يصف عبد النبي صبري أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي بجامعة محمد الخامس بالرباط الغزو الروسي الذي بدأ يوم الخميس الماضي بالخميس الاستراتيجي الأسود في منطقه البحر الأسود" لأن روسيا عندما تدخلت، قبل أشهر، في هذه المنطقة الحساسة بالنسبة لها و لأوكرانيا و لأوروبا أيضا، فان السؤال الذي طرح آنذاك هو: ماذا لو حصل غزو روسي لأوكرانيا؟ هناك من استبعد حصول ذلك. لكن، بعد حصوله بالفعل، نطرح سؤال ما بعد الغزو. و في هذا الصدد يشير صبري إلى وجود إشكال مرتبط بهذا الغزو، و المتعلق باستخدام روسيا لإستراتيجية الإلهاء الدولي، فعندما أمرت بعض الحشود العسكرية بالتراجع، اعتقد بعض الخبراء و بعض الدول أيضا أن روسيا يمكنها التراجع عن الحل العسكري وتفضيل الحل الدبلوماسي. لكن، ما وقع لم يكن في الحسبان، إذ احتلت روسياإقليم دونباس وأقاليم أخرى. والسؤال المطروح بهذا الخصوص: كيف سيتعامل الغرب و أمريكا مع هذا الغزو الروسي؟ في قراءة لما جرى، وحسب المعطيات الجيواستراتيجية، يستنتج أستاذ القانون الدولي أن روسيا اليوم لا تستهدف من الغزو الحصول على ضمانات لأمنها القومي فقط، بل تريد أكثر من ذلك وهو إعادة ترتيب الأوراق على الصعيد العالمي وإعادة النظر في بنية الهيمنة العالمية، فهي تريد إذن إحياء أمجاد الاتحاد السوفيتي السابق، تريد إرباك الغرب الذي تخلى عن وعوده في نظرها… فبعدما تفكك الاتحاد السوفياتي نهاية القرن الماضي، وخروج روسيا، الدولة الوصية عليه، منكسرة، عولت آنذاك على وعود الغرب في تحقيق بعض أمانيها وعلى رأسها عدم تمدد حلف الشمال الأطلسي في أوكرانيا وشرقها، كما أن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن طلب من حلف الشمال الأطلسي السماح لتركيا بالانضمام إليه، لكن، رفض بعض الدول كان سببا في ظهور الأزمة الأوكرانية منذ ذلك الحين. فالتلويح إذن بانضمامها لهذا الحلف يضمر نية مبيتة لإرباك الحسابات الجيوسياسية لروسيا، و يشكل خطرا على أمنها القومي. هكذا، تظافرت كل الشروط لقيام روسيا بهذا الغزو متحججة بما يعانيه الموالين لها في إقليم دونباس من مضايقات من طرف النظام الأوكراني، ناهيك عن التمييع الذي حصل في استعمال القوة خارج الضوابط الدولية و القانونية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، و الذي شرعته الدول الكبرى، فأصبحت القطبية الأحادية تشكل تهديدا بل و خطرا على الجميع. تداعيات الغزو الروسي…. بالنسبة لتداعيات الغزو الروسي، فإن أول ملاحظة يقف عندها الأستاذ صبري في هذا الصدد هي تغير المعطيات. ففي الأمس القريب، وبعدما لجأ الروس إلى تكتيك الإلهاء، اختلفت قراءة ذلك. في الوقت الذي صرح فيه الرئيس الأمريكي بايدن أن روسيا ستغزو أوكرانيا لا محالة، وأن تفعيل ذلك يبقى مسألة وقت فقط، فإن بعض الدول الأوروبية تهاونت في قراءة الواقع أو في الاستفادة من استخباراتها. وبعدما تم الغزو بالفعل، صرحت بأنه كان على أمريكا أن تتقاسم معها المعلومات في حين أن أمنها القومي مهدد و الأجدر هو الاعتماد على نفسها في توفير هذه المعطيات. هكذا، تصير، حسب الأستاذ صبري، جملة من الأسئلة مشروعة: فكيف ستتعامل الدول الأوروبية مع هذا الغزو بعدما أصبح واقعا؟ هل على منوال غزو جزيرة القرم أم ستسلك أسلوبا آخر يتناسب مع هذا الاعتداء العسكري؟ يقول الأستاذ صبري أن الكل أمام امتحان عسير، فالعقوبات لن تربك روسيا اقتصاديا، و الشواهد التاريخية خير دليل على انكفاء أوروبا و هزيمتها بهذا الخصوص، فروسيا تعلمت من دروس العقوبات، و في مواضع مختلفة، سواء في غزو القرم أو بفعل علاقتها مع إيران، أو في جورجيا…فاستعمال نفس أسلوب العقوبات، غير مجد بل ستتمكن روسيا و حلفاؤها أو ما يمكن تسميته بمحور الديكتاتوريات من تنفيذ أهدافه، و سيتهافت محور ما يسمى بالديمقراطيات، و ستتهافت معه القطبية الأحادية الحالية و تتغير فيه الهيمنة العالمية و موازين القوى. ولا ننسى أن هذه الحرب ونتائجها ستطال أيضا الدول أوروبا الشرقية السابقة التي كانت تعيش في كنف الاتحاد السوفياتي السابق، فهذه الدول تعول على وعود الغرب وتمزج جراء ذلك بين الاشتراكية والليبرالية، لكنها ستغير موقفها لا محالة اتجاه أوروبا الغربية بعد موقفها المتواضع اتجاه أوكرانيا. فهل نحن إذن أمام عالم جديد بدا في التشكل؟ عالم يضم قوى جديده من قبيل الصينروسياالهند، دول من أمريكا اللاتينية، يبدو إن الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة لم يستطيع منذ زمن توفير سياسة دفاعية مشتركة حقيقية، ويعول عن أمريكا لحماية أمنه، هذا مشكل حقيقي تواجهه أوروبا الآن والذي يتكرس على المستوى السياسي أيضا، فهي لا تتوانى أيضا في سياساتها الخارجية من أن تحذو حذو أمريكا و اتباع نهجها.هكذا، و كما استغلت روسيا الوهن الأوروبي في شبه جزيرة القرم، تستعمله أيضا حاليا خاصة بعد انسحاب أمريكا من أفغانستان و تخبطها في مشاكل اقتصادية و معاناتها من عقبات داخلية و أخرى خارجية، فالظاهر، إذن، الروس سيذهبون بعيدا في هذا المنحى خاصة أمام انكفاء حلف الشمال الأطلسي و تمدد روسيا فعليا بالحرب، و بعد اعتراف أمريكا باستقلال دونيتسك و غيرها قبل الغزو، و موقف الأممالمتحدة الذي، بفعل حق الفيتو الروسي، غير صيغته من الإدانة إلى التأسف، و استجداء روسيا بالتوفيق عن الحرب. باختصار، يعتبر صبري أن الغزو الروسي للقرم منذ 8 سنوات، و التعامل المتواضع لأوروبا معه، جعل شهية روسيا مفتوحة على الكثير من الأهداف، أفضلها درجة هو وضع نظام موال لها في أوكرانيا على غرار دول أخرى مثل بيلاروسيا، و أكثرها سيظهر في حالة استمرار الغرب في خذلانه، بترك أوكرانيا لمصيرها، لأن العالم سيشهد تحولات جيو استراتيجية لا فيما يخص مصير النظام العالمي و لا فيما يهم الآثار الوخيمة على أوروبا التي كانت جبلا اقتصاديا و سياسيا لتصير سفحا و مجرد فج يسهل انتهاك حرمته، كما أن هذه الحرب، و كذا ملامح موازين القوى الجديدة التي هي قيد التشكل، سترخي بظلالها على العالم بأسره خاصة إذا طال أكد هذه الحرب و أرخى بظلاله على أسعار المحروقات.