وجد الملك محمد السادس نفسه، خلال العشر الأواخر من شهر رمضان، أمام إحدى أخطر الهزات التي واجهته منذ اعتلائه كرسي الحكم، قبل 14 سنة. وتابعنا جميعا، مثلما تابع غيرنا في إسبانيا وغير إسبانيا، كيف واجه الملك هذه الهزة، وكيف تصرفت الحكومة ووزراؤها ممن لهم صلة بها. قلت "إحدى أخطر الهزات"، لأن محمد السادس كان قد واجه، خلال هذه السنوات الأربعة عشرة، هزة أولى، كانت عنيفة هي الأخرى، وذلك قبل حوالي سنتين ونصف. الهزة الأولى هي تلك التي ارتبطت برياح "الربيع العربي"، حين تأسست بداية عام 2011 حركة 20 فبراير ونزلت بمطالبها السياسية "التغييرية" إلى الشارع المغربي. وكانت دروس تونس ومصر ماتزال حية طرية، ولذلك لم يتم تغييبها في كيفية التعامل مع هذه الحركة "الثورية" المباغتة التي تشتهيها رياح المنطقة. والوقائع مدونة في الخطاب الملكي ليوم 9 مارس، وتعديل الدستور، وإجراء انتخابات مبكرة، ووصول الإسلاميين المغاربة، كما في بلدان "الثورات"، إلى الحكومة وقيادتها. والهزة الثانية هي هذه التي شهدها المغرب مباشرة بعد شيوع خبر العفو الملكي عن سجين يحمل الجنسية الإسبانية، ضمن لائحة تضم 48 سجينا، كانت جريمته اغتصاب 11 طفلا مغربيا، وكان القضاء المغربي أدانه بثلاثين سنة سجنا، لم يقض منها إلا سنتين ونصف، ليجد نفسه معفيا عنه من الملك وخارج التراب المغربي. هذا العفو خلف غضبا شعبيا عارما وقوبل برفض قوي ترجمه مغاربة من مختلف الفئات والشرائح إلى احتجاجات ميدانية في عدد من المدن. وبالمقارنة بين الهزتين، أجدني أذهب إلى أن الثانية كانت، من بعض النواحي، أخطر من الأولى. كيف ذلك؟ الأولى كانت ذات طبيعة سياسية محضة، واندرجت في إطار حركية تشهدها المنطقة، فرفعت مطالب سياسية تشترك في روحها مع مطالب "الربيع العربي"، التي تتوجه بالأساس إلى الأنظمة من أجل الانتقال بها من وضع غير ديمقراطي إلى وضع ديمقراطي. أما الثانية فلها، فضلا عن طبيعتها السياسية المرتبطة بقرار سياسي صدر باسم الملك، طبيعة إنسانية حساسة للغاية. ولذلك، اتجه فيها الغضب ليس فقط إلى الملك المؤسسة، وإنما وبالأساس إلى الملك الشخص. فبدت صورة الملك محمد السادس في خطر، هو الذي حرص، منذ تسلمه السلطة، وحتى من قبل، على أن يرتكز على الحس الإنساني في رسم صورته. لكن الذي زاد من خطورة هذه الهزة على الملك المؤسسة والملك الشخص هو أنه وجد نفسه وحيدا أمام هول الخطأ الذي صدر باسمه. فقد لزم رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، الصمت ونأى بنفسه بعيدا عن القضية، وبدا كأنه غير معني بتفاعلاتها على أرض الواقع في المغرب وخارج المغرب. بينما سارع وزير العدل والحريات، مصطفى الرميد، إلى التنصل من المسؤولية وإزاحتها عنه، برميها على الديوان الملكي؛ أي على الملك، حتى قبل إجراء أي تحقيق، وذلك حين صرح (وظل يصرح) بأن وزارته توصلت بلائحة المعفي عنهم من الديوان الملكي وأن إدارته قامت فقط بالتنفيذ!! دون أن يقدم للرأي العام أية تفاصيل عن الكيفية التي تمت بها العملية. والمثير أنه رغم إبعاد وزير العدل المسؤوليةَ عنه، فإنه أعطى لنفسه الحق في تفسير قرار العفو عن مغتصب الأطفال، حين قال، في بلاغ "التنصل"، إنه عفو "أملته المصالح الوطنية العليا"!! وهو، بطبيعة الحال، تفسير خطير يضاف إلى خطورة قرار العفو، ويضاعف حجم مسؤولية من صدر العفو باسمه. إن الرميد بهذا التفسير/ التبرير كان كمن يصب الزيت على النار. فهو لم ولن يكون بإمكانه أن يبين أين تكمن "المصالح الوطنية العليا" في العفو عن مجرم اغتصب 11 طفلة وطفلا، وصدر في حقه حكم بالسجن ثلاثين سنة. ظهر الملك محمد السادس وحده يصارع الزمن ويواجه تداعيات العفو المتسارعة. وفي ظرف ثلاثة أيام، سارع إلى الإقدام على قرارات ومبادرات غير مسبوقة. وإذا كان المتتبعون قد سجلوا تأخرا في التفاعل مع ما جرى دام أربعة أيام الموالية لتاريخ إصدار العفو واشتعال ردود الفعل الرافضة والمستنكرة والمحتجة، والذي قد يكون مرده إلى سوء تقدير لما يمكن أن يترتب عن هذا الخطأ، فإن الملك، بعد هذا التأخر، سيبرز بمفرده في الواجهة، يعمل جاهدا لتدارك هذا التأخر؛ إذ لأول مرة، منذ تسلمه الحكم، سيصدر ذلك السيل المتواتر من البيانات والبلاغات. فبين 3 و6 غشت، صدرت عن الديوان الملكي أربعة بيانات/بلاغات تخص قضية واحدة. - البلاغ رقم 1 (3 غشت): الملك يعترف بخطأ العفو عن دانيال كالفان ويقر باختلالات أفضت إلى إطلاق سراحه. الملك يأمر بفتح تحقيق من أجل تحديد المسؤوليات والمسؤولين واتخاذ العقوبات اللازمة. الملك يعطي تعليمات من أجل اقتراح إجراءات لتقنين شروط منح العفو. - البلاغ رقم 2 (4 غشت): الملك يسحب العفو الممنوح لدانيال كالفان. - البلاغ رقم 3 (5 غشت): الملك يتوصل بنتائج التحقيق التي تحمل المسؤولية في خطأ منح العفو للمندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج. الملك يصدر العقاب بإقالة المندوب العام لهذه الإدارة. - البلاغ رقم 4 (6 غشت): الملك يستقبل آباء وأفراد أسر الأطفال ضحايا دانيال كالفان، فيما يشبه الاعتذار لهم، حيث سيعبر لهم عن "مشاعر تعاطفه معهم واستشعاره لمعاناتهم، سواء جراء ما تعرض له أطفالهم من استغلال مقيت، أو بسبب إطلاق سراح المعني بالأمر، بما لذلك من آثار نفسية عليهم". إنه تسابق مع الزمن غير مسبوق. فلأول مرة، يتابع المغاربة ملكهم يصارع ويسارع للحد من تداعيات القضية وطيها. ولأول مرة، يجري هذا التواصل عبر بلاغات يومية تخبر ب"الجديد". ولأول مرة، يتم سحب عفو ملكي بعد أن تم إعلان منحه وإطلاق سراح المستفيد منه. ولأول مرة يجري تحقيق في زمن قياسي (يوم واحد)، وفي الحين يتم الإعلان عن نتائجه، وعلى الفور ينزل العقاب على من حُمِّلَ المسؤولية. ولأول مرة، يتابع المغاربة، عبر التلفزة، استقبال الملك لمغاربة في مشاهد خالية من أي مظهر بروتوكولي، سواء بالنسبة لطريقة السلام، حيث كان الملك يتبادل مع أولياء الأطفال السلام بالعناق والانحناء إليهم، أو بالنسبة لشكل الجلسة، حيث كان الملك يجلس بجانبهم وبينهم، أو بالنسبة للفضاء الذي احتضن اللقاء (صالون مغربي بسيط)، فضلا عن مضمون الاستقبال الذي نقله بلاغ الملك. وبهذا الاستقبال، الذي جرى بعد ذيوع نبأ اعتقال المجرم دانيال على الأراضي الإسبانية، ينجح الملك في طي إحدى الصفحات المؤلمة التي واجهته في هذه القضية، وينقذ صورته وصورة الملكية المغربية من ضرر بالغ كان سيلحقهما من فضيحة حملت عنوانَ "العفو الملكي عن مغتصب الأطفال". ولابد أن هناك صفحات أخرى بحاجة إلى قراءة عميقة وتفاعل جدي من لدن الدولة ومؤسساتها والمجتمع وتنظيماته السياسية والمدنية. لننتقل الآن إلى الحكومة وننظر في طبيعة تعاملها مع هذه القضية. إذا كان التحقيق الذي أمر به الملك قد حمَّل المسؤولية في العفو عن مغتصب الأطفال للمندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، وأدى ذلك إلى إقالة مندوبها العام، فإن المسؤولية لا تنتهي هنا، ويجب ألا تنتهي هنا. إن ما أسفر عنه التحقيق لا يتعلق، في الواقع، إلا بنوع من المسؤولية يوجد في مرتبة أدنى، وهي المسؤولية الإدارية. إذ هناك مسؤولية أخرى، أكبر وأخطر، هي المسؤولية السياسية. وهذه المسؤولية تتقاسمها الحكومة مع الديوان الملكي. وحين نقول الحكومة في هذه القضية، نقصد رئيس الحكومة، الذي يوقع بالعطف على ظهير العفو، كما ينص على ذلك الدستور. وإلى جانب رئيس الحكومة، يوجد وزير العدل والحريات، وهو رئيس لجنة الشؤون الجنائية والعفو، التي تجتمع لتدرس "المطالب أو الاقتراحات الموجهة إليها ساعية في الحصول على جميع المعلومات، وتبدي رأيها الذي ترفعه إلى الديوان الملكي لأجل البت فيه"، كما جاء في المادة 12 من "ظهير العفو". ولهذه الأسباب، لم يكن من المسؤولية السياسية ولا الأخلاقية أن يختفي عبد الإله بنكيران بعد تفجر هذه القضية، ويركن إلى "صمت القبور" أمام قضية شغلت كل الرأي العام المغربي. ليس من المسؤولية السياسية ولا الأخلاقية ألا يتفاعل بنكيران مع الشعب، هو الذي لا يتعب من الادعاء أن "الشعب يثق به ويسانده وصوت على حزبه ومنحه الصف الأول". ولنفس الأسباب، لم يكن من المسؤولية السياسية ولا الأخلاقية أن يكون هم مصطفى الرميد فقط هو أن يفلت بجلده من هذه القضية التي تلبسه في كل الأحوال. نعم، حفيظ بنهاشم مسؤول إداريا، باعتباره المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج. وطبيعي أن يكون معنيا بالمساءلة والمحاسبة. لكن الرميد، باعتباره وزير العدل ورئيس لجنة الشؤون الجنائية والعفو، مسؤول سياسيا وكذلك إداريا. ولذلك، فهو أيضا معني بالمساءلة والمحاسبة. وليس مقبولا سياسيا ولا قانونيا أن يقول الرميد إن "وزارته توصلت بلائحة المعتقلين الإسبان المعفى عنهم من الديوان الملكي وأنها اكتفت فقط بالتنفيذ". فليس من حقه ألا يمارس كامل اختصاصاته التي منحه إياها القانون. وإذا قبل بذلك وقبل بأن يُنتقَص من صلاحياته، وبأن تجري عملية العفو عن السجناء الإسبان خارج المسطرة العادية التي ينظمها القانون، فإنه يتحمل مسؤولية مضاعفة، فيكون مسؤولا عن خرق القانون، فضلا عن المس بالوضع السياسي لوزير العدل. وقبل المساءلة السياسية والقانونية، تنتصب المساءلة الأخلاقية. وكان ينبغي أن تتم حتى قبل إجراء التحقيق الذي أمر به الملك، وليس وزير العدل أو رئيس الحكومة. وهذه المساءلة ذاتية، وكان لا يمكن أن تنتهي بأقل من أن يقدم وزير العدل استقالته، لا أن "يحمد الله ويثني عليه"، لأن التحقيق "السريع" أبعد عنه المسؤولية وألصقها برئيس إدارة تقع تحت "وصاية" وزارته وليست إلا عضوا واحدا من بين أعضاء "لجنة العفو". إن تقديم الاستقالة، في مثل هذه الأوضاع، قرار سياسي شجاع ونبيل، يُقْدِم عليه "رجال السياسة" و"رجال الدولة" الذين يستحقون هذا الاسم. ولأنه لم تكن له الشجاعة لاتخاذ هذا القرار الذاتي، فقد كان على رئيس الحكومة أن يتدخل بشجاعة، ويقيله، لا أن يطلب "الهداية" للملك، ويعمل بحديث "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قضية العفو عن مغتصب الأطفال جاءت لتعري وتكشف الحالة التي توجد عليها الحكومة المغربية في زمن دستور 2011. ولا يمكن أن نتعامل معها باعتبارها "مسكينة لا حول لها ولا قوة" أمام سطوة الديوان الملكي ومساعدي الملك. وينبغي ألا ننسى، هنا، أن السيد عبد الإله بنكيران خاض حربا ضروسا ضد كل من خالفه الرأي، زمن "الربيع المغربي"، و"جاهد" ليقول إن المغرب سيحقق الانتقال إلى الديمقراطية بدستور 2011، واعتبر بعد ذلك أن حكومته هي عنوان هذا الانتقال. لا يمكن أن يطلب بنكيران من المغاربة أن يصدقوه في كل ما يقول. يصدقونه حين يقول إن علاقته مع الملك على ما يرام. ويصدقونه حين يقول إن هناك ضربات من تحت ومن فوق. ولا يمكن لبنكيران أن يصادر على المطلوب، فحين يصيب فالصواب منه، وحين يقع في خطأ، مثل العفو عن مغتصب الأطفال، فالخطأ فقط من الديوان الملكي. لقد آن الأوان لهذه الحكاية أن تنتهي. إما أن يكون عبد الإله بنكيران رئيس حكومة أو لا يكون. وليس من حقه أن يستبلد المغاربة ويساهم، من موقعه الحكومي، في تضييع المزيد من وقتهم ويزيد في معاناتهم وعرقلة الانتقال إلى الديمقراطية. ويكفي أن نُذَكِّر، هنا، بما تعرض له المواطنون، الذين خرجوا يوم 2 غشت في الرباط ومدن أخرى للاحتجاج على العفو الملكي، من قمع وحشي وعنف همجي بلغ درجة قصوى من الهيستيريا خلقت عشرات الجرحى والمصابين. لم يكلف رئيس الحكومة نفسه "الظهور" وتوضيح ما جرى لمغاربة سيستجيب الملك لاحقا لبعض ما خرجوا من أجله. لقد تنصل بنكيران من المسؤولية، واكتفى بنفي علمه بما كان يجري في الساحة المقابلة لمقر البرلمان في الرباط من تعنيف للمحتجين. والتحق به وزير الداخلية، الذي تنصل هو الآخر من المسؤولية، حين أعلن أنه لم يصدر أي أوامر أو تعليمات إلى الأجهزة الأمنية للتعامل مع المحتجين بالعنف والقوة. وأصر وزير العدل والحريات على ألا يتحمل المسؤولية، هو الذي يوجد على رأس وزارة تعنى بالحريات، واكتفى بإطلاق وعد بفتح تحقيق في موضوع العنف الذي تعرض له المحتجون بتلك الطريقة الوحشية. إنها حكومة تحسن التنصل من المسؤولية وتصر على التشبث بكراسيها!! نعم، قرار العفو عن 48 سجينا إسبانيا، يوجد بينهم دانيال كالفان مغتصب الأطفال المغاربة، صدر باسم الملك. وهذا ما جعل الملك يتحمل مسؤولية في الخطأ، وجعل الغاضبين والمستنكرين والمحتجين يتوجهون إليه لتصحيح الخطأ وإلغاء العفو. لكن الخطأ تتحمله أيضا الحكومة، ممثلة في رئيسها ووزير العدل. وبينما واجه الملك الخطأ وحيدا وعمل على تصحيحه، توارت الحكومة عن الأنظار في انتظار الفرج! والحال أنه لو حرص رئيس الحكومة ووزير العدل على ممارسة كامل صلاحياتهما التي أوكلها إليهما الدستور والقانون، لجنبا البلاد والعباد والملك أيضا هذا الخطأ وتبعاته.