* زينب مركز اعتبر الخبير الاستراتيجي عبد الرزاق الزرايدي بن بليوط أن العالم يمر اليوم من فترة حرجة يحكمها صراع محموم حول الطاقة والقوة النووية والحرب الإلكترونية، فروسيا تقوّت خلال العشرين سنة الأخيرة وأصبح لها تأثير كبير في النزاعات. وأوكرانيا ليست الأولى، ففي بداية القرن الواحد والعشرين دارت رحى الحرب الثانية للشيشان بقيادة بوتين وانتصرت فيها روسيا وجعلت النظام في الشيشان تابعا للساسة في الكرملين، ثم جاء التدخل الروسي في جورجيا، وبعد ذلك تم ضم شبه جزيرة "قرم"، والاعتراف حاليا باستقلال الجمهوريات الانفصالية في أوكرانيا. ويخلص رئيس "رؤى فيزيون" إلى أن الهدف هو أن تصبح روسيا قوة في شرق ووسط أوروبا، لتدافع عن نفسها في مواجهة خطر الحلف الأطلسي.
انفجرت الأزمة الروسية الأوكرانية في زمن صعب، حيث هناك تحولات جيواستراتيجية كبرى سرع من وتيرتها وباء كوفيد. في أي سياق تقرؤون الهجوم الروسي على أوكرانيا، وما هو محرك روسيا لهذا الغزو؟ الأزمة الروسية الأوكرانية تأتي في سياق جد خطير، وظروف عالمية جد متوترة. حيث مازال العالم ينوء تحت تداعيات وباء كورونا على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والصحي. وتأتي أيضا في سياق يعرف فيه الاقتصاد العالمي ركودا وموجة غلاء للأسعار، لذلك يشكل هجوم روسيا على أوكرانيا بالنسبة لي زلزالا جيواستراتيجيا كبيرا، ستكون له آثار واضحة على إعادة توزيع الأوراق الجيواستراتيجية، كما أنه حدث جيوسياسي يمكن اعتباره الأكبر والأهم بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، وبعد جائحة كورونا تعتبر أخطر أزمة يعرفها العالم في القرن الحادي والعشرين لأن التداعيات يمكن أن تكون على الصعيد العالمي، وهذا كله لأن الرئيس بوتين يحاول أن يرجع أمجاد روسيا القيصرية وأمجاد الاتحاد السوفياتي. خارج المجد الشخصي والسلطة والهيبة، فحروب اليوم يجري في عصبها المال، أي الاقتصاد والمصالح أساسا… روسيا لها وزن جيوسياسي كبير في العالم وتُعتبر قوة عسكرية ضاربة، رغم أنها اقتصاديا تحتل المركز الثاني عشر في الاقتصاد العالمي من ناحية الدخل القومي الخام. والهجوم على أوكرانيا يأتي في سياق استعادة روسيا تأثيرها على الجمهوريات السوفياتية السابقة، وأوكرانيا تعتبر منطقة استراتيجية حيوية بالنسبة لروسيا، دون أن ننسى أن هناك علاقات تاريخية كبيرة عرقية ودينية بين الشعبين الروسي والأوكراني. وبالنسبة لروسيا، فهي في الحقيقة تحاول أن تدافع عن حدودها إذ لا يمكن أن يقبل بوتين أن تتحول أوكرانيا التي كانت حليفة تاريخية في إطار الاتحاد السوفياتي إلى صف العدو، والحلف الأطلسي بقيادة أمريكا. لكن لماذا الهجوم بالضبط في هذا الوقت؟ لأن روسيا تقوّت خلال العشرين سنة الأخيرة، وأصبح لها تأثير كبير في النزاعات عبر العالم. وأوكرانيا ليست الأولى، ففي بداية القرن الواحد والعشرين دارت الحرب الثانية للشيشان بقيادة بوتين وانتصرت فيها روسيا وجعلت النظام هناك تابعا لبوتين وللساسة في الكرملين. وبعد الشيشان كانت أزمة التدخل الروسي في جورجيا، وبعد ذلك ضم شبه جزيرة «القرم» ثم جاء كان الاعتراف باستقلال الجمهوريات الانفصالية لدونباسك ولوغانسك وهي أراض أوكرانية. الآن يتضح أنها خطة بعيدة الأمد، خطة ممنهجة من أجل قطع أوصال أوكرانيا كي تصبح روسيا قوة في شرق ووسط أوروبا، وهكذا ستكون بيدها جميع الأوراق كي تدافع عن نفسها ومواجهة خطر الحلف الأطلسي. إذن، هذا هو السياق. لماذا تدخل بوتين اليوم في أوكرانيا عسكريا؟ لأن روسيا تملك أوراق ضغط كثيرة يمكنها أن توجع الدول الأخرى. لأن روسيا لديها ثروات باطنية كثيرة من الغاز والبترول، فهي المنتج الأول للغاز الطبيعي في العالم، حيث يصل إنتاجها إلى 600 مليار متر مكعب، وهي أول مصدر للغاز الطبيعي في العالم بأكثر من 240 مليار متر مكعب، وأوروبا تستورد حوالي 40 بالمائة من حاجياتها من الغاز الطبيعي الروسي. وكذلك في ما يخص البترول، فهي تنتج 10 بالمائة من البترول في العالم بكمية تفوق 380 مليون طن، وتعتبر ثاني قوة تصديرية للبترول. إضافة إلى أن روسيا قوة عسكرية نووية عظمى، فهي أول دولة فيما يخص عدد الرؤوس النووية، كما أن لديها تجربة كبيرة في الحرب السيبيرانية أو الإلكترونية، ولها قوة ردع كبيرة، فقد تمكنت في إطار حرب الأنترنيت أن تفكك وتصل لمعلومات حساسة حول أعدائها في أمريكا أو الدول الأوروبية، أو الدخول في نزاعات كبرى. كما ثبت بأن تأثير روسيا في العقدين الأخيرين تكاثر وتعاظم، فكان لها دور كبير في التدخل في أزمة سوريا وهي التي ساندت الرئيس بشار الأسد كي يظل في الحكم، ودعمت قوات حفتر في ليبيا، وأيضا لها علاقات وثيقة مع إيران وعلاقات متينة مع الصين والهند ونفوذ وتأثير كبيرين في أمريكا اللاتينية. إذن، فقد استغلت روسيا هذا الوزن الجيوسياسي لها في العالم، وأرادت أن تعيد أمجادها لذلك غزت أوكرانيا كي تنصب حكومة تابعة لنفوذها وتمنع أوكرانيا من الانضمام للحلف الأطلسي، كي لا تشكل تهديدا للوجود الروسي. وأيضا كي تستعرض قوتها وتبين للاتحاد الأوروبي بأنهم إذا حاولوا أن يفكروا في أي تدخل للحلف الأطلسي بأوكرانيا فالآثار ستكون وخيمة على هذه الدول. هل يمكن الحديث عن تورط بوتين في المستنقع الأوكراني كما تورط سابقوه في أفغانستان، أم أن غزو أوكرانيا له سياق مختلف وأقل كلفة؟ أظن أن هناك فرقا كبيرا بين الغزو الروسي اليوم لأوكرانيا وبين غزو أفغانستان من طرف الاتحاد السوفياتي في ثمانينيات القرن الماضي. السياق مختلف والتأثيرات مختلفة وكذلك دلالات الغزو الروسي لأوكرانيا. هو حدث سيترك تأثيرات كبيرة وسيغير خريطة النظام العالمي، وسيجلب آثارا وخيمة على التعاون الدولي وعلى الدبلوماسية. روسيا تعتبر أن أوكرانيا صيد ثمين، وهذه بالنسبة لها أكبر عملية عسكرية تاريخية تقودها، باعتبارها دولة شاسعة تحتل موقعا استراتيجيا وجغرافيا كبيرا في وسط أوروبا، وهي كذلك تعتبر قوة عسكرية كثاني جيش في أوروبا، وتحتل المرتبة 22 في الترتيب العالمي من حيث القوة العسكرية. إذن روسيا وضعت جميع اهتمامها وقوتها في غزو أوكرانيا كمفتاح لتغيير الخريطة الجيوسياسية في أوروبا وأيضا كي تزيد من تأثيرها ووزنها في العالم. لكن ما هي التداعيات السيئة المحتملة على روسيا في هذا الغزو؟ المشكل الكبير والتداعيات الوخيمة على صورة روسيا وعلى النظام الشمولي لروسيا، هو أن هذه عملية غزو لدولة ذات سيادة، وهذا فعل صارخ ضد الأعراف والقوانين الدولية، يهدد النظام العالمي وجميع الهيئات العالمية كمنظمة الأممالمتحدة والمنظمات الإقليمية المعروفة، كما يهدد أيضا السلم والسلام في العالم ويعطي صورة قاتمة عن مستقبل العالم. وتدخل بوتين الذي يجمع بيده جميع السلطات بشكل شمولي في روسيا، يبين أننا أصبحنا نعيش في عالم خطير، أكثر من أي وقت مضى. لكن هذا النظام العالمي الذي تقول إنه يعيش خطرا بعد غزو روسيالأوكرانيا، هو ذات النظام الذي شهد إسقاط أمريكا لأكثر من نظام سياسي في العالم، عبر تدخل عسكري مباشر لقواتها في العراق وليبيا وسوريا اليوم، أما إذا عدنا إلى تدخلها العسكري لإسقاط نظام ديمقراطي في الشيلي وفنزويلا والباراغواي وغيرها، وخلق أنظمة دكتاتورية تابعة، ألم يكن خرقا للقانون الدولي والأعراف وتهديدا للمنظمات الأممية؟ بلى، فهيمنة الولاياتالمتحدةالأمريكية مع بروز النظام العالمي الوحيد منذ نهاية الحرب الباردة، خلق غياب توازن للقوى الدولية. وأنا لا يمكن أن أعتبر في كل الأحوال ما كانت تقوم به أمريكا في كل دول العالم، عملا حضاريا وأخلاقيا وباسم القانون الدولي، وأخشى أن يشتط بي التحليل بعيدا ولو أنه ليس لدي إلا حدس الخبير الاستراتيجي، بلا وقائع ولا معطيات ملموسة، لأقول لك إن حتى ما حدث من غزو روسي لأوكرانيا، قد يكون تدبيرا أو تواطؤا من أجهزة المخابرات الأمريكية (السي آي إي) تأديبا لأوروبا، التي تسعى للوحدة ومحاولة الاستقلال عن سطوة أمريكا، وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا، أما إنجلترا فقد فهمت اللعبة وانسحبت مبكرا من الاتحاد الأوربي. حسنا، لنعد إلى أضرار هذا الغزو المحتملة على روسيا ذاتها… تدخل روسيا سيجر تبعات أخلاقية وإنسانية، وسيترك آثارا وخيمة على العلاقات مع أوكرانيا وأوروبا على المدى البعيد. فالثمن الذي ستؤديه روسيا وبوتين جد باهظ، لأنه لا يمكن بالقوة العسكرية أن نفرض الأمر الواقع ونغزو دولا أخرى ونقتل أبرياء، وهذا يظهر بأن روسيا تكرس مبدأ أن «العالم يعيش في فوضى» وليس هناك وازع قانوني وأخلاقي وإنساني من أجل حلحلة المشاكل بين الدول. إذن هذا الفعل سيكون له ما بعده، وسيغير النظام العالمي بما فيه من تكتلات وتحالفات. كما أن روسيا ستدفع أيضا الثمن غاليا، لأنها ستتعرض لعقوبات اقتصادية موجعة ستجعل الشعب الروسي الذي يتعدى 144 مليون نسمة يعاني من الآثار الاقتصادية لهذه الحرب، مما سيزيد من تفقيره، وهنا، يظهر خطر المقاربة الشمولية على الأمن والاستقرار في العالم. وكذلك كانت هناك استثمارات كثيرة ومنها المشروع الضخم لنورد ستريم 2، الأنبوب الكبير الذي يأتي من سيبيريا عبر بحر البلطيق ويصل إلى ألمانيا، وهو المشروع الذي تطلب أكثر من سبع سنوات من الأشغال وصُرفت فيه أكثر من 13 مليار دولار. فقد توقف هذا المشروع مما سيشكل أزمة اقتصادية كبرى لألمانيا ولأوروبا وللعالم بأسره. إذن، هنا تظهر مقاربة الابتزاز والسلطوية، وهي مقاربة للأسف تُرسّخ أعطاب النظام العالمي الجديد الذي ليس فيه أي ضوابط أخلاقية ولا إنسانية وبأن القوي يستقوي على الضعيف وهذا يطرح أكثر من علامات استفهام على مستقبل الإنسانية. تبدو أوكرانيا كما لو أنها تعيش معزولة بلا مقاومة ولا سند، فهل هذه رسالة أمريكية للاتحاد الأوربي، خاصة فرنسا وألمانيا، بما أنك ألمحت إلى احتمال أن تكون الحرب الروسية ضد كييف «اختراع» مخابراتي أمريكي لتأديب أوروبا، لتبرز أنها الحامي الوحيد للعجوز الأوربي، وربما رسالة لفرنسا المتعنتة حسب الأمريكيين وردّ على الخط الثاني للغاز بين ألمانيا وروسيا؟ تماما، في هذه الأزمة أدت أوكرانيا الثمن غاليا لهذا الصراع الجيواستراتيجي والجيوسياسي بين روسيا والعالم الغربي. أوكرانيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وبدء المفاوضات مع أمريكا والقوى الغربية حول الوضع الجديد بعد انهيار حائط برلين، تم تجريدها من الذخيرة النووية، مقابل وعود المعسكر الغربي بحمايتها وكذلك مقابل وعود بأن روسيا لن تتدخل عسكريا ولن تمس أمنها، ولكن هذه الوعود كلها تبددت وأصبحت أوكرانيا على فوهة النار في الصراع بين روسيا والعالم الغربي، مادامت روسيا تحاول أن تعيد الأمجاد السالفة بعدما تقوّت بفضل القوة الجيوسياسية والقوة العسكرية وكذلك بفضل الطاقات المعدنية والطاقية. والمشكل أن أوكرانيا هُددت في سيادتها ووحدتها الترابية، حيث أن شبه جزيرة القرم احتلت بالقوة ولم تعد تابعة لها، وكذلك هناك النعرات الانفصالية في دونباس على الحدود، حيث أن هناك ميلشيات تابعة لروسيا تحاول أن تنفصل. كما أظهرت أزمة أوكرانيا ضبابية الاستراتيجية العسكرية للاتحاد الأوروبي وعلى رأسه ألمانيا وفرنساوإيطاليا وإسبانيا، حيث أن ألمانيا وفرنسا عارضتا انضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي في 2008 وكانت هذه ضربة موجعة لآمال أوكرانيا من أجل الدفاع عن مصالحها وضمان السلم والاستقرار والأمن القومي. واليوم، أصبحت أوكرانيا وحيدة في مواجهة روسيا، بعدما تخلى عنها العالم الغربي، أو لا تريد دوله أن تؤدي ثمن الدفاع عن الأمن القومي لأوكرانيا والوقوف حصنا منيعا ضد أطماع روسيا وضد طموح الرئيس بوتين لاسترجاع أمجاد الاتحاد السوفياتي. لنخض في هذا الجانب السيكولوجي لشخصية الرئيس بوتين الذي وصفه دونالد ترامب يوم الأحد الماضي ب»أنه رجل ذكي»، وتأثيرهذا على قراراته اليوم، ومنها غزو أوكرانيا… بالطبع لا يمكن فصل الجانب النفسي أو استبعاده في تفسير مواقف القادة السياسيين والعسكريين. بوتين جاء بعد بوريس يلتسين الذي هوى بروسيا إلى الحضيض. قوة وشخصية الرئيس بوتين الفريدة، الذي يحاول أن يُرجع لروسيا هيبتها وقوتها، وبعد تكوينه يفسران جوانب مما يحدث في هذا الغزو الروسي لأوكرانيا. إذ بالعودة إلى مساره المهني نجد أن بوتين تدرج في سلك المخابرات الروسية، وهو على علم بالصراع الأبدي بين العالم الغربي وروسيا، وهو مُخطّط استراتيجي ورجل حرب، أثبت لحد الآن أنه في الطريق الصحيح لتثبيت قوة روسيا في مواجهة الحلف الأطلسي والولاياتالمتحدةالأمريكية. والخاسر الأكبر في هذه العملية للأسف الشديد هو الشعب الأوكراني والسلم في أوروبا. لا ننسى أن الرئيس بوتين كان مسؤولا بجهاز (الكي جي بي) كضابط في ألمانيا الشرقية، عاش أزمة انهيار الاتحاد السوفياتي وكان شاهدا على سقوط جدار برلين، وهذا جعله يشعر بالإهانة في ذلك الوقت وبانهيار العنفوان الروسي وسمعة الاتحاد السوفياتي آنذاك، ولن ينسى أنه حين أصبح رئيسا لروسيا في بداية القرن 21 تقدم بطلب رسمي للانضمام إلى الحلف الأطلسي، ورُفض طلبه، وقد كان هذا أكبر خطأ استراتيجي لل»ناتو»، وبالخصوص حين أبدى بوتين استعداده للتعاون مع الغرب في الحرب ضد الإرهاب، ولكن لم يتم القبول به، كما تم رفض فكرته حول إنشاء سوق أوروبية مشتركة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، وهذا كله جعل بوتين يشعر بالإهانة والذل مما دفعه إلى تغيير استراتيجيته في محاولة أن يعتمد على القوة الداخلية ليعيد أمجاد روسيا. تبدو أكبر مهزلة في هذا الغزو هي وضعية الاتحاد الأوربي الذي أصيب الزعماء فيه بدوخة كبرى؟ فعلا، بينت هذه الأزمة ضعف الاتحاد الأوروبي وضبابية شعاراته، فظهر كقزم عسكري رغم قوته الاقتصادية، ولا يريد قادته أداء ثمن السلم ولا يريدون خوض حرب مع روسيا من أجل أوكرانيا. وفي نفس السياق يبدو أن الرابح الأكبر في هذا النزاع العسكري بين روسياوأوكرانيا هي الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي لم تكن تنظر للعلاقات الاقتصادية والاندماج الاقتصادي بين روسيا وأوروبا، وبالخصوص مع ألمانيا حيث هناك مشاريع استثمارية كبيرة توقفت، بعين الرضى، وهذا في صالح واشنطن لأنها تسعى بكل الوسائل لمنع هذا الاندماج الاقتصادي بين روسيا وألمانيا وبالخصوص في مجال الطاقة. والخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه بوتين هو أنه لم يحسب أن هذا الغزو لأوكرانيا سيمكن الولاياتالمتحدةالأمريكية من إقناع ألمانيا والدول الغربية بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، وإبعاد المعسكر الأوروبي من دائرة تأثير موسكو. هذه الحرب أيضا درس لألمانيا وفرنساوإيطاليا وإسبانيا بشأن الاكتفاء الذاتي الاستراتيجي، وبينت هذه الأزمة أيضا بأن أوروبا ما زالت تحتاج للولايات المتحدةالأمريكية من أجل أمنها الاستراتيجي والقومي. إذن، هذه الحرب لديها كذلك تبعات إيجابية بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية، هي في صالح البعد الاستراتيجي البعيد المدى للولايات المتحدة، التي كرست قوتها في الحلف الأطلسي وتأكدت بأن الدول الأوربية ستحسب ألف حساب وستكون مضطرة للاصطفاف بجانب أمريكا لمواجهة العملاق الروسي. إذن يمكن أن يقول الناس بأن هذا كله تخطيط من أمريكا وأنا لا أستبعد هذا الطرح فعلا، فكل المعطيات تبدو أنها لصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية رغم أن روسيا ستنتصر وستبسط سيطرتها على أوكرانيا، ولا ننسى أنه في قلب النجاح الروسي لا يوجد فلاديمير بوتين لوحده، بل يوجد ثعلب السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية سيرجي لافروف الذي اكتسب خبرة دولية وراكم تجربة دبلوماسية إلى جانب الكبار في قلب المحافل الدبلوماسية الأممية. هل يضع الهجوم الروسي نهاية لسياسة النظام ذي الهيمنة الوحيدة ويعيد القطبية للصراع الكوني، خاصة مع دعم الصين لروسيا؟ فعلا، كما قلنا، فالهجوم على أوكرانيا هو حدث مفصلي، زلزال جيواستراتيجي سيغير خريطة العالم ويعلن بداية نظام عالمي الجديد، بمعطيات وتحالفات جديدة. هذا الهجوم كحدث عسكري كبير يبين أن العالم ستصبح فيه أقطاب متعددة، مع صعود الصين وصعود روسيا التي سيكون لها موقع كبير. إذن العالم أصبح عالم الرؤية غير الواضحة، حيث سيصبح قطب أمريكا ومعها الدول الأوروبية خصوصا بريطانيا وألمانيا ودول الناتو من جهة، إلى جانب حلف آخر لأمريكا في بحر الصين والمحيط الهادي، حيث هناك تحالف استراتيجي كبير بقيادة أمريكا وأستراليا وبريطانيا واليابان، لمواجهة القوى الصاعدة وردع قطب جمهورية الصين الشعبية. إذن هناك صراعات كبيرة على الريادة والقيادة، وأنا أقول أن العالم سيتشكل من ثلاثة أقطاب، قطب تقوده أمريكا وقطب تقوده الصين، وهناك كذلك روسيا ودول أمريكا اللاتينية الصاعدة والقوية، ولا يجب أن ننسى الهند. فهناك إعادة لخلط أوراق نظام العالم، والذي يبدو الآن أنه نظام غير مستقر وغير عادل. وقد بينت هذه الأزمة نهاية المنظمات الدولية كمجلس الأمن والأممالمتحدة والمنظمات العالمية المعروفة. وأظن أن هذا هو الوقت المناسب لإعادة رسم أسس أخرى لنظام العالم الجديد، ولكن على ما يبدو أن العالم سيمر من فترة حرجة وخطيرة يحكمه الصراع المحموم حول مصادر الطاقة والقوة النووية والحرب الإلكترونية، لذلك فالدول الضعيفة ستؤدي الثمن غاليا وستعرف أزمات اجتماعية خطيرة. روسيا قوة عسكرية، لكنها ليست قوة اقتصادية، لأنها تعيش على نظام الاكتفاء الذاتي، هل يمكن اعتبار تورطها في أوكرانيا بمنزلة استنزاف لبوتين أم هو فرصة للعودة إلى أمجاد روسيا القيصرية أو روسيا السوفياتية؟ تعتبر روسيا قوة عسكرية جيواستراتيجية عظيمة. فهي الثالثة عالميا، وعسكريا هي الثانية بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية، واقتصاديا هي القوة رقم 12 في العالم. يعني أنها دولة متوسطة اقتصاديا، ولكن عقيدة الرئيس بوتين بُنيت على روح أن يعيد أمجاد روسيا، غير أن المجهود العسكري والمخابراتي لم يقابله مجهود من أجل الاندماج في الاقتصاد العالمي. نقطة ضعف روسيا حاليا هي أنها اقتصاديا وماليا ليست لديها القوة كي تتحكم في العالم، لذلك ستبحث في مستقبل الأيام عن حلفاء جدد كالصين والهند من أجل تقوية اقتصادها لتنافس الدول الغربية. هذا هو التحدي الروسي لأن القوة العسكرية لا تواكبها قوة اقتصادية، وهذا هو السؤال المطروح على الساسة وعلى الاستراتيجيين في روسيا، ولا أظن في القريب العاجل أن روسيا ستتمكن من الاندماج ومن تغيير أسس اقتصادها، لأن ذلك يتطلب تغييرا في المنظور الفكري وفي الباراديغم الاستراتيجي، من أجل الاندماج في الاقتصاد العالمي وهذا ما لا يبدو ممكنا حاليا في الأفق القريب على الأقل. ذهب تقرير لمعهد رورمبرغ الأمريكي إلى أن الجزائر هي أكبر مستفيد من هذه الحرب، ما تأثير ذلك على التوازن الإقليمي وحدة الصراع بين المغرب والجزائر؟ أنا لست متفقا مع هذا التقرير الأمريكي، لأن القدرة الإنتاجية للجزائر في ما يخص إنتاج الغاز الطبيعي قدرة محدودة. الجزائر لا تعتبر دولة قوية في مجال الإنتاج والتصدير في العالم، ولديها مشاكل فنية وتقنية، فلا يمكن أن تُعوض النقص الذي سيحدثه غياب الغاز الروسي في السوق، لأن القدرة التصديرية للجزائر لا تتعدى 40 مليار متر مكعب، و95 بالمائة منها تذهب لدولتين هما إيطاليا وإسبانيا. المزود الكبير لإيطاليا من الغاز الطبيعي هي الجزائر، ففي سنة 2021 اشترت إيطاليا حوالي 20 مليار متر مكعب من الغاز الجزائري والباقي من الإنتاج يذهب إلى إسبانيا، التي تأخذ تقريبا ما بين 15 و17 مليار متر مكعب. إذن الجزائر لا تستطيع أن تكون البديل، وهذا بشهادة وزير الطاقة الجزائري وبشهادة المدير العام لسونطراك الذي قال بأن البلاد لا يمكنها أن تعوض الغاز الروسي في الأسواق العالمية، فلها محدودية فنية في ما يخص استخلاص وتوسيع الطاقة الإنتاجية. على الصعيد الدبلوماسي فالجزائر في وضع لا تُحسد عليه لأنها فقدت قوتها الدبلوماسية ولديها أوضاع اقتصادية كارثية وحراك شعبي ومتاعب داخلية، بالإضافة إلى مشكل الحكامة. وهي تعتبر، بالنسبة لأوروبا، بعد أزمة الغاز المار من المغرب، شريكا لا يمكن الوثوق به. إذن أظن بأن ليس هناك ربح استراتيجي أو جيوسياسي أو عسكري في الأزمة الحالية، بل بالعكس، فهي لم تبد لحد الآن أي موقف رسمي بخصوص غزو روسيالأوكرانيا، ولا أظن أن الجزائر ستربح في المنطقة، بل أرى خفوتا لها على الصعيد الإقليمي والإفريقي والعربي والعالمي.