إن الفلسفة التي يقوم عليها العفو بصفة عامة، باعتباره آلية لإلغاء العقوبات أو الأحكام القضائية جزئيا أو كليا، سواء تعلق الأمر بتشريعات وضعية أو شرائع دينية تنطلق من مبدأين أساسيين: الأول: تدارك ما يمكن أن يقع فيه القضاء من خطأ في حق المحكوم عليه بعقوبة معينة، خاصة بعد استنفاذ القضية لجميع طرق الطعن القانونية. على اعتبار أن الأحكام القضائية لا تخرج في كليتها عن كونها اجتهاد للقاضي قابل للخطأ كغيره من أعمال البشر، وذلك لاعتماد القضاء على وقائع ظاهرية مهما بلغت قطعيتها تظل نسبية ومعرضة للدحض مستقبلا. فقد اشتهر بين الأصوليين والفقهاء مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في هذا الصدد: " أُمِرْتُ أَنْ أَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ "، وفي حديث أم سلمة: " إنكم تختصمون إليَّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ، فلا يأخذ منه شيئا ". والثاني: إعطاء الفرصة للأشخاص الجانحين والمتورطين في ارتكاب جرائم معينة، لمراجعة مواقفهم ومساعدتهم على تصحيح مسارهم وبناء حياة جديدة بعد ندمهم على ما اقترفوه وعزمهم على الاندماج من جديد في المجتمع بشكل إيجابي ونافع بعد خضوعهم للتأهيل. غير أنه إلى جانب هذين المبدأين النابعين من مقاصد مشروعة تتجه نحو إحقاق العدالة ومساعدة الأشخاص المنحرفين داخل المجتمع على التصالح مع هذا الأخير والعودة إليه بعد توبتهم، أثار فقاء القانون عدة هواجس حول السلبيات التي قد تنجم عن ممارسة العفو، نذكر من أهمها: المس بمبدأ الفصل بين السلطات من خلال تعطيل مفعول السلطة القضائية عبر تدخل السلطة التنفيذية أو التشريعية بواسطة آلية العفو لإبطال مفعول أحكامها. ضرب مبدأ المساواة بين المواطنين أمام تطبيق القانون. التأثير سلبا على فعالية النصوص القانونية وجدواها. إمكانية التسبب في اضطرابات اجتماعية من خلال العفو على بعض الأشخاص الذين يقترفون جرائم يكون لها صدى وتأثير كبير داخل المجتمع. فتح باب التمييز وانتشار مظاهر الفساد كالمحسوبية والرشوة واستغلال النفوذ. ومن تم أجمع الباحثون في موضوع العفو على ضرورة وضع معايير واضحة لتفادي هذه المزالق الخطيرة وضمان عدم استغلال هذه الوسيلة التشريعية من طرف من يملكها بعيدا عن مقاصدها المشروعة. بحيث يتم من خلال هذه الضوابط دراسة الحالات المرشحة للاستفادة من العفو، يعهد بها إلى هيئة مختصة لها خلفية قضائية وذات مواصفات موضوعية بعيدة عن الأمزجة الشخصية لأعضائها. بناء على ما ذكر ارتأينا أن نقوم باستقراء المقتضيات القانونية المنظمة للعفو بالمغرب لاستنباط ما إذا كانت هذه الأخيرة قد اتجهت نحو تحقيق المبدأين الواردين في مستهل هذه الورقية وضمان عدم الانزلاق في المحاذير السالفة الذكر، أم أن الأمر خلاف ذلك. خاصة أمام الصدمة التي أصابت المجتمع المغربي مؤخرا، بجميع مكوناته، جراء صدور العفو الملكي الذي أفرج عن السفاح الاسباني "دانييل غالفان فينا" الذي اغتصب 11 طفلا، وذلك بعدما صدر في حقه قرار جنائي قضى عليه ب30 سنة سجنا نافذا لم يكد يكمل منها سنته الثانية. أولا: هل هناك معايير حددها قانون العفو المغربي؟ نص الفصل 58 من الدستور المغربي لسنة 2011 على أن الملك يمارس حق العفو، دون أن يورد أي تفصيل آخر في الموضوع. كما أنه سبق للفصل 42 من نفس الدستور أن اعتبر أن مشروع قانون العفو العام من بين النصوص التي يتداول فيها المجلس الوزاري، هذا المجلس الذي يرأسه الملك ويتألف من رئيس الحكومة والوزراء. وبالتالي يمكن أن نقول بأن المشرع الدستوري المغربي قد ميز بين نوعين من العفو، خاص وعام، وهو ما ذهبت إليه معظم الدساتير المتعلقة بدول أخرى. هذا وقد عرف المغرب صدور نص قانوني خاص بتنظيم العفو منذ السنة الأولى لاستقلاله أي سنة 1956، والمتمثل في الظهير رقم 1.56.091 الصادر في 7 رمضان 1375 الموافق ل 19 أبريل 1956 المتعلق بإحداث لجنة لمراجعة الأحكام الجنائية والعفو، هذا الظهير الذي ألغاه الظهير الصادر بتاريخ 2 شعبان 1377 الموافق ل21 فبراير 1958، والذي عرف بدوره عدة تعديلات آخرها ما أتى به القانون رقم 11.58 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.170 بتاريخ 27 من ذي القعدة 1432 الموافق ل 25 أكتوبر 2011. غير أن ما يلاحظ على مقتضيات هذا القانون خلوها من أي ذكر للمعايير أو الشروط التي يجب توفرها للاستفادة من العفو، واقتصارها فقط على موضوع العفو واللجنة المخولة دراسة الطلبات المرفوعة بصدده والتي يعتبر وزير العدل رئيسا لها، باستثناء ما مورد في الفصل السابع من القانون المذكور من كون العفو لا يلحق في أي حال من الأحوال ضررا بحقوق الغير، وهو مقتضى يفتقر لآلية إجرائية تضمن تحقيقه. مما يستفاد معه أن المنهجية المعتمدة من طرف اللجنة المذكورة لفرز الطلبات المرفوعة في الموضوع تبقى غامضة وغير معلومة للجمهور حتى يتسنى التأكد من مدى موضوعيتها واحترامها للمقاصد الإيجابية المبررة لمنح العفو. وهو ما يؤدي بشكل طبيعي إلى انعدام الشفافية في عملها ويضعف مبدأ التجرد في التعامل مع الحالات المعروضة عليها، خاصة أمام عدم خضوع عملها لأي مراقبة أو مساءلة في حالة انحرافها. ثانيا: قانون العفو ومبادئ دستور 2011: انطلاقا مما انتهينا إليه في الفقرة السابقة من كون قانون العفو المغربي يخلو من أي ضوابط أو معايير يمكن الارتكاز عليها للقول بالأحقية للاستفادة من العفو، يمكننا القول أن اللجنة التي عهد إليها أمر دراسة الطلبات التي يتقدم بها الأشخاص المعنيون، والتي هي عبارة عن جهة عمومية تابعة للسلطة التنفيذية، لا تخضع لأي آلية من الآليات الضامنة للشفافية والمساواة والحكامة الجيدة. مما يجعل القانون الذي أحدثها، أي قانون العفو، يتعارض صراحة مع مجموعة من المبادئ والمقتضيات الدستورية التي يمكن إيجازها فيما يلي: مبدأ المساواة بين المواطنين المشار إليه في تصدير دستور 2011 بصيغة الالتزام من طرف الدولة وضمان تحقيقه، والذي تم التأكيد عليه في الفصل السادس الذي نص على ما يلي: "تعمل السلطات العمومية على توفير الظروف التي تمكن من الطابع الفعلي لحريات المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ..." مبدأ تكافؤ الفرص وهو أيضا التزام ورد في تصدير الدستور. مبدأ الحكامة الجيدة الذي يعتبر من مستجدات دستور 2011 والذي أفرد له المشرع إلى جانب ذكره في التصدير والفصل الأول، أحكام الباب الثاني عشر منه. مبدأ الفصل بين السلط وضمان توازنها المشار إليه في الفصل الأول من الدستور، ويبرز خرق هذا المبدأ بشكل صارخ من مقتضيات الفصل الأول من قانون العفو الذي يعطي إمكانية ممارسته خلال مرحلتي ما قبل تحريك الدعوى العمومية وأثناء سريانها، حيث يتم بذلك عقل السلطة القضائية وتعطيل دورها في تطبيق القانون. كما أنه يعطل مفعول القانون أصلا ويساعد على تكريس عدم مساءلة بعض الأشخاص. مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي اعتبره الدستور من أهم الآليات التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة، وفق ما جاء في الفصل الأول السالف الذكر. ثالثا: قانون العفو وقيم العدالة: تقتضي قيم العدالة أن يضمن كل قانون حق المساواة بين الجميع خلال تطبيقه، وهو ما يصطلح عليه بالحق في المساواة أمام القانون الذي ورد في المادة 7 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وذكرته نصوص دولية أخرى دعت إلى احترامه. هذه المساواة التي تبقى رهينة بمستويين، هما: نص القانون في حد ذاته، وطريقة تطبيقه، حيث يتعين احترام خاصيتين أساسيتين هما: التجرد وعدم التمييز. غير أنه باستعراض أحكام قانون العفو على ضوء ما ذكر نجد أنه يفتقر إلى الخاصيتين المذكورتين سواء على مستوى النص أو على مستوى التطبيق. فبالنسبة لمضمون الفصول الواردة به نجد أنها تمتد بممارسة العفو إلى ما قبل تحريك الدعوى العمومية أي مصادرة حق المجتمع بصفته المعني بالحق العام في مساءلة المشتبه به في ارتكاب جرم يعاقب عليه القانون، دون اعتماد هذا القانون لأي مبررات واضحة يستوي أمام إعمالها كافة المواطنين، وهو ما قد يؤدي إلى التمييز بين هؤلاء في تطبيق أحكامه. إذ يمكننا من الناحية العملية أن نجد متهما يمثل الفاعل الرئيسي في قضية ما يتمتع بالعفو، في حين تتم متابعة أو إدانة متهمين آخرين في ذات القضية رغم أنهم مجرد مشاركين له. وهذا يتنافى مع منطق العدالة التي تقتضي المساواة بين المحاكمين في نفس القضية وبين جميع الأشخاص أمام القانون. هذا كما اللجنة التي تتولى تطبيق أحكام هذا القانون غير قضائية وذات صفة إدارية، وغير ملزمة بأي ضوابط موضوعية أو مسطرية لإبداء رأيها في الطلبات المرفوعة إليها في موضوع العفو. ناهيك عن كون رأيها هذا غير مقيد قانونا بأي تعليل. وهو ما يفتح الباب أمام تدخل عوامل سلبية تهدد تجردها وحيادها في التعاطي مع هذه الطلبات، وذلك من قبيل تدخل جهات نافذة لصالح أفراد دون غيرهم، أو استعمال الإغراءات المادية، أو استغلال النفوذ، أو التوظيف السياسي، وغير ذلك من مظاهر الفساد التي لا يمكن تفاديها أمام غياب معايير الشفافية والنزاهة. هذه المعايير التي أجمع معظم الباحثين في مؤشرات الفساد الذي قد يطال المؤسسات العمومية على أن هناك عوامل يمكن أن تتوفر في هذه الأخيرة وتؤدي إلى إيجاد الاستعداد أو القابلية لتفشي الفساد، وهي ما اصطلح عليها بعوامل الاستعداد المؤسسي للفساد، والتي يمكن إيجاز أهمها في: عدم تقنين معايير واضحة لعمل المؤسسة. انعدام ضوابط تكون في متناول جميع المتعاملين مع المؤسسة. عدم مراعاة حقوق جميع الأطراف المعنيين بقرارات المؤسسة. غياب التعليل في القرارت التي تصدرها. غياب آليات المراقبة والمساءلة. ولعل واقعة العفو الأخيرة التي استفاد من خلالها السفاح والمغتصب الإسباني الذي اعتدى على عرض 11 طفل مغربي بالقنيطرة بعد أن أدانه القضاء المغربي ب30 سنة سجنا، أكبر دليل على أن المقتضيات القانونية التي تنظم العفو بالمغرب غير فعالة وبعيدة عن ضوابط العدالة. حيث تم الإفراج عن السفاح المذكور قبل أن يقضي سنته الثانية، الأمر الذي استفز مختلف مكونات المجتمع المغربي الذين بادروا إلى التعبير عن استنكارهم من خلال وقفات احتجاجية واجهتها الأجهزة الأمنية بقمع عنيف، ليصدر بعدها بلاغ عن الديوان الملكي يؤكد عدم اطلاع الملك على الجرائم التي اقترفها المغتصب الاسباني، موضحا أن الملك لم يكن قط ليوافق على إنهاء إكمال "دانييل" (مغتصب الأطفال) لعقوبته بالنظر لفداحة هذه الجرائم الرهيبة التي اتهم بها. وهو ما يضع أكثر من علامة استفهام حول الأسباب الحقيقية التي دفعت لجنة العفو إلى إدراج اسم هذا الأخير ضمن لائحتها التي اقترحتها على الملك. وكل هذا يؤكد ما سبق أن بسطناه في هذه الورقة من كون قانون العفو بالمغرب يتناقض مع مبادئ الدستور ويعطل قيم العدالة. محام، وباحث أكاديمي