها حمولاتها ومدلولاتها الرمزية والمعنوية التي ستأتي بثمار ما وإن بعد مكابدة وبعد وقت؟ ذ.سعيد هادف: لا أدعي أني كنت أعي ما يحدث، غير أني كنت أحدس أن خطبا ما ينتظرنا في المنعرج، وحينها كتبت أول مقال سياسي تحت عنوان “القرار السياسي وحدود الفعل”. بعد الإنفلات الأمني الذي عاشته الجزائر شعرت بالإحباط، على المستوى النفسي مررت بفترات صعبة، كان خلاصي الوحيد في القراءة حتى أفهم ما يحدث، وأدركت بعد سنوات من البحث كم كنت مخدوعا وكم كان شعبي ضحية الأكاذيب والجهل، لقد إكتشفت أن الجزائر مجرد “مجال حيوي” للمخطط البريطاني الأمريكي، وأن أحداث أكتوبر وما تلته من تحولات لم تكن سوى سيناريو معد سلفا لحاجة في نفس المؤسسين لعقيدة “القدر المتجلي”، الذين كانوا وراء نشوء أمريكا وإسرائيل وكانوا وراء نشوء الإتحاد السوفيتي وتفكيكه… يكفي أن نقرأ المسافة الواصلة بين وعد بلفور وفتوحات جورج غالاوي، وكيف نشأت تركيا الفتاة وفي أي إتجاه تسير اليوم، إن كتاب صدام الحضارات لصموئيل هنتغتون يشي ببعض سيناريوهات المستقبل في سطوره وما بينها. لقد إكتشفت جبروت العقل الإنكليزي الذي بنى إمبراطوريته العظمى التي لا تغرب عنها الشمس. وطالما لم يبتكر الجزائريون دستورهم، وفي غياب فاعلين يتمتعون بالكفاءة والشجاعة وسداد الرأي، فإن الثمار سيقطفها الآخرون وليس الشعب، راقبي العلاقة الجزائرية البريطانية/الأمريكية. مادام التغيير سيحدث بالقوة فلماذا لا ترشد السلطة الشعب إلى تغيير ذاته بذاته، وتوفر عنه الخسارات والمآسي؟، بإختصار شديد نفتقر إلى مشروع دموقراطي مؤسس على مقاصد إجتماعية وإنسانية. ذ.نوارة لحرش: الأسئلة هي التيمة التي تتقاطع وتلتقي حولها مجاميعك الشعرية، ورغم أنها التيمة الطاغية إلا أن هناك تيمات أخرى تكاد تنافس تيمة الأسئلة كالتاريخ، الأسطورة والساسية، والسياسة تشغلك وتشغل شعرك كثيرا لماذا؟ ذ.سعيد هادف: إسمحي لي أن أطرح السؤال التالي: كيف واكب الشعرُ الجزائرَ في غمار تحولاتها؟، أول نقطة تحول عرفتها الجزائر العثمانية كانت متمفصلة مع التحولات التي عرفتها أوروبا بعد نشوء الفدرالية الأمريكية في الربع الأخير من القرن الثامن عشر وصراع الدول الأوروبية على الإرث العثماني. في خضم ذلك التحول، بعد 1830، برز الشاب عبد القادر أميرا وقائدا لشعب لم يكن يعرف شيئا عن محيطه الدولي، ومؤسسا لدولة لم تكن تتوفر على شروط إنسجامها. وبموازاة نشاطه السياسي والعسكري إشتهر أيضا كشاعر، بل كان الشاعر الوحيد الذي ذكرته المصادر التاريخية. إن هذا المعطى يؤكد لنا أن الجزائر كانت كسائر الأقطار العربية تعاني من جفاف في الخيال وفقر في أنماط التعبير باللغة العربية الفصحى. وإذ أتحدث عنه كشاعر فليس قصدي قدرته على قرض الشعر، بل قدرته على الإبتكار والتخيل، فالتاريخ يذكر عبقريته في الخطط الحربية والإدارة. ويمكنني الجزم أنه كان أكثر إبداعا في التدبير السياسي والحرب منه في القصيدة. لقد بدأ كتابة الشعر شابا كما تدل على ذلك وثيقة البيعة الأولى التي تصفه بالشاعر الناثر، وقد دأب على كتابة الشعر طوال حياته. فهل إستطاع الأمير، وهو الشاعر الوحيد الذي جادت به الأقدار على جزائرئذ، هل إستطاع أن يستوعب – شعرا- تطلعاته وتطلعات شعبه؟، هل أفلح في كتابة قصيدة تعكس حياة شعبه وزمنه؟، يكاد النقاد يجمعون على أن ديوان الأمير لم يعكس زمنه بلغة جديدة، وهو وإن حاول، لم يفلح تماما، في إبتكار معادل شعري لمحنته ومحنة شعبه. لم يكن في لغته أي “تطوير وليس في الصور أي إبتكار وإنما هي إجترار لما جاء في شعر بعض شعراء الجاهلية” أمثال عمرو بن كلثوم وعنترة العبسي أو شعراء العصر العباسي مثل أبو فراس الحمداني”، حسب مقاربة(الدكتور محمد ناصر). لقد كتب أشعارا حماسية عن معاركه وعن فرسانه، وكتب عن أشواقه لأهله كما كتب قصائد غزلية وأخرى صوفية. عاصر الأمير رواد الشعر الأوربي والأمريكي أمثال فيكتور هيغو، بودلير ورامبو، فكيف لم يدفعه فضوله لمعرفة فرنسا من خلال معرفة شعرائها، وهو الذي ظل على صلة بالأسقف مونسينيور دي بوش طيلة إقامته بأمبواز، وآخرين في ما بعد؟، كنا سنلتمس عذرا لو تعلق الأمر بشاعر لم تسعفه إمكانياته على معرفة الآخر؟، لكن مع الأمير يختلف الأمر، لقد كان بوسعه أن يجند بعثة لمعرفة ما وصلت إليه فرنسا من علم وثقافة. إنها أسئلة يفرضها التاريخ، وتاريخه هو بالذات. إن هذا الوعي القاصر الذي طبع تاريخ الجزائر ذلك الوقت هو السائد الآن. عما قريب سنحتفل بمرور نصف قرن من الإستقلال، والجزائري ما زال محروما من نعمة الحرية والأمن والحياة الراقية. هذا ما جعل التاريخ والسياسة هاجسا مركزيا في شعري، وبالمناسبة أحيلك على قصيدة “جيم” للشاعر لخضر بركة. ذ.نوارة لحرش: المكان أيضا من بين التيمات الحاضرة في نصوصك، كيف هي علاقتك بالمكان وما الفرق بين المكان المولد والمكان الغربة، وهل تستحضره بحنين أكثر أم بألم وحسرة؟ ذ.سعيد هادف: المكان هو الناس والعلاقات التي تنتسج بينهم، هو العائلة والأصدقاء والذكريات والمشاريع والأحلام، ولكل إختيار تبعاته وأوزاره، لا يتسع المقام لأسرد عليكِ السياق والظروف التي جعلتني أتخذ من وجدة مدينة إقامتي، لم أجد صعوبة في التأقلم وإن كنت صادفت إكراهات، ووضعيتي المادية لا يحسد عليها. ما يؤلمني هو عدم قدرتي على السفر إلى الجزائر فالحدود مغلقة وإمكانياتي المادية لا تسمح لي بالسفر عبر الطائرة، وما يؤلمني أكثر الوضعية الجزائرية المغربية غير المبررة وغير المستساغة. حينما زرت الجزائر سنة 2006 بدعوة كريمة من الصديق حكيم ميلود، كانت لي فرصة زيارة عدد من المدن، وقد طلب مني بعض أعضاء اتحاد الكتاب أن أترك لهم بعض مخطوطاتي الشعرية من أجل إصدارها في إطار “الجزائر عاصمة للثقافة العربية” لكن ذلك لم يحدث، فكما ترين الجزائر مكان تتحكم فيه ميكانيزمات النبذ والإقصاء. ذ.نوارة لحرش: التاريخ هاجسك أيضا، إلى أي حد يمكن للشعر أن يستوعب التاريخ، وهل ينصفه أم يوظفه من أجل التوظيف وفقط؟ ذ.سعيد هادف: نحن شعب ننتمي إلى تاريخ تتخلله الإنقطاعات والبياضات، تاريخ غير نسقي، هو ذاته يعاني من خصاص في التأريخ، تاريخ يخضع لنسق الآخر دون تجاوب واع. والشاعر الذي لم يبتلع جيدا تاريخه الشخصي وتاريخ شعبه وعصره، فلن تكون نصوصه ذات قيمة مضافة. ذ.نوارة لحرش: “الشاعر منذور لإعادة ابتكار الرموز التاريخية والأسطورية وتطهيرها من طقوسها الفرجوية/الأيديولوجية المضللة للعقل والمعادية للقيم الإنسانية” هذا ما قلته، برأيك هل كل إعادة ابتكار للرموز تكون موفقة، أم هناك إعادات ابتكار تكون سيئة وسلبية وفاشلة أيضا؟ ذ.سعيد هادف: أعتقد أن الخطر الذي ظل يحدق بإنسانية الإنسان هو التماهي بين “الحقيقة” و”المتخيل”، فاللغة وحدها قادرة على الإضطلاع بهذا الدور: كشف الحقيقة أو طمسها أو تزييفها أو ترسيخ المتخيل على أنه حقيقة، وبما أن كل نص أو خطاب هو منتوج لغوي، وفي وجود متلق يسهل تضليله، فإن الواقع والحالة هذه يبقى مقيدا بالمطلقات وبالتالي يبقى معرضا لكل أنواع التلاعبات. الشعر هو أكثر المنتوجات اللغوية خطرا، وإذا سلمنا أن الشعر فن حيوي، سيار، سريع العدوى والإنتشار، فضلا عن كونه خطابا إستعاريا وتخييليا، فهو والحالة هذه خطر. من المحطات التي يسجلها التاريخ في هذا المضمار موقف أفلاطون من الشعراء، وهو إذ يطردهم من الجمهورية الفاضلة فلكونهم في نظره أقرب إلى سماء الوهم منهم إلى أرض الواقع. بعد ذلك بقرون يأتي الإسلام بخطاب صارم في شأن الشعراء ولكن مع إستثناء الفئة المؤمنة. تكمن خطورة الشعر في كونه فنا يجعل من اللغة خطابا سحريا وفرجويا قادرا على النفاذ إلى أحاسيس المتلقي وأفكاره وخياله ورغباته، وإلى وعيه ولا وعيه في آن. إن هذا الخطاب الذي يتحرك في إتجاه متلقِ إفتراضي يعمل على صياغة تمثلاته لذاته ولمحيطه، بطريقة هي أقرب إلى الكيمياء.إن الخطر هنا لا يمس المتلقي في ذاته، بقدر ما يمسه كإنتماء، أو كمشروع إنتماء،ومن ثمة يتهدد السلطة من خلاله بوصف هذا المتلقي هو شرط إستمرارها وحامي أسوارها. ذ.نوارة لحرش: هل ترى ذاتك وملاذك في الشعر حقا، ألم تتبرم منه يوما، ألم تقل فليذهب إلى الجحيم مثلا أو تبا له؟ ذ.سعيد هادف: هذا صحيح، كنت أشرت سابقا إلى “الحالة” التي تعتري الشاعر لحظة المخاض، حالة لا يقوى على مقاومتها، ويبدو لي أن الشاعر ليس هو الوحيد الذي يعيش هذه الحالة ويبقى الإختلاف في نمط التعبير. بالنسبة لي قد تعافيت وصرت أكتب من خارج هذه الحالة، أي أكتب من داخل الإرادة وتحت سيطرة الوعي. ذ.نوارة لحرش: هل لنا أن نعرف جديدك؟ أو إشتغالاتك الحالية، وإلى أي حد سرقك البحث بحكم أنك باحث من الشعر؟ ذ.سعيد هادف: في غياب الإمكانيات فكل مجهود يسير بوتيرة بطيئة، هذا هو وضعي ومع ذلك أحاول جهدي في مجال البحث. أعمل في إطار مركز أبحاث من خلال إنتمائي إلى وحدة الترجمة ووحدة الدراسات المغاربية وأفكر في إصدار بعض الأعمال وتأسيس جمعية الصداقة المغربية الجزائرية. ذ.نوارة لحرش: كلمة تود قولها في الأخير؟ ذ.سعيد هادف: أتقدم إليكِ وإلى فريق الجريدة بالشكر، وبالمناسبة أهنئ شيخنا الطاهر وطار على الجائزة وأتمنى له الصحة. ذ.نوارة لحرش اعلامية وشاعرة من الجزائر جريدة النصر الجزائرية في 13 أفريل 2010 .................................................................... الصورة تجمع الشاعر ذ.سعيد هادف على اليسار وذ.بلبشير من اليمين