صحيح أن أمريكا نجحت في فك الارتباط الأوروبي الروسي الذي كان قد بدأ يتطور عبر شراكات تخص مجالي الطاقة والأعمال، واستطاعت ان تزج بالاتحاد الأوروبي في صراع مرير ضد روسيا من خلال الحرب التي افتعلتها في الشرق الأوروبي عبر وكيلتها أوكرانيا، بعد ان هيأت لها كل الظروف منذ تنصلها من الالتزامات التي قطعتها لغورباتشوف سنة 1991 بعدم توسع الحلف الأطلسي شرقا وأذكت نارها بدفع القيادة الأوكرانية إلى عدم الالتزام باتفاقيات مينسك التي تمت بضمانات أوروبية سنة 2014 ، وكذا الضغط الأمريكي على ألمانيا من أجل عدم تشغيل خط السيل الشمالي " نورد ستريم 2 " فور الانتهاء من أشغاله، بل عملت على إذكاء نار هذا الصراع من خلال الضخ المتزايد للأسلحة الأمريكية والأطلسية المتطورة من أجل إطالة أمد الحرب والرفع من منسوبها، في مقابل الدفع بنظام كييف إلى الانسحاب من مفاوضات السلام مع موسكو في مينسك أولا وتركيا لاحقا، والتي كانت قاب قوسين أو أدنى من التوصل إلى إتفاق سلام بين الجانبين، بل إن الإعلام الأمريكي والغربي المسيطر عليه أمريكيا، كان له الأثر الكبير كذلك في خلق حالة من الروسوفوبيا لدى الرأي العام الأوروبي الذي أصبح مناهضا لكل ما هو روسي والدفع بالدول الأوروبية للارتماء من جديد في الحضن الأمريكي وإقناعها بأنها الضامن الوحيد لأمنها الاقتصادي والعسكري من التهديد الروسي . كل ذلك يتم بانسجام تام مع الخطة الاستراتيجية التي اشتغلت عليها أمريكا والمتضمنة في ميثاقها القومي الذي وضع كل من روسياوالصين كتحد او تهديد استراتيجي للإبقاء على هيمنتها على العالم، وأن ما تفتعله من نزاعات مسلحة على الحدود الشرقية لأوروبا وفي بحر الصين الجنوبي والتي قد تؤدي الى انهيار للاقتصاد العالمي أو حرب كونية كارثية على البشرية، خاصة وأن الدول المستهدفة في الصراع هي قوى إقتصادية ونووية عالمية، لا يعد بالنسبة لأمريكا إلا لعبة تكتيكية في عملية تدبيرها للصراع الدولي ضمن ما يسمى بسياسة حافة الهاوية التي تهدف من خلالها إلى لجم الصينوروسيا من جهة وإعادة ضبط أوروبا التي كانت قد بدأت تتلمس خطواتها في بناء قطب إقتصادي وسياسي بل وعسكري مستقل عن الولاياتالمتحدةالأمريكية ورفعت بموازاة ذلك مستوى علاقاتها مع موسكو إلى الشريك الاقتصادي و التجاري الاستراتيجي عبر ما سمي باتفاقية الشراكة والتعاون سنة 1994 والتي تم تطويرها سنة 2007 ، هذا بالإضافة لانضمام روسيا إلى منظمة الأمن والتعاون الأوروبي التي شملت دولا أخرى من أوروبا الشرقية والفضاء السوفييتي السابق . فبناء على ما سبق، ما هو موقع أوروبا الغارقة في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية نتيجة لارتداد العقوبات المتتالية التي فرضتها على روسيا والدعم المالي والعسكري الذي تقدمه لأوكرانيا الذي كان من نتائجه صعود الأحزاب الوطنية القومية واتساع رقعة الاحتجاجات ضد الحكومات الأوروبية التي أذعنت للرغبات الأمريكية على حساب مصالح شعوبها ؟. وهل يمكن اعتبار ما تصوغه هذه الحكومات من تبريرات لهذا الدعم أساسه الدفاع عن قيم الديموقراطية الغربية لا زال مقنعا للشعوب الأوربية التي أصبحت تعلم علم اليقين أن هذه القيم لا تنطبق على النظام السياسي في كييف الذي وصفه أكثر من تقرير غربي بالفاسد واللا ديمقراطي ؟، وإلى متى ستظل هذه الحكومات الأوروبية مذعنة للإرادة الأمريكية التي تدير صراعها الجيواستراتيجي على الحدود الشرقية لأوروبا، وذلك على حساب المصالح الأمنية والاقتصادية لدولها ؟. يمكن القول إذن إن الأجندة الأمريكية كانت واضحة منذ البداية، وأنها تهدف إلى استنزاف روسيا عسكريا واقتصاديا من خلال إطالة أمد الحرب في أوكرانيا والدفع بالاتحاد الأوروبي لاستصدار ترسانة من العقوبات تهم كل مجالات الثقافة والمال والأعمال والطاقة وتنقل الأفراد وتجميد الأرصدة الروسية في البنوك الأوربية التي تبلغ قيمتها أكثر من 200 مليار يورو وعدم تشغيل خط السيل الشمالي 2 الذي يربط مباشرة روسيابألمانيا، بل وتفجير خط السيل الشمالي 1 في المياه التجارية للدانمارك الذي سبق أن طالب جون بايدن في ندوة صحفية بضرورة توقفه مضيفا أن هناك طرقا كثيرة لتحقيق هذا الهدف، وهو بذلك كمن يريد وضع الدول الأوروبية في موقع اللاعودة من قطع إمدادت الغاز الروسي عن اوروبا. لكن ومع إطالة أمد الصراع، يبدو أن كل هذا لم يكن كافيا لتحقيق الأهداف الأمريكية تجاه روسيا التي وإن تأثرت بهذه العقوبات، إلا أنها ردت بالمثل على أكثر من مستوى في علاقاتها مع الغرب الأطلسي باشتراطها الدفع بالروبل وتقليص حجم إمدادات الطاقة ومنع تصدير المعادن النبيلة وتشجيع الصناعات الوطنية بديلا عن تلك المستوردة، في مقابل ذلك عملت على توسيع شراكاتها التجارية والاقتصادية شرقا عبر منظمات إقليمية ودولية بديلة اشتغلت عليها روسياوالصين منذ مدة تحسبا لهذه المرحلة كمنظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة البريكس ولقاء أستنا للدول الآسيوية ومنظمة أوبك بلس التي تأسست سنة 2016 التي تضم 23 دولة بالإضافة لمنظمات إقليمية أخرى، وهو ما أربك الحسابات الأمريكية وحسابات الحكومات الأوروبية التي وجدت نفسها ضحية للعقوبات التي سنتها ضد روسيا، مما دفع بالكثير من دول أوروبا إلى التريث وإعادة النظر في علاقاتها بروسيا بعد أن أقرت بفشل سياسة العقوبات الأوروبية، ومنها من رفض تدريب قوات أوكرانية فوق أراضيها كهنغاريا وكرواتيا، والبعض الآخر رفض فرض عقوبات إضافية على الطاقة الروسية حفاظا على مصالحهم الوطنية ضد سياسة الإجماع الأوروبية، وهو ما ذهبت إليه ألمانيا بصيغة أخرى حين ضخت 200 مليار يورو كدعم لشركاتها وللمتضررين من مواطنيها من جراء ارتفاع مستويات التضخم، مما أثار حفيظة فرنسا التي اتهمتها بالخروج عن سياسة التضامن الأوروبية وتقويض مبدأ التنافسية بين الشركات الأوروبية، كما أن الصراعات البينية التي بدات تنخر الجسم الأوروبي خاصة في غياب بدائل الطاقة الروسية التي وعدت بها أمريكا، والتي لم تستطع إقناع شركائها الخليجيين من أجل زيادة الإنتاج، رغم الزيارة التي قام بها بايدن للمنطقة، بل عملت السعودية وشركاؤها في منظمة ابك بلس إلى خفض الإنتاج بنسبة 2 مليون برميل في اليوم ابتداء من نونبر المفبل، وهو ما اعتبرته أمريكا استهدافا مقصودا لها ودعما لروسيا. كما أن أمريكا ومن خلال الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات التي فرضتها أوروبا على إمدادات الطاقة الرخيصة القادمة من روسيا، عملت على استغلال الوضع على أكثر من مستوى ليجد الأوروبيون أنفسهم أمام طاقة أمريكية تساوي أربعة أضعاف الطاقة الروسية، بالاضافة إلى ضرورة زيادة حجم نفقاتهم العسكرية من أجل تعويض مخزونهم من الأسلحة بعد أن قدموا معظمها إلى أوكرانيا، وكذا الرفع من مستوى مساهماتهم في منظمة الحلف الأطلسي التي يستفيد منها مجمع الصناعة العسكرية الأمريكية الذي يعد المستفيد الأكبر من المساعدات المالية الأمريكيةلأوكرانيا، بل إن أمريكا وحفاظا على مصالحها الوطنية أعلنت في المقابل على ضخ 15 مليون برميل من احتياطها الاستراتيجي من النفط في شرايين اقتصادها وسن قانون جديد لمحاربة التضخم من أجل تشجيع الاستثمار والشركات الصناعية، وهو ما يشكل إغراء مقصودا للشركات الأوروبية التي ستجد نفسها مضطرة لنقل أعمالها إلى التراب الأمريكي وهو ما أغاظ الكثير من الدول الأوروبية خاصة ألمانياوفرنسا. أمام كل هذه المسارات وتداعيات الأزمة الروسية الأطلسية هل لا زال بالإمكان القول إن أوروبا ما قبل هذه الأزمة هي أوروبا ما بعدها ؟ ، وهل ستستفيق أوربا من غفلتها وتعمل على استدراك أخطائها التي سقطت فيها بضغط أمريكي في تدبير هذه الأزمة من أجل إعادة التوازن لعلاقاتها الدولية والتخلص من الهيمنة الأمريكية بهدف الحفاظ على موقعها في النظام العالمي الجديد الذي بدأت ملامحه في التشكل وفق جميع الدارسين والمهتمين ؟. ام أن هذه الأزمة ستعمل على تسريع انفراط عقد الاتحاد الأوروبي الذي طالما اعتبر نموذجا للتكتلات القارية ؟ ، وبالتالي ستجد دول الاتحاد نفسها خارج ما سيطبخ في كواليس العلاقات الدولية بعد انتهاء الأزمة الأوكرانية، خاصة بعد ان تأكد أن روسيا تفوقت في تدبير هذا الصراع الجيو استراتيجي عسكريا وسياسيا واقتصاديا وظهرت 0ثاره العميقة في حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي التي تشهدها المجتمعات الأوروبية وما ترتب عن هذه الأزمة من شرخ عميق بين دول الاتحاد. إنها مجرد أسئلة مطروحة للمستقبل القريب والتي تعيدنا إلى مضمون الكلمة التي القاها بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن سنة 2007 حين أصر على ضرورة صياغة مفهوم جديد للأمن الجماعي تراعى فيه المصالح الاستراتيجية لكل الدول ، إنه مفهوم يستشرف مرحلة ما بعد الأحادية القطبية .