تعتبر دراسة المسار التاريخي لتشكل القوة الإيديولوجية لأحزاب اليسار المغربي مرتبطة بخصوصية تطلعاتها السياسية،لاسيما بعد تشكيل حكومة عبد الله إبراهيم في نهاية خمسينيات القرن الماضي وبلورة الزعيم السياسي المهدي بنبركة للاختيار الثوري. فلقد أسهم هذا الأخير في إرساء قواعد اشتغالاليسار المغربيوبالأخص حزبالاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومن بعده حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية،كماغذتالتصورات السياسية لابنبركة المرجعية الإيديولوجية لليسار المغربيبقيم ثورية أسستلثقافة يسارية تهتم بضرورة تحرير المجتمع من التبعية الامبريالية والقطع مع الأساليب الإقطاعية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن ضرورة قيام حكم ديمقراطي يمثل الإرادة الشعبية ويشتغل في إطار دستور تشرف على صياغته جمعية تأسيسية منتخبة من طرف الشعب، وفق ما يمليه السياق الوطني حينها، حيث كانت الدولة حديثة العهد بالاستقلال، تتنازعها شرعيات متنافسة بين تلك التي تدعو الى استمرارية الشرعية التقليدية المستترة خلف بعض مظاهر التحديث وبين أخرى ترفع شعار العقلانية بخلفيات أيديولوجية سائدة في العالم حينها، وهو التنافس الذي سيرسم معالم مرحلة ما بعد الاستقلال الى غاية المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والانتقال من الاختيار الثوري الى الخط الاصلاحي بعنوانه الكبير النضال الديمقراطي. لقد اقترنتتاريخيا إيديولوجية اليسار المغربي بحتمية التغيير السياسي كشرط للتغيير الإقتصاديوالاجتماعي وفي العمق التغيير الثقافي للمجتمع، وذلك بغية إحداث القطيعة مع كل الأساليب السياسية الحامية لمصالح الطبقات الإقطاعية، ولعل النقاش التاريخي حول "الدستورالممنوح"بالمغرب والصراعات السياسية بين القوى اليسارية والمؤسسة الملكية لعدة عقود يندرجفي هذا السياق التاريخي الذي ساهم بشكل كبير في تحديد معالم الصراع والدينامية السياسية إلى حدود ولادة التناوب التوافقي سنة 1998. إن المتتبع لتاريخ القوى اليسارية المغربية ولا سيماالإتحادالإشتراكي للقوات الشعبية سيلاحظ بأن الصراع حول السلطة كان أحد أهم الموارد السياسية المغذية لفكر اليسار والمحددة في نفس الوقت لإلتزامه الإيديولوجي، لأن هاجس جل القوى اليسارية هو تأسيس ملكية دستورية برلمانية. فحتى عندما اختار حزب الإتحادالإشتراكي للقوات الشعبية في مؤتمره الإسثتنائي سنة 1975 تبني استراتيجية إحداث التغيير من داخل المؤسسات السياسية بواسطة خيار المشاركة السياسية، حيث كان الهدف منصبا علىالإندماج في اللعبة السياسية بشكل تدريجي بغية التمكن من تأسيس ملكية برلمانية ودستورية بالمغرب، وأساسا جعل منافذ مؤسساتية للإرادةالشعبيةمن أجل التأثير في مسار القرار العمومي المركز حينها لدى المؤسسة الملكية. تبرز أهمية البحث في طبيعة الصراع السياسي الذي كان قائما بين القوى اليسارية والمؤسسة الملكية في قدرته التحليلية على فهم أحد المقومات التاريخية المفسرة للدينامية السياسية بالمغرب، وأيضا دور الصراع الإيديولوجي في تحديد آلياتها وطرق اشتغالها، فبقدر ما كان الصراع بين القوى السياسية مكلفا على مستوى البناء الديموقراطي، إلا أنه كان يبعث دينامية في السياسة بالمغرب التي أصبحت اليوم تعاني من الموت البطيء بسبب تراجع الأداء السياسي للقوى اليسارية. بعد قبول جلأحزاب الكتلة الديمقراطية المشكلة من أهم أحزاب اليسار والحركة الوطنية للتصويت بنعم لفائدة دستور1996، وقيادة حزبالإتحادالإشتراكي لحكومة التناوب سنة 1998 أصبحت ثقافة التوافق والتراضي بمثابة المحدد الجديد للعمل السياسي لهذه الأحزابو لمسوغاتها الإيديولوجية لهذه التوافقات،حيثقبلت هذه الأحزاببالتراضي السياسي كأسلوب براغماتي يعبد أمامها الطريق لولوج مواقع المسؤولية السياسية وقيادة الحكومة، لكن مشاركتها السياسية خضعتلعدةإكراهات دستورية وسياسية حددت مسبقا سقف قدراتها على تغيير موازين القوى. إذ يجب الأخذ بعين الإعتبارالاستنزاف السياسي الناتج عن عقود من الصراع مع المؤسسة الملكية،وأيضا طبيعة الثقافة المؤسساتية المركبة منالتحديث والتقليدإضافة الى القواعد الدستورية موضوع التراضي في التأثير سلبا على قوة أحزاب الكتلة الديمقراطية خلال فترة التناوب. فالمؤسسة الملكية كانت ولا زالت بمثابة الفاعل السياسي المهيمن في المقابل ينحصردور الأحزاب في تدبير الاختيارات الاستراتيجية التي يتم تحديدها في مجلس الوزراء برئاسة الملك. لعل قبول الاتحادالاشتراكيومعه أحزاب الكتلة الديمقراطية،باستثناء منظمة العمل الديمقراطي(وهي امتداد لحركة 23 مارس الماركسية اللينينية)، الدخول في تجربة التناوب كان مبنيا على مجموعة من الحسابات السياسية التي أظهرت في مداها المتوسط على محدودية استراتيجية التغيير من داخل المؤسسات في ظل لعبة مؤسساتية تضبطها قواعد دستور ضمني حسب تعبير رقية المصدق، فبموجب هذه القواعد تتوفر المؤسسة الملكية على سلطة دينية تمكنهامن تعزير مراقبتها للعبة السياسية بالمغرب. وهذا ما جعل استراتيجية أحزاب الكتلة بزعامة الاتحادالاشتراكي للقوت الشعبية تصطدم بالهيمنة السياسية للمؤسسةالملكية التي حددت مسبقا شكل التناوب عبر ضمان مشاركة الأحزاب الإدارية في حكومة عبد الرحمن اليوسفي. لذا، فإن ثقافة التراضي بخلفياتها البراغماتية كشفت الستار عن انصهار القوى اليسارية داخل قوالب سياسيةجديدة غيرت من الهوية الإيديولوجية لحزبي الاتحادالاشتراكيوالتقدم والاشتراكية اللذان أصبحا، بسبب التراكمات المكتسبة من التجربة الحكومية وتبني التراضيالسياسي،قوى يسارية منشغلة بالبحث عن الفوز الانتخابي على حساب القيم الإيديولوجية والالتزام السياسي للقوى اليسارية، وهو ما أسهم في ظهور بروفيلاتإنتخابية بعيدة عن ثقافة وقيم هذه الاحزاب ومحسوبة على الاعيان الذين ألفوا الترشح في لوائح الاحزاب الإدارية فأصبح حجمها الانتخابي رهينة لهذا الوافد الجديد.كما تراجع سقف مطالبها السياسية وقدرتها على التعبئة الإيديولوجية أمام زيادة اهتمام قيادييها بضرورة البقاء في السلطة.وهذا مايفسره قبول حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 2002 المشاركة في حكومة رئيس وزرائها تكنوقراطرغم حصوله على الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية. فتنازل الحزب عن المنهجية الديمقراطية التي تحدث عنها اليوسفي في بروكسيل يعد مؤشرا قويا على مدى عمق التحولات الإيديولوجية والسياسية لحزب الاتحاد الاشتراكي،وتبنيه لبراغماتية سياسية تؤطرها ثقافة التراضيالتي أدت به إلى التنازل عن مهمته التاريخية في الدفاع عن قيم وقواعد التناوب الديمقراطي. لذا،شكلت تجربة 2002 منعطفا تاريخيا يؤرخ لنهاية الاتحادالاشتراكي كقوة يسارية بعد أن اختار البقاء على يمين السلطة من خلال مشاركته في حكومة جطو، ويتطلب تحليل أزمة اليسار بالمغرب الوقوف كثيرا عند هذه التجربة من أجل فهم عميق لمسبباتها التاريخية. يعد استحضار تجربة التناوب بمثابة مدخل أساسي لفهم أسباب وأبعاد هذه الأزمة، ناهيك عن كونها معطى تاريخي يلقي بنتائجه السياسية على واقع ومستقبل اليسار المغربي المشارك في هذه التجربة، لأنه أبان عن عدم قدرته السياسية علىالتشبت بقيم اليسار،حيث تقلص مستوى تأثيرها على الأداء السياسي لحزبي الاتحاد الإشتراكي والتقدموالإشتراكية.ويمكننا فهمأسباب تحول حزب الإتحادالإشتراكي من حزب إيديولوجي إلى حزب يستميل الأعيان من أجل الفوز بالمقاعد الإنتخابية، إذ منذ انتخابات سنة 2007 ،تغيرت الإستراتيجيةالإنتخابية لهذا الحزب اليساري،فبعد أن تنازل عن المنهجية الديمقراطية أصبح يعتمد في اشتغاله على آليات جديدة تبين مدى عمق تحوله من بنية حزبية يسارية إلى مقاولة انتخابيةتستعملنفسآليات الأحزاب الإدارية من أجل الفوز الانتخابي. لم تنحصر براغماتيةأهم قوى اليسار عند هذا الحد،بل تنوعت لتأخذ شكل تحالفات هجينة بين أحزاب اليسار والقوى الإسلامية ذات المرجعية المحافظة. فمثلا برر حزب التقدم والاشتراكية تحالفه مع حزب العدالة والتنمية بتقاسمهما لنفس المبادئ المدافعة عن المساواة والعدالة الاجتماعية،ومن جهة أخرىنجد أيضا تحالف حزب النهج الديمقراطي مع جماعة العدل والإحسان من أجل تشكيل كتلة سياسية مقاومة للاستبداد المخزني حسب تعبيرهم. إن طبيعةهذه التحالفات السالفة الذكر تثير الكثير من التساؤلات حول واقع ومستقبل المرجعية اليسارية في ظل تحولات إيديولوجية ودولية جعلت من تبني قيم العدالة الاجتماعيةومحاربة كل أشكال الظلم الاقتصادي والسياسي تيمة مشتركة بين القوى اليسارية التقدمية والقوى اليمينية المحافظة.غير أن مسار بناء التحالفات السياسية الهجينة تشوبه الكثير من العراقيل والتناقضات المتعلقة أساسا بمدى الانسجام الإيديولوجي بين قوى سياسية مختلفة مشاريعها الحزبية، وهوما يقتضي ربما القيام بمراجعات فكرية بين طرفي معادلة هذه التحالفات الهجينة، وهي مراجعات بعيدة المنال في ظل التصحر على مستوى النخب القادرة على انتاج اسس ايديولوجية متينة لمثل هذه المراجعات، إضافة الى البعد التكتيكي والمرحلي لهذه التحالفات الهجينة، بالرغم من قدم الدعوة لتشكيل الجبهة التاريخية التي نادى بها المفكر الراحل محمد عابد الجابري. فلقد لاحظنا كيف أبرزتحالف حزب التقدم والإشتراكية مع حزب العدالة والتنمية بأنه تحالف انتخابي مبني على حسابات سياسية مرتبطة بهدف المشاركة في الحكومة أكثر من كونهتحالف إيديولوجي بين قوى سياسية تظل الإختلافات المذهبية بينها قوية وذلك لأنهالاتدافع عن نفس المشروع السياسي و الاجتماعيخصوصا عندما يتعلق الأمربحرية المرأةو الحريات الفردية. بل حتى إذا تمعنا جيدا في التحالف القائم بين حزب النهج الديمقراطي وجماعة العدلوالإحسان نجد أن نقط الإختلاف بينهما على المستوى الإيديولوجي جد كثيرة لأنها تبرزأوجه التناقض القائمة بين برنامجين ، أحدهما علماني يساري تقدمي والآخر إسلامي محافظ. و في الواقعتكشف تحالفات الإسلاميين مع اليسار فشل هذا الأخير في بناء كتلة يسارية موحدة تعيد الروح للمرجعية الإيديولوجية اليسارية وتخرجها من مرحلة الموت السريري الذي تمر منه. ولقد لاحظنا بأن عدم تشكيل هذه الكتلة انعكس سلبا على نتائج اليسار وبالأخص الراديكالي خلال الانتخابات التشريعية لسنة 2021.كما نشير إلى فشل اليسار في توحيد مواقفه السياسية خلال مشاركته في حركة 20 فبراير، التي أظهرتتراجع القدرة التعبوية لليسارثم الاختلاف الحاصل بين أعضاء فيدرالية اليسار والنهج الديمقراطي فيما يخص التحالف مع العدل والإحسان. إنها في الواقع مؤشرات قوية على تشرذم اليسار الذي لم يتوفر على الحدس السياسي والاستراتيجي للاستفادةمن حراك20 فبرايرلإعادة ترميم صفوفه كقوى تقدمية مدافعة عن مبادئ اليسار التاريخية والمتمثلة في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. أما من جهة أخرى، ففشل فيدرالية اليسار في تنسيق مواقف مكوناتها الحزبية خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة يبرز مدى محدودية الإنسجام الحاصل بين قوى اليسار بسببسيطرة المنطق الذاتيالمتعطش للزعامةعلى بناء المواقف السياسيةو تبني الخيارتالإنتخابية، دون أن ننسى بأن جل أحزاب اليسار تديرها قيادات لفترات ليست بالقصيرة مثل قيادة ادريس لشكر للإتحادالإشتراكي للقوات الشعبية ونبيل بنعبد الله لحزب التقدم والإشتراكية. مايجعل الحديث عن احترام الديمقراطية داخل الأحزاب اليسارية أمرا صعبا،لكون هذه الأخيرة تعاني من غياب آلية التناوب الديمقراطي في اشتغالهامع العلم بأن اليسار من المفترض فيه أن يكون فضاء سياسيا لإنتاج قيم الديمقراطية.ناهيك عنتحول جل هذه الأحزاب إلى زوايا هجرها المريدون و سيطر عليها شيوخ استهوتهم شهوة السلطة والقرب من المركز. إن من أهم أسباب أزمة اليسار أيضا هو نوعية خطابه الإيديولوجي الذي لا زال نخبويا وكلاسيكياتسيطر على شكله مفاهيم يصعب على المواطن العادياستيعابها، إضافة إلى تراجع أداء المثقف اليساري الذي لم يعد حضوره قويا مثلما كان عليه في العقود الماضية وبالأخص تلك التي سبقت فترة التناوب التوافقي.و كذلك ضعف مواكبة القوى اليسارية للتواصل الرقمي كأحد الآليات الجديدة لإنتاج خطاب سياسي و إيديولوجي يراعي تطور عقلية الشباب اليوم الذي أصبح يفضل النضال الرقمي عبر الاحتجاج وممارسة السياسة داخل فضاءات التواصل الاجتماعي. تتشعبإذا أبعاد أزمة اليسار لكي ترسم لنا إطارا تحليليا تتفاعل فيه أسباب هذه الأزمة التي تشترط في القوى اليسارية ممارسة النقد الذاتي لإيجاد الحلول الكفيلة بإخراجها من النفق السياسي المسدود، والذي وصلت إليه نتيجة أخطاء متراكمة يتحمل فيها اليسار الكثير من المسؤولية التاريخية.لذا، يتطلب إصلاح اليسار تغيير منهجيتهالنضالية و ممارسة النقد الذاتي و الإهتمامبالتأطير السياسي عبر نهج سياسة القرب مع المواطنين بدل البقاء في برج إيديولوجي يجعل اليسارأسيرخطاب لا زال يذكرنا بالحرب الباردة،أو تبني أسلوبشعبويفي التواصل يزكي صورة نمطية حول هذه الأحزاب اليساريةباعتبارها مقاولات انتخابية همها الوحيد الفوز بمقاعد برلمانية أو وزارية حتى وإن كانت رمزية. *باحث في العلوم السياسية