سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«الصانديقات».. مراكز تلفيف «تستعبد» النساء لتبيض ذهبا لأصحابها عاملات تلفيف الفواكه ببركان يرغمن على الاشتغال في ظروف مزرية وأغلبهن يظطرن إلى ممارسة الدعارة بعد التخلص منهم
بدت شوارع المدينة شبه فارغة بعد زوال ذلك اليوم البارد إلا من بعض العمال والموظفين، الذين غادروا لتوهم مقرات عملهم بعد انتهاء الدوام الرسميّ. بدأنا نتجوّل بالسيارة إلى أن تجاوزنا وسط المدينة، ودخلنا في طريق جانبيّ يؤدي إلى قرية مداغ، التي لا تبعد عن مدينة بركان سوى ب13 كيلومترا. على طول الطريق انتشرت فيلات ومنازل فخمة لشخصيات معروفة في المدينة، منهم مقاولون وفلاحون كبار ورياضيون سابقون، في حين اصطفت على الجانب الآخر من الطريق بنايات ضخمة، تبدو من الخارج أشبهَ بالبيوت التي تنتشر في المناطق الجبلية، بأسقفها المائلة والسياجات المحيطة بها، لكنها تتميز بوجود حراس كثر على أبوابها، يراقبون كل من يحاول الاقتراب أو معرفة ما يدور في الداخل: إنها مراكز تلفيف الفواكه، أو ما يعرف هنا في بركان ب«الصانديقات». وسيلة للاغتناء السريع حكايات أصحاب «الصانديقات» في مدينة بركان تشبه تلك الحكايات الخرافية التي يتحوّل فيها المرء، بين عشية وضحاها، من فقير أو متوسط الحال إلى صاحب أموال طائلة، بفضل الأرباح التي يحققها هؤلاء من وراء تصدير فواكه البرتقال و«الكليمانتين» إلى أوربا، وهي الفواكه التي تنتشر حقولها بكثرة في الجهة الشرقية، عموما، وفي مدينة بركان ونواحيها، على وجه الخصوص. باستثناء بعض الأجانب الذين يملكون مثل هذه المراكز، وهم معدودون على رؤوس الأصابع على كل حال، تبقى أغلب «الصانديقات» -كما يسميها السكان المحليون- في ملكية تعاونيات فلاحية، تتكون في العادة من كبار فلاحي المنطقة، والذين تنتشر روايات غريبة عن كيفية حصولهم على تلك المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية، وهو ما مكّنهم، بين عشية وضحاها، من أن يصبحوا من أغنى أغنياء المنطقة، بل ومن أغنياء المغرب أيضا، إذ منهم من ورثوا الأراضيّ عن عائلاتهم الذين استفادوا من فترة خروج الاستعمار الفرنسي للاستيلاء على أجود الأراضي التي كانت في حوزة المُعمّرين، ومنهم من حصلوا عليها عبر الاستيلاء على أراضي صغار الفلاحين، حيث يتحدث السكان هنا عن وجود شبهات لتواطؤات بين هؤلاء ومسؤولين سابقين من أجل الاستيلاء على الأراضي مقابل رشاوي ضخمة، لكنها تبقى حكايات تنتقل من الفم إلى الأذن، دون أن يجرؤ أحد على إثبات صحتها بوثائقَ وأدلةٍ ملموسة. أكد عدد من أبناء وفعاليات المدينة الذين التقت بهم «المساء» خلال إنجاز هذا الروبورطاج، أن هذا التواطؤ بين بعض المسؤولين وأصحاب هذه «الصانديقات» يظهر جليا من خلال التغاضي عن الاستغلال الذي يتعرّض له العاملون في هذه المراكز من طرف ملاكها، خاصة منهم النساء، اللواتي يُعامَلن بشكل مُهين، في استغلال لحاجة الكثير منهن إلى عمل من أجل إعالة أسرهن، بعيدا عن بنود القانون المغربي، التي تحكم علاقة العمال بالمشغّل، وتحدد حقوق وواجبات كل طرف على حدة. استغلال بشع عقرب الساعة تجاوز الرابعة عصرا ببضع دقائق.. اتجهتُ، بمعية مُرافقي، نحو حارس إحدى «الصانديقات» وشرحنا له موضوع الروبورطاج الذي نحن بصدد إنجازه، لكنه أجابنا، بلغة صارمة وهو يرمقنا بنظرات حادّة، بأنّ العمال قد غادروا المكان، رافضا طلبنا مقابلة أحد المسؤولين عن المركز، قبل أن يدلف إلى الداخل علامة على انتهاء المقابلة القصيرة.. عدنا أدراجنا إلى داخل السيارة المركونة خلف البناية ونحن نجرّ أذيال الخيبة، معوّلين على معاودة الكرّة في الغد.. لكنْ ما هي إلا لحظات، حتى لمحنا نساء يخرجن على شكل مجموعات من باب «الصانديقة»، وأمارات التعب والبؤس بادية على هيأتهنّ الخارجية.. اقتربنا من النساء، اللواتي كن يسرن ببطء، في جلابيبهن المتواضعة المظهر، طالبين من بعضهنّ التوقف من أجل أخذ بعض الشهادات منهن، لكنهنّ أبدين رفضا مطلقا للحديث إلينا في البداية، قبل أن يوافقن على ذلك بعد اطلاعهنّ على الهوية الصحافية لمبعوث «المساء» وكشفِنا موضوعَ الروبورطاج، شريطة عدم الكشف عن وجوههنّ وأسمائهن، مخافة تعرّضهن للطرد من قِبل رب العمل.. «نحن في غالبيتنا لا نتحدّر من المنطقة، ونقبل الاشتغال في هذه الظروف لأننا لا نملك البديل في المناطق التي جئنا منها».. كان هذا هو ما أجمعت عليه تصريحات النساء اللواتي قبلن الحديث إلى الجريدة، قبل أن تتشجع نسوة أخريات ويلتحقن بزميلاتهن، ليتحلقنّ حول من اعتبرنه الصوتَ الذي سيوصل معاناتهن إلى الرّأي العام. «ربيعة» (اسم مستعار) واحدة من النسوة اللاتي يشتغلن في هذه الصانديقات مقابل أجر لا يتعدى 12 درهما للساعة في أحسن الأحوال، تُخصَم منها ما يقول رب العمل إنها «مصاريف التأمين»، وفي ظروف أقلّ ما يقال عنها إنها غير إنسانية. رغم أن التجاعيد قد ملأت وجهها، الذي أحاط به غطاء للرأس، فإنّ البريق المنبعث من عينيها كان يشي بأنّ لها عزيمة تفوق من هنّ أكثر منها شبابا. «أنا لا أتحدر من مدينة بركان، بل من منطقة الغرب، شأني في ذلك شأن معظم زميلاتي اللواتي تراهنّ أمامك، وأنا ملزمة بإعالة ابني الذي يدرس في الجامعة، إضافة إلى توفير واجب كراء المسكن الذي أقطن فيه رفقة أخريات، مما لا يجعلني أمام خيارات كثيرة في ما يتعلق بالعمل»، تقول ربيعة، بلكنتها البعيدة تماما عن لهجة أهل المناطق الشرقية للمملكة، وهي تلوّح بيديها في الهواء يمنة ويسارا، قبل أن تضيف، بنبرة خوف تسللت فجأة إلى صوتها: «أنا أخاطر الآن حين أتحدث إليك.. لأنّ رب العمل لو علم بذلك فلن يبقى لي معه «طرفْ ديالْ الخبزْ» بعد الآن، لكنْ لم يعد أمامنا إلا الإعلام من أجل إبلاغ صوتنا إلى الناس».. شروط مذلة بما أن أرباب تلك «الصانديقات» يعلمون جيدا حاجة أولئك النسوة إلى العمل، نظرا إلى صعوبة ظروفهن الاجتماعية ولغياب خيارات بديلة، سواء في المنطقة أو في المناطق الأصلية التي قدِمن منها، فإنهم يستغلون هذه المعطيات كلها من أجل فرض شروطهم الخاصة على العاملات، مقابل استغلالهن بأبشع الصور، وبدراهم معدودات يوميا، ولأشهر محدودة في السنة، إذ يمتد العمل في هذه المراكز، في العادة، من منتصف شهر أكتوبر إلى فاتح السنة الموالية، وهي الفترة التي تعرف جمع محاصيل الفواكه، التي يصدّرها هؤلاء إلى أوربا وأمريكا. من بين هذه الشروط المُذلّة التي تفرَض على النساء العاملات في هذه المحطات إرغامهنّ على توقيع «التزام» كتابيّ يعده المسؤولون عن مراكز التلفيف تلك، وهو التزام يحمل في العادة تاريخ بدء ونهاية فترة اشتغال النساء في المحطة، حيث توقع المستخدمة على ذلك الالتزام، الذي ينصّ في أحد بنوده على «عدم قبول أي تجديد تلقائيّ لهذه الشهادة المؤقتة» (الالتزام الذي يربطها بالمشغل) فيما ينص بند آخر على «وجوب احترام العاملات القانونَ الداخليّ للمؤسسة، بما في ذلك معايير الانضباط واحترام التوقيت وكل الضوابط الأخلاقية»، وهي العبارات الفضفاضة التي يستغلّها أرباب العمل في كثير من الأحيان من أجل طرد بعض العاملات لمخالفات بسيطة، أو لرفضهن الاستجابة لتحرشاتهم الجنسية واللفظية.. في حين ينصّ الالتزام نفسه على أن العقوبات التي تترتب عن عدم احترام القانون الداخلي للمؤسسة تتراوح بين الإنذار إلى الإيقاف لمدة 48 ساعة، لتصل في الأخير إلى الطرد.. «لكن هذا الترتيب لا يُحترَم في غالب الأحيان، لأنّ الطرد المباشر يكون مصيرَ كل من يرتكب أي خطإ ولو كان بسيطا»، تقول إحدى النساء اللواتي التقت بهن «المساء». حينما سألنا العاملات عن رأيهنّ في هذا الالتزام المُهين لكرامتهن، اختلفت إجاباتهن بين من لا تعرف أصلا فحوى تلك الورقة التي تقوم بالمصادقة عليها، نظرا إلى انتشار الأمية بين صفوف العاملات، في حين أجابتنا عائشة، 34 سنة، متحدرة من سيدي سليمان، بأنها تعرف ماذا يعني التوقيع على الالتزام الذي يطالب به رب العمل، «لكننا لا نملك خيارات أخرى، وفي حال رفضنا للتوقيع فإننا لن نجد عملا نعيل به أسرنا الفقيرة، خاصة أن بيننا المطلقات والأرامل المسؤولات عن أبناء وعن أسر بأكملها»، تضيف عائشة، وهي تقاوم دمعة كادت تسيل على خدها من شدة التأثر.. يتم هذا الاستغلال تحت عيون الجهات المختصة بمراقبة مدى تطبيق قانون الشغل، وفي غالب الأحيان بتواطؤ مع هذه الجهات، إذ حكى مجموعة ممن التقتهم «المساء»، كيف أن بعض نواب رئيس المجلس البلدي هم من يقومون شخصيا بالمصادقة على تلك الالتزامات، رغم علمهم أن أصحاب «الصانديقات» يستغلونها من أجل حرمان العاملات من حقوقهن.. التقت «المساء» واحدا من نواب رئيس المجلس البلدي لمدينة بركان، وينتمي إلى أحد الأحزاب اليسارية، والذي أسندت إليه سابقا مهمة التصديق على التوقيعات. «نحن نعلم أن تلك الالتزامات تُفرَض فرضا على العاملات مقابل استفادتهنّ من العمل في تلك المحطات، لكننا لا نملك أن نرفض التصديق على الوثيقة التي يُقدّمنها إلينا، لأن ذلك ليس من اختصاصنا.. لكني في المقابل أتحدى كل من يزعم أن هناك أيَّ نوع من التواطؤ بين السلطات وأصحاب هذه «الصانديقات» أن يأتيّ بأدلة ملموسة عن هذا التواطؤ»، يقول أحد نواب رئيس المجلس البلدي، الذي رفض الكشف عن اسمه. تتهم العاملات داخل محطات تلفيف الحوامض، أيضا، مفتشي الشغل بالتواطؤ مع المُشغّلين على حساب حقوقهم المشروعة، في حين كان يجدر بهم السهر على مراقبة مدى احترام هؤلاء المُشغّلين لحقوق العاملات والعمال، التي يضمنها لهم قانون الشغل. وتذكّرت العاملات إحدى المرات القليلة التي زار فيها مفتش للشغل «الصانديقة» التي يشتغلن فيها، حيث كان مرفوقا طيلة الوقت بمدير محطة التلفيف.. «سألنا عن ظروف عملنا في «الصانديقة»، فما كان منا إلا أن أجبناه بأنّ «كل شيء على ما يرام».. لأننا كنا نعلم أنه في حال قلنا العكس فإنّ مصيرَنا سيكون هو الطرد، علما أنه من المفروض أن نلتقيّ بمفتش الشغل على انفراد.. لكنْ، للأسف، يبدو أنه -بدوره- قد تعرّض للارتشاء من طرف صاحب المحطة للتغاضي عن التجاوزات في حقنا»، يقول حميد، الرجل الوحيد الذي صادفناه خلال لقائنا بعاملات محطات تلفيف الحوامض. عاملات يلجأن إلى الدعارة من يتجول في شوارع وأزقة مدينة بركان الصغيرة، يلاحظ أن أغلب سكانها ما زالوا محافظين على الطابع التقليديّ، سواء في طرق عيشهم أو ملبسهم، وهو ما يرده الكثير من أبناء المنطقة إلى «انغلاق» سكان المنطقة على أنفسهم لسنوات طويلة وعدم تأثرهم بموجات التحديث التي هبّت على باقي مناطق المغرب الأخرى.. أثناء تجولنا بالسيارة، لفتت انتباهَنا فتيات أغلبهنّ في العشرينات من العمر، يضعن كميات مبالَغاً فيها من مساحيق التجميل، ويمشين بغنج في محاذاة الرصيف.. منظر علق عليه حسن، ابن المنطقة الذي رافقنا طيلة الرحلة: «هؤلاء الفتيات، في غالبيتهن العظمى، لسن بنات مدينة بركان، لكنهن من الوافدات عليه من المدن الداخلية، خاصة ممن يأتين بحثا عن عمل في الحقول ومحطات التلفيف، لكنْ بما أن هذه الأخيرة لا تشتغل أكثر من ثلاثة أشهر في السنة، فإن الفتيات صغيرات السن يُفضّلن ممارسة الدعارة على العودة إلى ذويهنّ خلال باقي شهور السنة».. وقد زكت هذا الطرحَ أيضا ربيعة، التي سبق أن التقينا بها خلال زيارتنا لمحطة تلفيف الحوامض، مُشدّدة على أن الفتيات اللواتي يلجأن إلى ميدان الدعارة يفعلن ذلك مُرغَمات بعد انتهائهن من العمل في «الصانديقات»، يفعلن ذلك مضطرّات، سواء في بركان أو في مدنهنّ الأصلية، «لكن هذا لا ينفي أنهن يُسئن إلى صورتنا جميعا، بحكم أن السكان هنا لا يُفرّقون بين الصالح والطالح منا، ففي الوقت الذي يفضلن الدعارة، فإننا نشتغل في الموقف لكب رزقنا بعرق جبيننا وبشرفنا، الذي نرفض أن نبيعه مهْما كان الثمن».. تختم ربيعة حديثها إلينا، قبل أن تنضمّ إلى رفيقاتها لمغادرة المكان، تاركات وراءهنّ صمتا ظل معلقا في الأجواء في انتظار من ينصفهنّ ويحرّرهن من «الاستعباد» ونظرة الاحتقار التي يعانين منها.
عاملات بدون حقوق
تحقق محطات تلفيف الحوامض المنتشرة في مدينة بركان، والتي يفوق عددها العشرة، أرباحا مالية مهمّة، مقابل حرمان مستخدَميها، من النساء والرجال، من أبسط حقوقهم القانونية، بحكم أن منتوجاتها مُوجَّهة بالأساس للتصدير نحو أوربا وأمريكا، حيث تباع «الباليطة» الواحدة (وتضمّ من 8 إلى 10 صناديق) مقابل مليون سنتيم، إذ تصدر كل واحدة منها حوالي 4000 طن من فاكهة «الكليمانتين» و6000 طن من فاكهة البرتقال. أكدت سارة برباش، المسؤولة عن الجودة في محطة التلفيف «مداغ، وهي المحطة الوحيدة التي استقبلتنا إدارتها في المدينة بعد إلحاح منا، أن المحطة تضمّ 10 عمال رسميين، في حين تستعين بحوالي 200 امرأة كعاملات موسميّات.. موضّحة أن السبب في غياب عقدة ما بين العاملات وإدارة المحطة يرجع، بالأساس، إلى «استحالة تحديد الوقت الذي سيشتغلن فيه بالتحديد، لأنّ عملنا مرتبط أساسا بنفاذ المحصول الذي نشتغل عليه، والعاملات يعرفن شروطنا هذه ويوافقن عليها قبل الشروع في العمل».. ونفت المسؤولة في المحطة أن تكون إدارتها قد منعت تأسيس نقابة للدفاع عن حقوق العاملات، مؤكدة أن «صاحب المقاولة سمح لمفتش الشغل بزيارة كافة العاملين من أجل الاستماع إلى شكاواهم، ولم يقل أي منهم إنه يتعرّض للاستغلال.. بل أكدوا جميعا أنهم يشتغلون وفق الشروط التي تعاقدوا بها معنا»، تضيف برباش، وهي تعدّل نظاراتها الطبية، التي ارتسمت تحتها ابتسامة باردة تشي بنهاية اللقاء..