يمكن القول أن قضية العفو عن الإسباني " دانييل غالفان"، وما تلاها من تداعيات، قد أسست لمرحلة جديدة في العلاقة بين الدولة والشعب. ذلك أن موجة الغضب والإحتجاج- التي شهدتها عدد من المدن المغربية- الرافضة لقرار العفو الملكي عن هذا المجرم الإسباني أعادت الروح للشارع المغربي، وأكدت أن شعلة 20 فبراير مازالت متقدة، وإن خفت وهجها كثيرا خلال السنتين الأخيرتين. وبالرغم من أن أسباب الإحتجاج هذه المرة تختلف عن ظروف خرجة الفبرايريين، فإن رد فعل المؤسسة الملكية كان متشابها، بالنظر إلى دور الشارع في التأثير على صناعة القرار في الحالتين معا. حيث كان خطاب 09 مارس 2011 الذي أعلن عن التعديل الدستوري بمثابة استجابة مباشرة لضغط الشارع ومطالبه الإصلاحية، وهو ما تكرر خلال الأيام الأخيرة بتراجع الملك عن قرار العفو بعد عودة المغاربة إلى الشارع مرة أخرى. لقد نجحت خطوة الإعلان عن التعديل الدستوري( وإن لم تكن في مستوى التطلعات) في منع رياح الربيع الثوري التي هبت على عدد من بلدان المنطقة من الوصول إلى المغرب، لكنها لم تنجح في إخماد الحركات الإحتجاجية التي تصاعدت بشكل ملفت منذ تنصيب الحكومة الحالية، وكان لافتا ذلك الارتفاع في جرعة الجرأة التي ميزت الحراك الشعبي المغربي الذي اكتسب ثقافة احتجاجية جديدة تجاوزت- ولو باحتشام- بعض الطابوهات والخطوط الحمراء. وقد كانت مناسبة العفو الملكي عن المجرم "دانييل" اختبارا حقيقيا لهذه الجرأة، خصوصا وأن قرارات الملك وتعليماته ظلت تحاط باستمرار بكثير من الاحترام إلى الحد الذي أصبحت معه غير قابلة للنقاش. غير أن ردود الفعل الشعبية الغاضبة والمنددة بقرار العفو أثبتت أن الشارع المغربي تجاوز حاجز الخوف، وبات مستعدا للقيام بوظيفة الرقابة التي تخلت عنها القوى الحزبية الممثلة في البرلمان بمختلف مشاربها. وهو بذلك يبعث برسالة لمن يهمه الأمر يؤكد فيها أنه أكثر تقدما وفاعلية من هذه الطبقة الحزبية التي تؤثث المشهد السياسي المغربي سواء كانت في الحكومة أو المعارضة. وقد بدا ذلك واضحا من خلال الصمت ( بل التأييد أحيانا) الذي ميز مواقف القيادات الحزبية من العفو الملكي. وفي هذا الصدد كان موقف العدالة والتنمية في هذا الملف مخزيا (استنادا إلى مسؤوليته في الحكومة) بالرغم من أن القرار صدر عن الملك. خسائر حزب المصباح ومعه حليفيه في الحكومة تجلت في مستويين: أولهما كشف عنه بيان وزارة العدل الذي اعتبر أن العفو عن المجرم الإسباني اقتضته المصلحة الوطنية للبلاد، ليتم بعد ذلك ضرب هذا البيان عرض الحائط بعد صدور بلاغ الديوان الملكي الذي برأ الملك من أية مسؤولية في هذه القضية، وما تلا ذلك من تدارك توج بفتح تحقيق في القضية ظهرت نتائجه على عجل، وانتهى بالتراجع عن قرار العفو. وهو ما أوقع الحكومة في حرج شديد، لأنه كشف عن تناقض صارخ يبرز ارتجالية العمل الحكومي وتخبطه، ويؤكد على تحييد دور الحكومة في كثير من القرارات والتدابير التي تكون بشأنها في مقام آخر من يعلم. وقد كان بلاغ الديوان الملكي كافيا ليتقدم وزير العدل باستقالته لو كانت هذه الحكومة تحترم نفسها وتحترم المغاربة. أما المستوى الثاني فيتجلى في التعاطي الأمني الذي واجهت به وزارة الداخلية جموع المحتجين، فقد كانت القوة مرة أخرى شاهدة على استمرار السلوك المخزني الذي دأب على تكميم الأفواه. والعجيب في الأمر أن حزب العدالة والتنمية الذي أقام الدنيا ولم يقعدها عندما تعرض أحد نوابه البرلمانيين للضرب من طرف قوات الأمن قبل عدة شهور، لم يكلف نفسه هذه المرة- كغيرها من المرات- عناء الحديث عن الموضوع، بالرغم من المسؤولية المباشرة التي يتحملها في ما حدث من قمع للمحتجين باعتبار موقعه في الحكومة. والآن، وبعد إلغاء الملك لقرار العفو، استطاعت المؤسسة الملكية أن تمتص الغضب الشعبي إلى حد كبير، فبالرغم من أن خروج المغاربة إلى الشارع ضدا على قرار ملكي شكل سابقة في عهد محمد السادس، فإن تراجع عاهل البلاد عن منح العفو لدانييل بعد تلك الفورة الشعبية منحه امتيازا جديدا وقدمه من جديد للرأي العام كملك منصت لشعبه ومحترم لمشاعره، لكنه كرس لدى المغاربة ذلك الموقف السلبي من الدائرة الضيقة للمحيط الملكي التي ينظر إليها كعائق أمام الإصلاح والتطوير. وكانت هدفا أساسيا للاحتجاج خلال الحراك الشعبي الذي دشنته حركة 20 فبراير قبل أكثر من سنتين. أما الشارع فقد بدا أكثر نضجا من النخبة السياسية التي مازالت مشدودة إلى منطق التعليمات، وغير قادرة على تحقيق الإستقلالية في صياغة مواقفها والتعبير عنها