هن وهم شباب بدأت أيامهم تجري بسرعة، هن وهم نساء ورجال شاب شعرهم وقل نظرهم، كل شيء فيهن وفيهم كبر إلا شيء واحد، نعم، أجرتهم الهزيلة لم تسمن ولم تكبر، لا زالت تعاني من هزال شديد، أفنوا زهرة حياتهم ومنهم من لا زال يفنيها في أشباه وظائف، تجدهم هنا وهناك، تصادفهم كل صباح وكل مساء، مثل جيوش النمل، لكن ربما لا نكترث لحالهم، أو نظنهم بخير، هم أول من يدخل إلى العمل وآخر من يخرج منه، نتعامل معهم وربما نتخاصم معهم، ماداموا هم دائما في الواجهة. هم أناس يشتغلون في قطاعات مختلفة لكنها تتشابه في المعاناة وفي قلة الدخل وفي كثرة العمل وفي عدم اهتمام أي كان بهم، هم أناس يشغلون مهمات متعددة، يغادرون منازلهم في الصباح الباكر ويعودون إليها بعد أن يكون الليل أرخى ستائره على الكون. هل عرفتم من هم؟ إنهم الذين يشتغلون في أشباه وظائف، إنهن مساعدات الطبيب و كاتبات المحامي ومساعدوا الصيدلي، عاملات وعمال النظافة، حراس الأمن الخاص، وندل المقاهي (جمع نادل مقهى) ... أناس قد نتخاصم معهم يوما ما لأنهم دائما في الواجهة، يربحون من ورائهم أموالا طائلة لكن هم لا ينالون إلا الفتات، منهم من لا يتوفر حتى على ضمان اجتماعي، بل لا يتوفر حتى على ضمان المكوث في وظيفته البئيسة، هم أولئك الجنود الذين يضعونهم على رأس الكتيبة ليتلقوا أولى الرصاصات بصدور عارية، بينما المستفيدون في الصفوف الخلفية يختبؤون وراء مناصبهم ووراء "شكَّارتهم" دون أن يرف لهم جفن، وهم يعلمون حجم المعاناة التي يعانيها أولئك الأشخاص المجردون من كل حماية ولا يحق لهم أن يشتكوا، ولا يحق لهم أن يطالبوا بالزيادة في الأجر، لأن الجواب جاهز، إذا لم يعجبك الحال هناك غيرك، فالطابور طويل وطويل جدا، فالكل محتاج إلى وظيفة أو إلى شبه وظيفة حتى يضمن شيئا من كرامته ويواجه متطلبات الحياة ولو بدراهم معدودة. لا أعرف لماذا أكتب هذه السطور وأنا أتخيل أمامي وجوها أعرفها جيدا وأعرف معاناتها، أناس لا يعرف أحد حجم معاناتهم، وهي معاناة مزدوجة، معاناة مع الزبائن ومعاناة مع رب العمل، خصوصا عندما يكون رب العمل مزاجيا أو عصبيا ويحاول أن يمارس سلطته على مستخدميه وهو لا يهتم لشيء سوى أن يكون كل شيء في مكانه، وكأنه يتعامل مع آلات وليس مع بشر من لحم ودم. المطلوب، نعم المطلوب وهذا هو المهم، أن تتدخل الدولة أولا وتهتم بشؤونهم وتنظم مهنهم وتحولها من شبه وظيفة إلى وظيفة حقيقية، وتفرض على مشغليهم حدا أدنى من الأجور، وإجبارهم على تسجيل مستخدميهم في الضمان الاجتماعي وتحسين وضعيتهم، فلا يعقل مثلا أن تجد دكتورا يملك أسطول سيارات في حين أن مستخدما عنده أو مستخدمة لا يملك حتى دراجة هوائية للتنقل، والمطلوب منا أن نغير نظرتنا لهن ولهم، فعندما تذهب إلى محامي أو إلى عيادة أو بنك أو حتى مقهى لا تحاول أن تفرغ مكنوناتك فيهم، بل يجب أن تمتلك الشجاعة وتفرغها في مشغليهم، وعندما تصادف إحداهن أو أحدهم فالتمس لهن ولهم الأعذار إذا لم يستقبلوك كما يجب، فأنت واحد من مئات من يتعاملون معهم يوميا، هكذا سنساهم نحن في سير عملهم وهم أيضا سيقومون بعملهم على أحسن وجه إلى أن تتحسن أحوال الجميع.