ما فتئت مواقف الاشتراكي الموحد من تطورات الوضع في مصر وما تشهده الساحة الوطنية تثير ردود فعل كثيرة من قبل خصومه والذين يختلفون معه. إن هذا الكم من النقد يؤكد أن الحزب بصحة جيدة وأنه إطار فاعل وديناميكي وحاضر في الساحة. يدافع عن مشروع وأفكار ولا يتوقع على أية حال أن يلقى ترحيب الجميع، فالنقد مشروع بل مطلوب، شريطة ألا يتجاوز حدود اللياقة ويصل حد الهجوم على الحزب وعلى أمينته العامة ويتم تصوير الأمر وكأن المشكلة تكمن في قيادته من قبل امرأة !. الحزب وحملات الاعتقال والمحاكمات الصورية إن الحزب الاشتراكي الموحد ما زال يؤدي ضريبة دفاعه عن مواقفه الثابتة من الإصلاحات السياسية والدستورية التي لم تعد تقبل التأجيل، باعتبارها المدخل الرئيسي للبناء الديمقراطي وسمو السيادة الشعبية في محيط يتجه نحو تحقيق الكرامة والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. فالسلطات لا تألو جهدا في محاربته بشتى الأشكال بسبب انحيازه للطبقات المقهورة ودعمه لحركة 20 فبراير وموقفه من دستور 2011 وكذا مساندته لنضالات العمال في عدد من المواقع (وازار وإيميضر...). مناضلو الحزب تعرضوا وما يزالون لحملات القمع والتشهير والاعتقالات والمحاكمات الصورية بناء على ملفات مفبركة. وقد بدأ ذلك باعتقال ومحاكمة كل من حميد نجيبي بواد زم بتهمة الانتماء إلى خلية إرهابية، ثم الصديق كبوري والمحجوب شنو ببوعرفة بتهمة العصيان وإثارة الشغب، ليصل الدور على محمد ياسر اكيمرة بسيدي سليمان الذي حوكم بتهمة محاولة دهس سيدة بسيارة، ويوسف بنالصباحية ببنسليمان، وحميد مجدي بوارزازات بتهمة حيازة المخدرات، قبل أن يصدر أخيراً الحكم ببراءة هؤلاء الثلاثة من التهم المنسوبة إليهم، مع أن مأساة حميد مجدي مازالت مستمرة بسبب تسجيل عشر متابعات أخرى ضده وترحيله القسري إلى قلعة السراغنة والترهيب المتواصل لعائلته... كائن "مجهري" مزعج ! آخر ردة فعل اتجاه مواقف الحزب تمثلت في وصفه بالحزب "المجهري وأنه "يتكلم وكأن وراءه مليون منخرط"، وأنه "لا يحرك ساكنا في المجتمع المغربي ولا وزن له في الحياة السياسية"... دعوني هنا أطرح معكم هذه الأسئلة التي أعتبرها مشروعة: هل هناك حزب لا وزن سياسي له تعرض وما يزال لكل هذه القمع الذي يواجهه الاشتراكي الموحد بقوة وثبات؟ هل هناك حزب "مجهري" في البلاد يحاكم مناضلوه بهذا الشكل؟ دلونا بالله عليكم على حزب لا يحرك ساكنا يهاجمه المخزن وكل خصوم الديمقراطية على هذا النحو !. إن موجة النقد هذه، التي تعدت في كثير من الأحيان حدود اللياقة، تظهر إلي أي حد هو مزعج هذا الحزب الذي يدفع ضريبة مواقفه الشجاعة من الفساد والاستبداد، ومواجهته للفكر غير العقلاني الذي يضرب بعرض الحائط كل المكتسبات التي حققها شرفاء هذا الوطن وقدموا من أجلها التضحيات الجسام. هذا الحزب "المجهري" يا سادة لا يمكن إلا أن يكون مزعجا، ما دام متشبثا باستقلالية قراره، بوضوح خطه السياسي مقابل البرغماتية وقبول الترويض اللذين يفقدان العمل السياسي لونه وطعمه، ويدفعان المواطن والمواطنات إلى فقدان الثقة في السياسة والسياسيين، حيث يختلط الحابل بالنابل، الصالح بالطالح... الاشتراكي الموحد مزعج بسبب وضوح مرجعيته. ففي الوقت الذي يسعى فيه البعض إلى أدلجة الدين، يصرخ هو بأعلى صوته بأن الدين ليس حكرا على أحد بل هو ملك للجميع، وأنه لا بد من رفع القداسة على الأحزاب السياسية والاستفادة مما راكمته البشرية في ما يخص إبعاد الدين عن السياسة، فما أحوجنا اليوم إلى قراءة متنورة لتراثنا الديني حتى نتصالح مع قيم الديمقراطية والحداثة والحرية. الاشتراكي الموحد مزعج حقا لأن مشروعه السياسي وخياره الاستراتيجي هو الملكية البرلمانية بالمعايير الدولية التي تعني فصل حقيقي للسلط وترسيخ سيادة الشعب. لأنه متشبث بإقامة دولة مدنية ومجتمع تسود فيه المساواة بين كافة المواطنين بغض النظر عن جنسهم أو لونهم أو عقيدتهم... لأنه يدافع بلا هوادة على التعاقد الاجتماعي لبناء وطن يسع الجميع إزاء طروحات لا مشروع مجتمعي لها، طروحات تعتبر أن مشروعها جاهز منذ 14 قرنا !. الاشتراكي الموحد لا يمكنه إلا أن يكون مثار قلق البعض، لأنه يؤمن بالفكر العقلاني المتحرر، رأسماله مصداقيته، منسجم مع قيم المساواة والانفتاح، يرفض استغلال الدين لتحقيق مآرب سياسية. هذا الحزب يا كرام يرفض الاصطفافات الهجينة ويناضل في الآن نفسه ضد الأفكار الماضوية المناهضة لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان غير القابلة للتجزيء، فالديمقراطية ليست مجرد أرقام تفرزها صناديق الاقتراع، إنها قناعة وإيمان بغد يسع الجميع، أقلية وأغلبية، حيث لا يضطهد أحد أحد باسم دين أو لون أو عرق أوإيديولوجيا... لا شك أن لهذا الحزب، مثله مثل باقي الإطارات المناضلة، أخطاء ونقاط قصور وضعف، بعضها ذاتي وبعضها لا يد له فيها، إذ لا يجب أن نتناسى المخطط الذي انتهجه المخزن والقوى الداعمة له لضرب مصداقية اليسار عموما وإنهاك كل القوى المعارضة لمصالحه ومشروعه الاستبدادي. وحتى إذا افترضنا جدلا أن الاشتراكي الموحد فعلا "كائن ميكروسكوبي" لا وزن له كما يحلو لبعض وسائل الإعلام وبعض خصومه نعته، مع أن مسألة الأرقام وحجم العضوية فيها نظر، فلكل إطار الحق في تدبير شأنه الداخلي بالطريقة التي يراها مناسبة لتحصين خطه السياسي وضمان عدم انحرافه عن أهدافه ومبادئه... فمتى كان الكم والكثرة العددية مقياس للقوة والتأثير؟. ثم من قاد معركة الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية عبر التاريخ وفي كل التجارب الديمقراطية في العالم؟ أليست الأقلية هي التي واجهت استبداد كنيسة القرون الوسطى وقادت معركة الحرية والتنوير وتعرضت لشتى أنواع القتل والترهيب والتكفير، ومع ذلك لم ينصفها التاريخ إلا بعد سنوات طويلة؟ ألم تعش هذه الأقلية منبوذة وخارجة عن الإجماع ومغضوب عليها من قبل الحكام ومجتمعاتها المحافظة؟ ألم يقل مارثن لوثر كينغ ذات مرة بأن "الديمقراطية ليست استفتاءا بالأغلبية، فلو استفتي الأمريكيون لظل السود عبيدا" !. خيار المساواة والديمقراطية لعل أغرب ردة فعل اتجاه مواقف الحزب وتصريحات أمينته العامة تجلت في الاستدلال بحديث مشكوك في صحته وسنده "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" . ألا ينم هذا الموقف عن عقلية مغرقة في المحافظة لفظها العصر وترفضها كل القيم الإنسانية ؟ ألا يقصد صاحب هذا الرأي "معاقبة" و"شتم" مناضلي الحزب بسبب اختيارهم لامرأة كي تتولى زمام إطارهم ! . لما قرر مناضلو الاشتراكي الموحد، عن سبق إصرار، "أن يولوا أمرهم امرأة"، لما اختاروا أن تقود سفينتهم مناضلة شجاعة ونزيهة تزعج بمواقفها الصديق قبل العدو، امرأة من طينة نبيلة منيب، فلأن ذلك نابع من قناعتهم الراسخة ومصالحتهم مع قيم العصر وإيمانهم بقيم المواطنة الإنسانية " Valeurs citoyennes humanistes ". إن هذا الحزب مؤمن بأن المساواة والديمقراطية مرتبطان ببعضهما ولا يمكن تجزيئهما. يعتبر النهوض بمجتمع نصفه مهمش، مقصي ومنبوذ، أمر مستحيل ولا يقبله العقل البتة !. الخوف كل الخوف من هذا الحقد الأعمى الذي يكبر يوما عن يوم مثل كرة الثلج، فهذه الكراهية التي بدأت نيرانها تستعير قد تأتي على الأخضر واليابس.. فما أحوجنا الآن أكثر من أي وقت مضى إلى النقاش الهادئ الرصين ومقارعة الحجة بالحجة بدل التحريض على العنف والترهيب. (*) عضوة لجنة الإعلام والتواصل، ولجنة المساواة والديمقراطية بالحزب الاشتراكي الموحد