"الشعب يريد...". في الآونة الأخيرة، عاد هذا الشعار الرهيب والمرعب للطغاة ليرتفع في شوارعنا. والسبب كان هو عفو الملك عن الوحش الإسباني. في هذا المقال سأتحدث عن نقطة بسيطة، وهي السياق الذي جاءت فيه فضيحة "العفو –غيت"، وسأختم بحاشية على هامش هذه الفضيحة. السياق. لقد كان عاديا أن يصدر الملك عفوا عن عدد من المساجين بمناسبة دينية أو وطنية. لكن العفو هذه السنة بمناسبة عيد العرش، كان له طابع خاص؛ إنه ليس قرارا جزئيا معزولا عن إطاره العام. والإطار العام الذي يندرج فيه هذا العفو، هو إطار مسح صفحة وكتابة أخرى، جديدة. يقوم النظام المخزني منذ مدة، بعمل جبار ومركب ومنهجي من أجل محو صفحة الحراك الثوري الذي أطلقت ديناميته حركة 20 فبراير، وكتابة صفحة جديدة تعيد سياسة التحكم والاستبداد. من علامات هذا التوجه الكبرى والأخيرة زمنيا، علامتان: الأولى هي الانحياز للثورة المضادة في مصر، والثانية هي خطاب العرش ليوم الأربعاء 30 يوليوز 2013. 1-في مصر، تمكنت الثورة المضادة من سرقة انتفاضة 30 يونيو. وقد سقط هذا الانقلاب على الأنظمة المستبدة بردا وسلاما، وخلق لديها أملا في التخلص من حركة الشعوب. فرأيناها تتسابق فيما بينها لدعمه (أنظمة الخليج) وتهنئة قادته بنجاحه (النظام المغربي). إن نجاح عملية الانقلاب على الثورة في مصر، قد خلق بدون شك لدى أنظمة الاستبداد شعورا بأن الربيع بدأت أوراقه في الذبول، وأنه لم يعد هناك خوف من ارتداداته في بلدان الطغيان التي لم تهتز أركان طغيانها بشكل كافي بعد؛ وعليه فقد حان الوقت للتراجع عن كل التنازلات المريرة والشكلية، التي قدمتها أنظمة القحط في لحظة هلع ورعب، خَلَّفَه هروب بنعلي وخلع مبارك وقتل القذافي وترحيل علي صالح. 2- بدأ الحراك المغربي في 20 فبراير 2011. ومن ذلك التاريخ إلى 30 يوليوز الأخير وجه الملك خطابات عديدة. لكن هناك خطابان إثنان، يمثلان مؤشرا قويا على التحول في موقف النظام من مستحقات التغيير، التي رفعها الشعب المغربي من خلال حركة 20 فبراير. إنهما خطاب 17 يونيو 2011، و خطاب 30 يوليوز 2013 . كيف ذلك؟ يوم الجمعة 17 يونيو 2011 وجه الملك خطابا تحدث فيه عن مقترح الدستور الذي أعدته اللجنة المعينة برئاسة السيد عبداللطيف المنوني. جاء في الخطاب أن الدستور المقترح عرف جديدا على مستوى المنهجية وعلى مستوى الشكل وعلى مستوى المضمون. على مستوى المضمون استند الدستور المقترح، حسب خطاب الملك، على دعامتين واحدة تتعلق بالتشبث بالثوابت الراسخة للأمة المغربية (...)، وثانية تتعلق ب " تكريس مقومات وآليات الطابع البرلمانيللنظام السياسي المغربي، في أسسه القائمة على سيادة الأمة، وسمو الدستور كمصدر لجميع السلطات، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وذلك في إطار نسق دستوري فعال ومعقلن جوهره فصل السلط واستقلالها وتوازنها وغايته المثلى حرية وكرامة المواطن." هكذا كان الخطاب يؤكد انحياز النظام إلى نظام "الملكية البرلمانية". دليلنا على هذا الانحياز –اللفظي- هوأن "الطابع البرلماني" لأي نظام لا يمكن فهمه خارج اضطلاع رئيس الحكومة بصلاحيات كاملة. الطابع البرلماني لأي نظام لا يمكن فهمه في ظل وجود "سلطة" أخرى، تترأس مجالس عليا لا تقع–أي المجالس- تحت مسؤولية ما يسمى ب "رئيس الحكومة". لا يتحقق الطابع البرلماني لأي نظام، لمجرد أن دستوره ينص على "ربط المسؤولية بالمحاسبة"، بل يتحقق حينما لا تكون هناك سلطة فوق المحاسبة. هكذا نطق الملك في خطاب كانت أجواؤه هي أجواء الربيع الهادر من الخليج إلى المحيط. فكيف نطق في أجواء انقلاب الفلول على ثورة مصر (25 يناير 2011) وعلى انتفاضتها( 30 يونيو 2013)، وتعثر الثورة في سوريا والبحرين، ومشاكل الانتقال في ليبيا و تونس؟ في أجواء إطلالة الثورة المضادة في دول الربيع برأسها، جاء خطاب يوم الأربعاء 31 يوليوز 2013. وفي هذا الخطاب نقرأ ما يلي: " وخلال هذه المسيرة، عملت كل الحكومات السابقة، وبتوجيهاتنا، على تكريس جهودها المشكورة لبلورةرؤيتناالتنموية والإصلاحية. وهكذا وجدت حكومتنا الحالية، بين يديها، في المجال الاقتصادي والاجتماعي، إرثا سليما وإيجابيا، من العمل البناء، والمنجزات الملموسة. ومن ثم لا يسعنا إلا أن نشجعها على المضي قدما، بنفس الإرادة والعزم، لتحقيق المزيد من التقدم، وفق المسار القويم، الذي نسهر عليه. إن عزمنا الراسخ على تجسيد خيارنا، في استكمال المؤسسات الدستورية، ومقومات الحكامة الجيدة، في ظل دولة الحق والقانون، لا يعادله إلا العمل الدؤوب، في سبيل تحقيق مشروعنا، الذي قوامه النمو الاقتصادي المستمر، والتنمية المستدامة، والتضامن الاجتماعي." نحن هنا أمام خطاب واضح في انحيازه إلى الملكية التنفيذية، التي قال الخطاب الرسمي إبان سخونة الربيع الثوري، إن دستور فاتح يوليوز جاء ليقطع معها ويؤسس لملكية برلمانية. علامات تحيز الخطاب إلى الملكية التنفيذية اثنتان. أولا هناك الصيغة اللغوية التي دُبِّج بها الخطاب. فالعين لا تخطئ العبارات التي تحيل على الذات الملكية، فتُلْحِقٌ بهذه الذات كل شيئ . فالخطاب يتحدث عن توجيهات الملك وعن رؤية الملك وعن خيار الملك وعن مشروع الملك وعن حكومة الملك. هذا عن البعد اللسني التواصلي للخطاب، أما عن البعد الجوهري فيه، فتلخصه العبارة التي تخاطب حكومة "البارشوك السياسي" الحالية بالقول: "ومن ثم لا يسعنا إلا أن نشجعها على المضي قدما، بنفس الإرادة والعزم، لتحقيق المزيد من التقدم، وفق المسار القويم، الذي نسهر عليه." إن عمل الحكومة يقع تحت رقابة الملك، الذي يسهر على عمل الحكومة. والسهر بتعبير قانوني هو الرقابة. والرقابة كما تنص على ذلك كل دساتير المملكات البرلمانية في العالم الديمقراطي المتقدم ( ولا وجود لملكيات برلمانية بالضرورة إلا في دول العالم المتقدم)، لا تكون إلا رقابة ديمقراطية يقوم بها الشعب صاحب السيادة من خلال ممثليه المنتخبين، ولا تكون من خلال سلطة غير منتخبة، يمكن لرقابتها أن تنتج الكوارث دون أن يملتك الشعب الإمكان القانوني والدستوري لمحاسبتها. إن خطاب 30 يوليوز 2013 يفتح مرحلة جديدة، وهي مرحلة طي صفحة الحراك الثوري الشعبي وإعلان صفحة الملكية التنفيذية بوضوح ودون الحاجة إلى أقنعة. في هذا السياق، أي السياق المبتهج بنجاح الثورة المضادة في مصر، والوضوح السياسي لخطاب العرش الأخير، جاء العفو الملكي عن وحش إسبانيا. إن هذا العفو الصادم والجارح، هو وليد هذا الإحساس بأن الربيع انتهى، وأن حركة 20 فبراير في حالة ضعف وهوان كبيرين، وأن الانتفاضات الاجتماعية ليست مسترسلة في الزمن، وبالتالي ف "يا جبل ما يهزك ريح". لأجل كل ما سبق، لا يشكل الاحتجاج على فضيحة "العفو –غيت" معركة جزئية، بل هي معركة أشمل من ذلك؛ معركة بين معسكر" الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية"، و معسكر "الفساد والاستبداد والتبعية". لهذا فهذه المعركة التي حقق فيها الديمقراطيون انتصارا جزئيا، هي معركة من أجل المغرب، وسيكون لها ما بعدها، لأنها ستشكل علامة فاصلة تميز بين مرحلة ما قبل فضيحة "العفو –غيت" ومرحلة ما بعد هذه الفضيحة. إنها لبنة تنضاف إلى التراكم النضالي لشعبنا وللمستضعفين التواقين إلى "الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية". حاشية غير ختامية. لواحق ثلاث رافقت فضيحة "العفو–غيت"، تزيد تأكيدا على أن العفو جاء في سياق إحساس النظام المخزني بأن الحراك الشعبي مجرد قوس وانغلق: لاحقة تطرح سؤال من يحكم، ولاحقة تطرح تهافت أطروحة "ثورة الصناديق"، ولاحقة تطرح السؤال حول طبيعة النظام السياسي. 1 - صدر عن الحكومة المغربية الحالية بخصوص العنف الذي مارسته قوى الأمن على المتظاهرين السلميين، تصريح جد خطير لم ينتبه إليه الكثير. إنه تصريح وزير الداخلية. لقد قال هذا المسؤول أنه لم يصدر إطلاقا أي أمر لقوات الأمن بقمع التظاهرات. هنا نطرح سؤالا بسيطا: إذا لم تكن وزارة الداخلية هي التي أصدرت للأمن الأمر باستعمال العنف، فهل يعقل أن تتصرف هذه القوات من تلقاء ذاتها؟ إن هذا التساؤل يثير ما صدر في خطاب 30 يوليوز 2013 حول "عزمنا الراسخ على تجسيد خيارنا، في استكمال المؤسسات الدستورية، ومقومات الحكامة الجيدة" فأي حكامة جيدة هذه التي تجعل قوات أمنية نظامية تابعة لوزارة الداخلية، تخرج لتعنيف المواطنين دون أن تكون قد تلقت أمرا من رئيسها، المتمثل في المسؤول عن القطاع الوزاري الذي تنتمي إليه هذه القوات؟ هنا يحق لنا أن نطرح إمكانية أن تكون هناك جهة غير وزارة الداخلية (التي هي قانونيا قطاع حكومي) تملك من السلطة ما لا يتوفر لوزير الداخلية؛ وهذا الإمكان يطرح بالقوة سؤال المسؤولية بين القانوني والفعلي، أو سؤال "من يحكم في المغرب؟" 2 - إن هذه الوضعية الغريبة لتؤكد بما لا يدع مجالا للشك إن أطروحة "ثورة الصناديق" قد وصلت إلى نهايتها، ولم يبق لأصحابها إلا الإعلان الشجاع عن فشل مقاربتهم، وأنهم لم يكونوا في واقع الأمر إلى "بارشوك سياسي"، لم يعد الاستبداد في حاجة إليه بعدما أصبح مركب " الفساد والاستبداد والتبعية" لا يجد حرجا في الإعلان بشكل مباشر عن خياره التحكمي. 3 - إن هذا الخيار التحكمي قد عاد بقوة مع "العفو-غيت"، ومع خطاب 30 يوليوز 2013. مع هذه العودة نكون من جديد أمام السؤال الذي طرحته حركة 20 فبراير، وهو سؤال طبيعة النظام السياسي. لن يكون المشهد السياسي بعد "العفو –غيت" كسابقه. لقد طرح الشعب المغربي في تظاهراته، استقلال القضاء عن المؤسسة التنفيذية الفعلية؛ والمؤسسة التنفيذية الفعلية في حالتنا بالمغرب هي المؤسسة الملكية. إن التظاهرات قد بينت أن الحراك الشعبي لم يمت، بل لا زال حيا. ومن يشكك فيه فليخبرنا متى حصل في التاريخ المعاصر للمؤسسة الملكية تراجع عن قرار سبق واتخذته؛ وأقصد القرارات "السيادية" وليس القرارات التنفيذية (التراجع عن قرار رفع الأسعار بعد التظاهرات خلال الثمانينات). في كلمة أخيرة لقد رجع شعار "الشعب يريد...". انتهى تمارة 08 غشت 2013.