تتجه الأنظار مؤخرا للحرب الروسية الأوكرانية خاصة مع آخر المستجدات المتمثلة في قرار البرلمان الروسي تأييد إجراء استفتاء في منطقة الدونباس ومناطق أخرى تقع جنوب و شرق أوكرانيا من أجل الانضمام إلى روسيا، وهي المستجدات التي جعلت الغرب الأطلسي يكتفي بالتنديد لا غير بهذه الخطوة التي أملتها تطورات العملية العسكرية على الأراضي الأوكرانية. إنها خطوة إلى الأمام في مجرى الصراع الذي فرضه الدعم اللامحدود الذي يوفره الغرب الأطلسي للجيش الأوكراني، سواء من حيث المساعدات المالية التي تقدر بعشرات الملايير من الدولارات أو بالاسلحة المتطورة أو بالمساعدة التقنية الميدانية، بما فيها المعلومات الاستخباراتية التي تلتقطها الأقمار الاصطناعية الأميركية حول تحرك الجيش الروسي، وهو ما أعطى إمكانية إحداث خرق جزئي في منطقة خاركيف مؤخرا، وهو الخرق الذي كان مطلوبا بشدة من طرف أمريكا والحلف الأطلسي لإقناع الراي العام الأوروبي والأمريكي بجدوى استمرار الدعم لأوكرانيا، مع مطالبته الشعوب الغربية بمزيد من تحمل تبعات ارتفاع مستويات التضخم بشكل غير مسبوق، وما ينتج عنه من ارتفاع لأسعار المواد الاستهلاكية والطاقة نتيجة العقوبات الغربية على روسيا، خاصة بعد أن بدأت المجتمعات الأوربية تعبر عن امتعاضها من سياسات حكومات بلدانها، ومطالبة شرائح واسعة من هذه الشعوب حكومات بلدانهم العودة إلى العلاقات الطبيعية مع روسيا ورفع العقوبات عنها. لكن إن كان هذا الخرق المحدود قد سوقه الإعلام الغربي كانتصار استراتيجي لأوكرانيا بموازاة الدعم اللامشروط واللامحدود الذي يقدمع الحلف الأطلسي وأمريكا، فإن موسكو اعتبرته انتقالا خطيرا لمستوى العملية العسكرية التي حاولت دائما ابقائها في إطار العملية الخاصة في منطقة الدونباس، دون الدفع بها الى مستوى الحرب الشاملة على أوكرانيا، وبالتالي الدفع بروسيا إلى الرد بقوة نارية كبيرة على مواقع القوات الأوكرانية، وذلك باعتراف وول ستريت جورنال. وخوفا من توسع هذه العملية عمدت أمريكا وبعض قيادات الأطلسي إلى القول إن روسيا قد تضطر إلى استعمال أسلحة نووية تكتيكية في شرق أوكرانيا، بل وذهب الرئيس الأمريكي بايدن إلى تحذير روسيا من مغبة استعمال مثل هذه الأسلحة، هذا في الوقت الذي تغض فيه الطرف بمعية الأوروبيين عن الاستهدافات المتكررة للجيش الأوكراني لمحطة زاباروجيا النووية. يبدو إذن أن ما تم التخطيط له داخل أروقة الحلف الأطلسي من أجل وضع موسكو في الدائرة الضيقة وإظهارها بمظهر المنهزم على الأقل أمام أنظار الرأي العام الأوروبي والأمريكي لم يكن مفكرا في نتائجه بشكل جيد، ولم تتم قراءة ما قد يترتب عن مثل هذه الخطوة بشكل رصين من تبعات وجودية على الدولة الأوكرانية نفسها، بل وما قد تعتمده روسيا من وسائل ترفع من خلالها مستوى الصراع إلى مستوى الحرب الشاملة مع الغرب الأطلسي بموازاة خطوات سياسية هجومية تهم الداخل الأوكراني. كما أن الغرب الأطلسي وفي سياق ترويجه المبالغ فيه عبر ماكيناته الإعلامية الدعائية عن الصعوبات الميدانية التي تلاقيها القوات الروسية في أوكرانيا نتيجة للدعم اللامحدود الذي يقدمه لها، يظهر جليا مكامن الفرق في وجهات النظر والتكتيكات المتبعة من كل طرف إزاء هذا الصراع الذي اعتبره الغرب منذ البداية صراعا استراتيجيا علاقة بحجم الدعم المقدم لأوكرانيا وحجم العقوبات المفروضة على روسيا التي لم يشهد لها العالم مثيلا، في مقابل ما اعتبرته روسيا عملية عسكرية تكتيكية وخاصة لحماية سكان منطقة الدونباس ذوي الأغلبية الروسية من الحرب التي تشنها عليهم القوات الأوكرانية منذ سنة 2014 وذلك في خرق سافر لاتفاقيات مينسك بدعم مكشوف من أمريكا وصمت الدول الأوروبية الضامنة للاتفاق. استحضر هذه المعطيات لتبيان حجم الفرق بين تصورين للصراع الذي يفيض وفق هذه المعطيات على الجغرافيا الأوكرانية ليأخذ بعدا دوليا يؤسس لمرحلة ما بعد الاحادية القطبية، فالصراع في بدايته حسب التصور الروسي كان ينحصر في توجيه رسالة محدودة في المكان والزمان لأمريكا وحلفائها تعبر من خلالها عن امتعاضها من لامبالاة الغرب لمطالبها الأمنية على حدودها الغربية واستعدادها للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية، لكن بالنسبة للحلف الأطلسي كان تصورها منذ البداية استراتيجيا ومخططا له وفق ما تضمنه الميثاق القومي للولايات المتحدةالأمريكية الذي اعتبر روسياوالصين مصدر تهديد استراتيجي لأمنها القومي رغم بعدهما عنها بآلاف الكيلومترات، وذلك حتى قبل اندلاع هذه الأزمة المفتعلة، وعملت منذ مدة على حصار روسيا بتوسيع قواعد الحلف شرقا حيث شكلت أوكرانيا الحلقة الاخيرة في هذه الاستراتيجية الأطلسية ضدا على كل التطمينات الأمريكية التي أعطيت لغورباتشوف في هذا الشأن سنة 1991. وانسجاما كذلك مع مفهومها للصراع الذي تضمنه ميثاقها القومي اشتغلت أمريكا في بحر الصين على تقويض الحل وفق مبدأ الصين الواحدة الذي طالما اعلنته وذلك بمد تايوان بأحدث الأسلحة مع دعم وتشجيع القوى الانفصالية في الجزيرة وهو ما اعتبره الخبراء في السياسة الدولية خروجا من الغموض الاستراتيجي الذي اتسم به الموقف الأمريكي من مبدأ الصين الواحدة الذي أقرت به منذ أواخر السبعينات . لكن كما يقول المثل الشعبي المغربي" لفراس الجمل فراس الجمالة ".فإن روسيا الاتحادية راقبت هذه الخطوات الاستفزازية ،وحذرت منها مرارا وتكرارا قبل ان تعلن عن قرار التدخل العسكري في 24 فبراير 2022 الذي رغم كل شيء،ىونظرا للعلاقات التاريخية بين الشعبين الأوكراني والروسي، أعلنتها عملية عسكرية محدودة كإشارة للغرب الأطلسي و لحكومة كييف، دون أن تلجأ إلى إعلان الحرب الشاملة ضد أوكرانيا تفاديا لسقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين وتجنبا للدمار الهائل الذي قد يصيب البنيات التحتية الأوكرانية وذلك أسوة بما فعلته أمريكا بالعراق أو كما فعل الحلف الأطلسي بليبيا ويوغوسلافيا سابقا. لكن ما لم يكن في حسبان أمريكا والغرب بعد الخرق العسكري الرمزي الذي أحدثته أوكرانيا على جبهة خاركيف بمساعدة قوية من دول الحلف الأطلسي، هو ردة فعل روسيا التي اتخذت قرارات سياسية وعسكرية سيكون لها ما بعدها ، أولها هو تأييد عملية استفتاء شعب الدونباس ومناطق أخرى في الشرق والجنوب الأوكراني للانضمام للاتحاد الروسي، وهي الخطوة التي ستقتطع أجزاء واسعة من أوكرانيا، هذا مع العلم أن أقاليمها الغربية بدورها موضوع مطالب تاريخية لكل من رومانيا وبولونيا والمجر وهو ما يهدد بتفكك أوكرانيا كبلد موحد في حدوده المعروفة سنة 1991. كما أن الخطوة السياسية الروسية لازمتها خطوات عسكرية بإعلان التعبئة الجزئية للجيش الروسي، مع الاستعداد لنقل مستوى الصراع إلى حرب شاملة على كييف ومن خلالها الغرب الأطلسي دون اللجوء إلى الأسلحة التكتيكية النووية كما يروج له الغرب، الذي يهدف من خلالها إلى شيطنة روسيا أمام الرأي العام الدولي، وذلك لسبب بسيط يقره جميع الخبراء العسكريين يشير إلى امتلاك روسيا ترسانة تقليدية ضخمة كفيلة بتدمير أوكرانيا وجميع البنيات التحتية العسكرية والمدنية، التي استثنتها من ضرباتها لحد الساعة، بالشكل الذي سيستحيل معه تحرك الجيش الأوكراني ومنع أي إيصال للدعم العسكري الغربي إلى كييف ولكل الخرجات الدعائية لزيلينسكي . كما أن نقل الصراع إلى مستوى الحرب الشاملة بموازاة مع خطوات انضمام المناطق الجنوبية والشرقية الأوكرانية إلى الاتحاد الروسي، سيخضع بالضرورة هذه المناطق للعقيدة النووية الروسية بالشكل الذي يجعل من أي هجوم عليها من طرف الحلف الأطلسي بمثابة هجوم على روسيا. إن ما ينطبق على الصراع في شرق أوروبا ينطبق ولو بحدة أقل لحدود الساعة على الوضع في بحر الصينالجنوبي، رغم أن بوادر التفجير متوفرة ليأخذ الصراع شكل المواجهة الاستراتيجية بين الصينوأمريكا، وبالتالي يجد العالم نفسه أمام وضع تتوحد فيه الجبهات بين روسياوالصين من جهة، وأمريكا والغرب الأطلسي من جهة أخرى. خلاصة: إن الصراع العسكري في أوكرانيا في صيغته العملية العسكرية الخاصة، يمكن اعتباره الخطوة الأولى في مرحلة تصادم القوة بين روسيا والغرب الأطلسي الذي أخذ طابع جس النبض لموازين القوة المتصادمة. لكن وفي غياب الحل السلمي بعد رهن كييف لقرارها السياسي بالإرادة الأطلسية الامريكية، ومع إصرار الغرب على إذلال روسيا رغم تحذير كيسنجر من ذلك، واستمرار الدعم اللامحدود لأوكرانيا التي قبلت أن تقاتل من أجل أمريكا حتى آخر اكراني كما قال جون بايدن. وبعد كل هذه التطورات السياسية والاقتصادية والعسكرية والعقوبات الجماعية المفروضة على روسيا وكذا التصعيد الخطير الذي يشهده الوضع في بحر الصينالجنوبي، يمكن القول إن الصراع انتقل الى مرحلة المواجهة الاستراتيجية في إطار وحدة الجبهات الذي يهدد بقيام حرب عالمية ثالثة قد تعرض البشرية للفناء، نظرا لما راكمته التكنولوجيا النووية و الذكاء الصناعي من تطور خطير لدى القوى المتصارعة وذلك ما لم يراجع الغرب خطواته المتهورة والسعي للجلوس مع كل من روسياوالصين كشركاء من أجل التفكير الهادئ في صياغة مفهوم جديد للأمن الجماعي يراعي المصالح المشتركة للشعوب والدول، بما فيها تلك النامية او الصاعدة بقوة في شرق وغرب وجنوب الكرة الأرضية . أقول قولي بعد أن القت روسيا بكرة الجمر في ملعب الغرب الأطلسي بخطواتها السياسية والعسكرية والاقتصادية الجديدة و كذلك وبعد التطورات العسكرية الأخيرة في مضيق تايوان و مطالبة الرئيس الصيني قواته العسكرية بالاستعداد للقتال الحقيقي مع إجراء مناورات عسكرية مشتركة مع القوات الروسية في المحيط الهادي، وذلك بما يتماشى وميثاقها القومي الذي يجعل من الصين الواحدة نقطة ارتكاز في عقيدتها النووية، هذا مع التأكيد على أن أي مخرجات لحل هذا النزاع العالمي لن يكون إلا على حساب أوكرانيا التي قد تفقد جزءا كبيرا من أراضيها، هذا إن لم تمحى من الخريطة كليا نظرا للمطالب الترابية التاريخية لكثير من البلدان المجاورة لها .وهو في اعتقادي ما يمكن اعتباره نتيجة طبيعية للتدبير السيء للنظام السياسي في كييف الذي قبل أن يلعب دور الكومپارس في صراع جيو استراتيجي لا مصلحة فيه للشعب الأوكراني الذي تربطه علاقات تاريخية واجتماعية واقتصادية قوية بالشعب الروسي، وذلك بدل التزام موقع الدولة المحايدة المتعددة الشراكات مع جيرانها في الشرق والغرب. كما أنه لا مناص للغرب الأطلسي ولجزيرة تايوان من الخضوع لمبدأ " الصين الواحدة " كخيار أوحد لمخرجات الحل الاستراتيجي.